أزمة فولكسفاغن ـ صناعة السيارات الأوروبية في عين الإعصار
٢ نوفمبر ٢٠٢٤أعلن مجلس إدارة شركة فولكسفاغنأن ثلاثة من معامله مهددة بالإغلاق وبالتالي خطر فقدان عشرات الآلاف من العاملين لوظائفهم. وكان للإعلان وقع الصدمة وإن لم يكن مفاجئا بالنسبة لخبراء العارفين بالقطاع "لقد كان هذا الوضع مُتوقعًا منذ عدة أشهر"، وفق ما صرحت به هيلينا فيسبرت، مديرة مركز أبحاث السيارات في دويسبورغ، في تصريح لموقع "تاغسشاو دي.إي" التابع للقناة الألمانية الأولى (28 أكتوبر/ تشرين الأول 2024) ففي شهر سبتمبر الماضي، ألغت الشركة ضمان العمل الذي كان قائمًا منذ حوالي ثلاثين عامًا. غير أن فيسبرت أوضحت أن "هذه تخفيضات قاسية للغاية. لم نرَ حتى الآن مثل هذه التخفيضات الكبيرة إذا حدثت بالفعل". ويذكر أن فولكسفاغن توظف ما لا يقل عن مائة وعشرين ألف عامل في عموم ألمانيا، بات عشرة ألف منها مهددا.
من جهته، أكد رئيس معهد إيفو الاقتصادي في ميونيخ، كليمنس فويست، أن أزمة فولكسفاغن "خطيرة جدًا"، معتبرا أنه تم تأجيل المشاكل في الشركة "لفترة طويلة". وأشار في حوار نقله موقع "مانجر" الاقتصادي (31 أكتوبر) عن برنامج "مورغن ماغازين" لقناة "زي.دي.إف"، إلى أن التحول إلى النقل الكهربائي يعني بالضرورة تقليل عدد الوظائف في صناعة السيارات التي تعمل بالمحركات الحراري. ووفقا لبيانات مجلس إدارة فولكسفاغن، فإذا استمر الوضع على ما هو عليه وتراكمت الخسائر، فقد تكون هناك مزيد من المصانع المهددة بالإغلاق. وإجمالاً، هناك عشرة مصانع إنتاج للشركة في البلاد.
هل تأخرت ألمانية في الاستثمار في زمن البحبوحة؟
تواجه ألمانيا أزمة اقتصادية ملحوظة في الوقت الحالي، حيث تتأثر البلاد بعدة عوامل لها تداعيات سلبية على النمو والاستثمار. وتعتبر هذه الأزمة نتيجة لتراكمات عديدة، منها تبعات جائحة كورونا، ارتفاع تكاليف الطاقة، والتوترات الجيوسياسية في أوروبا. واحدة من القضايا الرئيسية التي ساهمت في تفاقم هذه الأزمة هي سياسة الحكومة الألمانية المتمثلة في تجنب العجز في ميزانية الدولة. أو ما يسمى بـ"الصفر الأسود" لفترة طويلة، مما أدى إلى تقليص الإنفاق العام في مجالات حيوية مثل البنية التحتية والابتكار. هذا التوجه ساهم في تقليص الاستثمار في القطاعات التي تحتاج إلى تحديث وتطوير، مما أثر سلبًا على القدرة التنافسية للاقتصاد الألماني. وتعتبر الاستثمارات أحد المحركات الأساسية للنمو الاقتصادي، وعندما تكون الحكومة حذرة جدًا في الإنفاق، فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض حاد في الاستثمارات الخاصة أيضًا.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "دي تايد" البلجيكية (29 أكتوبر) "تدفع ألمانيا اليوم ثمن الارتجال لسنوات عديدة، حيث لم تُشجع السياسات الحكومية الاستثمار بشكل كافٍ. حتى عندما كانت الأموال متاحة بكثرة، تمسكت برلين بإصرار بعقيدتها التقليدية حول "الصفر الأسود" أي تجنب أي عجز في الميزانية (..) سياسة الاستثمار غير الكافي لها علاقة بنقص الشجاعة وغياب الابتكار. كانت الشركات الألمانية المصنعة للسيارات تعتقد في تفوق تكنولوجيا الديزل الخاصة بها. ومع ذلك، أصبحت الآن مهددة من قبل شركة تسلا وعدد من الشركات الصينية المصنعة للسيارات الكهربائية. لسنوات عديدة، سخر الألمان من الخطط الجريئة المزعومة لإلون ماسك، ولكن في مصنعه في غرينهايده، تقوم تسلا الآن بتصنيع سيارة في عشر ساعات، أي ثلاثة أضعاف سرعة فولكس فاجن. ويصف البعض ألمانيا مجددًا بأنها "الرجل المريض في أوروبا"، كما عنونت المجلة البريطانية "ذا إيكونومست" عام 1999. ومع ذلك، من المبالغة إصدار مثل هذا الإنذار. فلا يزال الاقتصاد الألماني يقوم على أساس متين وقادر على تحمل بعض الصدمات. ولكن البلاد تحتاج بشكل عاجل إلى التحلي بالشجاعة لإجراء الإصلاحات اللازمة للعودة إلى مستوى عالٍ من المنافسة."
أزمة فولكسفاغن ـ الشجرة التي تغطي الغابة
على الورق، تبدو فولكسفاغن في وضع جيد حتى الآن، ففي عام 2023، حققت الشركة رقمًا قياسيًا جديدًا في إيراداتها بلغ حوالي 332.3 مليار يورو، مما يعكس زيادة بحوالي 15.5 في المئة. كما سجلت أكبر شركة سيارات في أوروبا زيادة في الأرباح أيضًا، حيث نما الربح بين 2022 و2023 ليصل إلى حوالي 22.58 مليار يورو. غير أن الشركة تفتقر إلى آفاق النمو، خاصة في سوق آسيا، الذي يعد مهمًا، حيث بدأت الطلبات تنخفض بسرعة مطردة. السوق الصينية وحدها، كانت تستوعب ثلث سيارات فولكسفاغن، ففي الربع الثاني من عام 2024، تراجعت الطلبيات بمقدار الخمس في الصين، ولا يمكن لسوق السيارات الأوروبية وحده تعويض هذا النقص.
ويرى المراقبون أن الضغط التنافسي من الشركات الصينية وغيرها من الشركات الأجنبية في صناعة السيارات سيزداد بشكل أكبر. ويفيد الخبراء بأن فولكسفاغن لم تتكيف بشكل جيد مع التحول نحو التنقل الكهربائي والأنظمة الرقمية الأكثر ابتكاراً.
دور السياسة الألمانية والأوربية في الأزمة
لقد تعرضت فولكسفاغن لضغوط شديدة من الحكومات الأوروبية بشأن سياساتها البيئية، مما زاد من تكاليف الإنتاج وهدد ربحيتها. إضافة إلى التوترات التجارية العالمية، بما في ذلك الصراعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي أثرت على سلاسل التوريد وزادت من عدم الاستقرار. كما أن التغيرات في الطلب على السيارات التقليدية بسبب التحول نحو السيارات الكهربائية ساهم في إعادة تقييم استثمارات الشركة، مما اضطرها إلى التفكير في إغلاق بعض المعامل التي لم تعد قادرة على التكيف مع هذه التغيرات.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" (30 أكتوبر معلقة "إذا حدث شيء خاطئ في فولكسفاغن، فهذا معناه أن هناك شيئًا خاطئًا في ألمانيا وأوروبا. يُتوقع أن يوجه السياسيون اللوم إلى إدارة الشركة، وهذا عن حق. فهي لم تتعاف بعد بعد من الأضرار التي لحقت سمعتها وماليتها بسبب فضيحة ديزل، حينما تأكد أنها تُثبت برنامجًا في السيارات لتجاوز اختبارات انبعاثات الغاز. التكاليف المرتفعة للعمالة، المدعومة من نقابة قوية بالتعاون مع الحكومة في ولاية سكسونيا السفلى، التي تمتلك 20 في المئة من الأسهم، ليست مفيدة. ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من اللوم يقع على عاتق السياسيين، خاصة بسبب سياستهم المناخية. إن صناعة السيارات الألمانية محاصرة بين ارتفاع أسعار الطاقة، التي تزيد من تكاليف الإنتاج، واللوائح الخاصة بالسيارات الكهربائية، التي تعيق المبيعات. فولكسفاغن تنهار عمليا تحت هذا الضغط".
صناعة السيارات ـ حرب مفتوحة بين أوروبا والصين
فرض الاتحاد الأوروبي رسوما جمركية على واردات السيارات الكهربائية الصينية اعتبارا من 30 أكتوبر 2024، بعد فشل المحادثات بين بروكسل وبكين في إيجاد حل ودي لنزاعهما التجاري. وأصبحت السيارات الكهربائية نقطة خلاف رئيسية في نزاع تجاري أوسع نطاقا بشأن تأثير الدعم الحكومي الصيني على الأسواق الأوروبية وارتفاع صادرات بكين من التكنولوجيا الخضراء إلى التكتل القاري. وستظل هذه الرسوم سارية لمدة خمس سنوات، ما لم يتم التوصل إلى حل ودي. وبحسب المفوضية الأوروبية، قفزت مبيعات السيارات الكهربائية الصينية من 9.3 % من سوق السيارات الكهربائية في عام 2020 إلى 25% بحلول سبتمبر/أيلول .2023 وسيتم فرض رسوم جمركية بنسبة 17% على السيارات التي تصنعها شركة "بي واي دي" الصينية، و8.18 % على تلك التي تصنعها شركة" جيلي" و3.35 % على السيارات التي تصدرها شركة "سايك" المملوكة للدولة الصينية.
وبهذا الصدد انتقدت صحيفة "نويه تسوريخرتسايتونغ" (السادس من أكتوبر) "لن تُفرض هذه الرسوم فقط على المركبات التي تحمل علامات تجارية صينية، بل أيضًا على سيارات تسلا التي تُصنع في الصين. من المفهوم أن يرى الاتحاد الأوروبي ضرورة فرض الرسوم الحمائية، حيث تدعم بكين بشكل كبير شركاتها المصنعة للسيارات الكهربائية من أجل احتلال الأسواق العالمية. في الماضي، أدت الصين بهذه الطريقة إلى تدمير صناعة الطاقة الشمسية الأوروبية. ونظرًا لعدم تمكن الصينيين هذه المرة من لعب الدول الأوروبية ضد بعضها البعض، تُظهر بروكسل أيضًا قوتها ككتلة اقتصادية. لكن للأسف، فإن هذه الرسوم تحمل دلالات متناقضة: فهي تضر بالمستهلكين وأهداف المناخ للقارة العجوز. كما أنها تشير إلى أن صناعة السيارات الأوروبية التي كانت فخورة في السابق تحتاج الآن إلى حماية حكومية. وهذا أيضًا علامة على الضعف."
أزمة الصناعات الأوروبية ـ تحديات المنافسة ومتغيرات السوق
تواجه صناعة السيارات الأوروبية أزمة حادة نتيجة التغيرات السريعة في سوق السيارات العالمية، خاصة مع تصاعد المنافسة من الشركات الصينية. وتُعتبر الصين اليوم رائدة في تطوير السيارات الكهربائية والتقنيات الحديثة، مما يضغط على الشركات الأوروبية لتسريع التحول نحو الابتكار والاستدامة. تعاني المصانع الأوروبية من ارتفاع تكاليف الإنتاج وضرورة الامتثال لمعايير بيئية صارمة، مما يضعها في موقف صعب أمام الأسعار التنافسية للمنتجات الصينية. بالإضافة إلى ذلك، يعزز الدعم الحكومي الكبير للصناعات الصينية من قدرتها على تقديم سيارات ذات جودة عالية بأسعار منخفضة، مما يُهدد حصة السوق الأوروبية. يتطلب هذا الوضع استراتيجيات جديدة للتكيف مع المتغيرات والتوجه نحو الابتكار للحفاظ على تنافسية الصناعة.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "ليزيكو" الاقتصادية الفرنسية (14 أكتوبر) معلقة "تعتبر هذه صناعة السيارات صناعة مركزية للغاية، لدرجة أنها تستحق كل الاهتمام من قبل المسؤولين السياسيين. لكن بدلاً من دعم هذه الصناعة، قررت أوروبا بشكل عشوائي ودون أي تقييم للتبعات، باسم الضرورة البيئية، في عام 2018 فرض الانتقال الإجباري من السيارات التي تعمل بالبنزين إلى السيارات الكهربائية على جميع الشركات المصنعة في القارة العجوز. كنا بحاجة إلى دعم لرؤية استراتيجية، لكننا فضلنا الإكراه الأيديولوجي. والآن ندفع ثمن ذلك".
ح.ز