"أشعر في المنفى وكأنني مبتور الذراع"
دويتشه فيله: سيد ياسين، أنت تعيش في باريس منذ ثلاثين عاما. كيف أثر فيك المنفى كاتبا وإنسانا؟
جبار ياسين: المنفى يأخذ من الكائن الإنساني الكثير ويعطيه القليل. ربما يعلمه الصبر وأن القدر لا يمكن صناعته دائما وكذلك السيطرة على مشاعر الحنين. ولكنه يأخذ منه كل ما هو صميمي، على سبيل العلاقات الإنسانية والمكان الأول والبيت الأول والأصدقاء والعائلة والتقاليد. أنا عشت في المنفى وكأنني مبتور الذراع وكان شيء ينقصني. أنت تعرف أن الأشخاص الذين يعانون من نقص أحد أعضائهم الجسدية، يشعرون بنقص هذا الجزء. مع مرور الوقت يصبح المنفى عادة ويخلق الناس حولهم عالما صغيرا من الأصدقاء والأماكن ومن الذكريات كذلك، ولهذا يمكنني القول إن المنفى يتحول إلى طبيعة ثانية، فليس هناك من حل للمنفى، فهو مرض لا يمكن علاجه حتى بالعودة. عدت بعد سقوط صدام إلى العراق، ولكن حياتي خلقها هذا الإيقاع اليومي في المنفى ويمكن تشبيهه بمرض لا شفاء منه.
دويتشه فيله: إلى جانب هذا الوصف الذي قدمته، يمكن القول إن هذا المرض حفز كثيرين نحو الإبداع، ولنتذكر الكاتبين الألمانيين بيرتهولت بريشت وتوماس مان الذين كتبوا أعمالا أدبية كثيرة في المنفى، فما دور المنفى في أعمالك؟
جبار ياسين: في الحقيقة أن معظم كتاباتي تعالج إشكالية المنفى ووحدة المنفي وتجذره في المنفى، أي خلق العالم البديل أو عالم الذكريات. إذاً عدد كبير من رواياتي تعالج هذه الإشكالية. فعلى سبيل المثال رواياتي القادمة تحمل عنون "آخر المنفيين" وآمل أن أكون أنا آخر المنفيين. كما يقول سيرون للمنفى مزايا عديدة، فنحن نتعلم لغة أخرى وندخل في علاقة جديدة ولكن ثمن هذه العلاقة كبير جدا، فالمنفي يشعر يوميا بالاقتلاع ويشعر يوميا باغترابه عن العالم وبوحدته وبوحدة لا تطاق وخاصة عندما يكون المنفى مبكرا، أي كما في حالتي، فإنا تركت العراق وأنا في سن العشرين، إذا فقد أصبحت كائنا مزدوجا، أي لي نظير آخر في داخلي ويجب علي كل يوم أن أجمع بين هذين النقيضين وهنا تكمن الإشكالية.
دويتشه فيله: إلا يمثل هذا إثراء أو نوعا من الإثراء؟
جبار ياسين: نعم. في الحقيقة أنني أعتقد أن تاريخ الأدب هو تاريخ للمنفى فمعظم الأدباء والكتاب هم أدباء منفى، وكما قلت أنت، كان للمنفى الألماني دور مهم في أعادة تشكيل الذهنية الأدبية الألمانية والكتاب الذين أثروا الأدب الألماني بعد الحرب، انطلقوا من تجربة الكتاب الألمان المنفيين خلال الحقبة النازية. الحال التي يمر بها العالم العربي في الوقت الحاضر هي شبيهة بالحال التي مرت بها ألمانيا. هناك ظاهرة منفى في الأدب العربي اليوم.
دويتشه فيله: التساؤل عما حدث ومراجعة الذات كانت أحد أهم أهداف الكتاب الألمان بعد الحرب ومن هنا كان سقوط النازية بمثابة ولادة جديدة للأدب الألماني أنجبت جيلا جديدا من الكتاب مثل هاينريش بول وغونتر غراس. كيف تقيم المشهد العراقي الآن وهل تلمح بداية أدب جديد صادق لا يلتمس الأعذار يكشف عن أسباب الطغيان والاستبداد أم أن الوقت في العراق لم يحن بعد لإجراء محاسبة كهذه؟
جبار ياسين: لا يتعلق الأمر بالوقت، حسب رأيي. ربما هناك حالة أو حالتين أو ثلاثة حالات تسائل فيها بعض الكتاب العراقيين عما حل بالعراق وكيف وما الذي قاد بلادهم إلى هذه الحالة. إن عملية المحاسبة لم تحدث لغاية الآن في الأدب العراقي. ويرجع السبب في ذلك إلى أن معظم الأدباء العراقيين لم يعودوا إلى بلادهم وحالتي لا تختلف عن حالتهم. أنا عدت للعمل في بلدي وحاولت تنشيط الحركة الثقافية مع زملائي العراقيين. ولكن عملية القطع ما زالت قائمة. أما الجانب الآخر فيتعلق بأن المجتمع العراقي عاش حالة ساد فيها العنف والعنصرية وثقافة الدولة الواحدة وعبادة الفرد، ولهذا فإن المجتمع العراق غير قادر على مناقشة بعض الأشياء، بل يبدو لي أن هذا المجتمع يعيش مرحلة عودة إلى قيم مثل العشائرية والمذهبية والقومية. ولهذا فإن هذه المراجعة لم تتم لغاية الآن، لأن المجتمع العراقي مغلق وما زال يعيش حالة صدمة وحداد.
دويتشه فيله: متى سيحين الوقت؟
جبار ياسين: عندما يكون هناك ديمقراطية في العراق. حينما يشعر المضطهدون أن أسباب اضطهادهم قد كشفت وأن المسؤولين عن عذاباتهم قد جُرموا وعندما يشعرون كذلك بأن العالم قد اعترف بعذاباتهم. العراقيون ما زالوا يتوقعون أن الفترة الدكتاتورية سترجع. عندما يظهر نظام ديمقراطي جديد يعطيهم حقوقهم، ستبدأ مرحلة فكرية جديدة.
أجرى الحوار: سمير جريس
جائزة " كاتب عبر الحدود" هي جائزة أدبية تمنحها المدينة الإيطالية تريستا بالتعاون مع نادي القلم العالمي وسبق لكتاب مشهورين مثل أومبيرتو إيكو وأمين معلوف أن حصلوا عليها