1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

"أصعب شيء هو انتظار الموت" ـ محنة عائلة غزاوية خلال الحرب

١٩ نوفمبر ٢٠٢٥

قبل حرب إسرائيل وحماس، عاش الفلسطيني ياسر الغلاييني حياة هادئة في مدينة غزة مع زوجته وجيهة المريضة وابنهما عمار، إلى أن غيرت الحرب كل شيء: قصف، خوف، جوع، نزوح متواصل...DW رصدت معاناة الأسرة على لسان ياسر نفسه.

لقد مر ياسر الغلاييني وعائلته بمحنة رهيبة - صورة له في منطقة الزوايدة عام 2024
مر ياسر الغلاييني وعائلته بمحنة رهيبةصورة من: Yasser Al-Ghalayini/DW

كان يوما شتويا باردا في يناير/كانون الثاني 2013 عندما وصل ياسر إلى العمل. كان ياسر، بصفته مساعد الطاهي في مطعم أحد الفنادق، مشغولًا بإعداد وليمة زفاف. وكانت وجيهة هناك للاحتفال باليوم الكبير لابنة عمها، مستمتعة بالطعام والموسيقى والاحتفالات. كانت وجيهة على وشك بلوغ سن 18 عاما، ولم تكن تفكر أبدا في الزواج.

ولكن في تلك الليلة، في طريق عودتها إلى المنزل، شهدت ما وصفته لاحقا بأنه "أجمل" صدفة. وكما شاء القدر، كان ياسر ينهي نوبته في نفس الوقت. "تبادلنا نظرات الإعجاب. بدت جميلة جدا"، كما يتذكر ياسر، "بعد شهرين، تقدمت لخطبتها"، وقد احمر وجهه وهو يشارك الذكرى. في أبريل/نيسان، تزوجا، وفي العام التالي، رُزقا بابنهما الأول.

 

ذلك "اليوم الأسود" من عام 2023

بعد سبع سنوات، شُخِّصت وجيهة، وهي الآن ربة منزل، بسرطان الغدة الدرقية. تطلب علاجها السفر المتكرر إلى القاهرة والعودة لتلقي العلاج باليود المشع، لأنه لم يكن متوفرا في غزة.

"على الرغم من كل الصعوبات، حاولنا الحفاظ على روتين عائلتنا"، كما يشرح ياسر، حتى جاء ما أسماه ذلك "اليوم الأسود" في 7 أكتوبر 2023 - وهو اليوم الذي شنت فيه  حماس  هجومها الإرهابي على إسرائيل.

تطلب علاج وجيهة من السرطان السفر المتكرر إلى القاهرة والعودة لتلقي العلاج باليود المشع، لن الحرب حالت دون سفرها. صورة من: Yasser Al-Ghalayini/DW

"في ذلك الصباح، كان عمار يستعد للذهاب إلى المدرسة، مرتديا زيه المدرسي وحاملا حقيبته"، كما يتذكر ياسر. لكن بعد ذلك، "دوّت أصداء الانفجارات في جميع أنحاء المدينة". أُلغيت الدراسة، وبدأت "الأخبار المروعة تتدفق"، كما يتذكر ياسر. لأيام، سيطر الخوف على أفراد العائلة وهم يشقّون طريقهم وسط الفوضى. ثم، في 13 أكتوبر/تشرين الأول، أمر الجيش الإسرائيلي بإجلائهم الفوري  إلى الجنوب.

 

15 شهرًا من النزوح

يقول ياسر (36 عاما) وهو يتذكر هروبهم: "تركنا كل شيء خلفنا".

كان القصف متواصلا، حيث انطلقوا مع بزوغ الفجر في سيارتهم الصغيرة. وصلوا في النهاية إلى  مخيم النصيرات للاجئين، حيث ذهب ياسر لجمع المؤن. ولكن أثناء مغادرته، أصابت قنبلة منزلا قريبا. رأى من خلال الدخان ما بدا أنها ثلاث أو أربع جثث، إلى جانب العديد من الجرحى. ويضيف: "بعد ذلك، أصبحت رؤية الجثث في الشوارع مشهدا طبيعيا حيثما ذهبت".

وجدت العائلة مأوى مؤقتا في منزل أحد أقاربها، والذي، على الرغم من كونه نعمة، إلا أنه شكّل أيضا تحدياته الخاصة. يقول ياسر: "كان المنزل مكتظا، يستضيف أكثر من 100 شخص - رجال ونساء وأطفال - جميعهم نازحون مثلنا، يبحثون عن أمان لم يعد موجودا". لم تكن هناك كهرباء ولا ماء ولا دواء ولا خصوصية.

أمل ياسر الوحيد هو أن تتمكن وجيهة من استئناف علاجها، وأن يتمكن عمار من العودة إلى المدرسة، وأن يتمكنوا يوما ما من العيش في سلام مرة أخرى.صورة من: Yasser Al-Ghalayini/DW

وعندما نفد الغاز، كان ياسر يطبخ على موقد المخيم باستخدام الحطب. كان يخبز الخبز في أفران طينية قديمة الطراز، وكانت وجيهة تغسل ملابسهم في دلاء. كافح عمار لمواكبة دروسه عبر الإنترنت، التي كانت تنقطع باستمرار بسبب انقطاع الإنترنت. ويشير ياسر بالقول: "أصبحت المدارس ملاجئ للنازحين، مليئة بالأطفال الذين فقدوا كتبهم وأحلامهم".

في 18 أكتوبر/تشرين الأول، تلقوا المكالمة المروعة. "استُهدف منزل عائلة زوجتي في  مدينة غزة، واستشهد 18 فردا من عائلتها، بمن فيهم والدها ووالدتها وشقيقتها وشقيقها وزوجته وأطفالهم".

ويتذكر ياسر: "كانت الصدمة لا تُحتمل". انهارت زوجتي. تدهورت صحتها النفسية والجسدية. لم نتمكن من العثور على دواء أو أطباء، لأن المستشفيات كانت مكتظة.

وبعد أكثر من شهرين، أمرهم الجيش الإسرائيلي بالانتقال جنوبا إلى "منطقة آمنة" في مخيم المواصي في خان يونس. أطاعوا على مضض، منهكين وخائفين - لعلمهم أن الناس قد قُتلوا بالفعل في ما يسمى بالمناطق الآمنة.

بعد عدم العثور على مأوى، نام ياسر وزوجته المريضة وابنهما في السيارة، وانضمت إليهم والدة ياسر وشقيقته. لم يكن لديهم سوى الضروريات الأساسية، كانوا يفتقرون إلى الطعام والماء والصابون والشامبو ومعجون الأسنان والفوط الصحية، معتمدين على لطف السكان المحليين حتى في أبسط احتياجاتهم. قال ياسر: "لقد عشنا أياما لا تُنسى من الحرمان".

حاول ياسر وزوجته طوال فترة الحرب والنزوح الحفاظ على بعض مظاهر الحياة الطبيعيةصورة من: Yasser Al-Ghalayini/DW

وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة، حرصت العائلة على إحياء المناسبات الخاصة، والاحتفال بأعياد الميلاد والذكرى السنوية معا. "خبزنا كعكة بسيطة بمكونات قليلة جدا، فقط للتمسك بشعور الحياة"، يوضح ياسر. "لأن التمسك بالأمل كان ضرورة".

وفي أوائل عام 2024، تمكن ياسر من العثور على شقة صغيرة في رفح، جنوب القطاع، وباع سيارته لتغطية الإيجار. وعلى الرغم من الظروف الصعبة، بدا الأمر وكأنه خطوة صغيرة نحو الاستقرار.

وبعد فترة وجيزة، تمكنت والدته وشقيقته من الفرار عبر  معبر رفح الحدودي  إلى القاهرة، ودفعتا مبلغ 5000 دولار لكل منهما لسمسار مصري مقابل المرور. ولحق بهما شقيقه وعائلته بعد ذلك بوقت قصير، لكن ياسر لم يستطع تحمل تكلفة إخراج عائلته.

 

كأنها "ولادة جديدة بعد موت طويل"، لكن..

مع استمرار تدهور صحة وجيهة، تقدم ياسر بطلب للحصول على علاج طبي عاجل لرعايتها في القاهرة. رُفض طلب العائلة بالسفر معا - سُمح فقط لوجيهة بالسفر، لكنها رفضت المغادرة بمفردها. يتذكر ياسر أنها قالت ودموعها تنهمر: "لا حياة لي بدونكم؛ إذا متُّ، أريد أن أموت بينكم".

بعد ثلاثة أشهر،  نفدت أموال ياسر، وطُردت العائلة. أوصلهم صديق إلى مدينة الزوايدة بوسط القطاع، حيث نصبوا خيمة على ممتلكات أقاربهم. وعلى مدار الأشهر السبعة التالية، تحملوا ظروفا قاسية، وقطعوا مسافات طويلة لجلب الماء والطعام والدواء. ثم، في 27 يناير/كانون الثاني 2025، سمحت هدنة إنسانية لمئات الآلاف من الفلسطينيين بالعودة إلى شمال غزة. بالنسبة لياسر، فقد شعر بتلك اللحظة وكأنها "ولادة جديدة بعد موت طويل"، على الرغم من أن رحلة العودة استغرقت أربع ساعات. يقول: "كان أمل العودة إلى مدينتنا الحبيبة أقوى من أي ألم".

ولكن عندما عاد ياسر ووجيهة وعمار، لم يجدوا سوى الأنقاض. يتذكر ياسر: "كان الهواء مملوءا برائحة الحزن والرماد. لقد نُهب منزلنا ودُمر جزئيا".

بعد فترة وجيزة من التنظيف وإصلاح الأثاث وإيواء الأصدقاء الذين فقدوا كل شيء، صُدم ياسر بما حدث بعدها. يشرح: "استيقظنا في ساعات متأخرة من الليل على هدير الطائرات الإسرائيلية التي تقصف في مكان قريب". عادت الحرب، ومُنعت جميع المساعدات الإنسانية من دخول القطاع.

 

"وحلت علينا المجاعة"

يقول ياسر: "خلال شهر رمضان، شهر الرحمة، حلت علينا المجاعة". ارتفع سعر الكيلوغرام الواحد من الدقيق إلى 30 دولارا، مما أجبرهم على البقاء على قيد الحياة على وجبة واحدة فقط في اليوم لمدة ستة أشهر تالية. بدأت أجسادهم في الذبول، وعانت وجيهة من نوبات. "كل يوم، كنت أذهب إلى أماكن بعيدة وخطيرة في بعض الأحيان، فقط للحصول على جرعة من الدواء أو بعض الطعام، لكن ذلك لم يكن كافيا أبدا"، روى ياسر.

تمكن ياسر وعائلته من العودة أخيرا إلى منزلهم المدمر في غزةصورة من: Yasser Al-Ghalayini/DW

في 10 سبتمبر، تلقوا أمر الإخلاء التالي. هذه المرة، بقوا لبضعة أيام أخرى فقط، مدركين أنها قد تكون الوداع الأخير. ولكن عندما أصبح القصف لا يطاق، فر ياسر وعائلته مرة أخرى - سيرًا على الأقدام، إلى المجهول.

ساروا جنوبا إلى دير البلح، حيث اضطر ياسر إلى تقاسم تكاليف شقة مع صديق، حيث ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل كبير. ساهم الأقارب في المساعدة، لكن الأموال التي حولوها تم فرض عمولة بنسبة 40٪ عليها. جاء وقف إطلاق النار التالي في 10 أكتوبر.

أمل العائلة الوحيد هو العيش بسلام 

غمرت الراحة ياسر وعائلته، فعادوا إلى مدينة غزة - ليواجهوا واقعا مفجعا. يقول ياسر: "كان حجم الدمار أكبر من أي شيء رأيته من قبل". حول منزلهم، وحتى على السطح، كانت هناك قذائف مدفعية غير منفجرة.

قامت فرق الدفاع المدني في النهاية بتطهير المنطقة، ولكن بينما كان ياسر ينظر حوله، لم ير سوى الأنقاض. كان من الواضح أن إعادة بناء هذا سيستغرق سنوات، وحتى ذلك الحين، لن يتمكنوا إلا من استعادة شظايا من حياتهم السابقة.

يقول: "أصعب شيء على الإطلاق هو أن نعيش كل لحظة منتظرين الموت". على الرغم من أن  الحرب قد هدأت إلى حد كبير، إلا أن المعاناة ازدادت سوءًا. أمل ياسر الوحيد هو أن تتمكن وجيهة من استئناف علاجها، وأن يتمكن عمار من العودة إلى المدرسة، وأن يتمكنوا يوما ما من العيش في سلام مرة أخرى.

أعده للعربية: ف.ي (ع.ج.م)

يشار إلى أن إسرائيل تمنع الصحفيين الدوليين من الوصول الحر والكامل إلى غزة. لم يتمكن بن فايزولين، مراسل DW، من التواصل مع ياسر الغلاييني عبر الهاتف إلا بشكل متقطع خلال الأسابيع القليلة الماضية لسرد قصته، وذلك بسبب انقطاع الإنترنت والكهرباء.

بن فايزولين مذيع ومراسل في DW، يغطي الأخبار العاجلة والشؤون العالمية والقضايا الاجتماعية.
تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW

المزيد من الموضوعات من DW