إنقاذ الحياة في المتوسط.. مهمة تنتظر تعاون الشمال والجنوب!
٢٤ يونيو ٢٠٢٥
على شاطئ مدينة سرت الليبية، كان مختار الرماش، صياد في الأربعينات من عمره، يستعد لرحلة صيد جديدة بقاربه البلاستيكي المهترئ. ينشر شباكه الممزقة التي أنهكها الوقت وكثرة الاستخدام، ويشير إلى سطح البحر المليء بالنفايات قائلاً "هذه الشباك لم تعد تصطاد سوى البلاستيك. كأننا ننظف البحر بدل أن نأخذ منه رزقنا".
لكن مشكلة مختار لا تنتهي عند التلوث البلاستيكي، إذ يشير إلى تهديد أكبر تمثّله قوارب الجرّ الكبيرة القادمة من دول مجاورة، والتي تصطاد بكثافة وتترك خلفها بحرًا مستنزفًا.
القلق مستمر
في حديثه إلى DW عربية يقول مختار: إن القوارب الكبيرة لا تترك شيئًا خلفها، "يصيدون كل شيء، حتى الأسماك الصغيرة التي لم يكتمل نموها.
البحر يُكنس يوميًا، وإذا لم تُفرض قوانين صارمة، سيتحول المتوسط إلى منطقة بلا حياة." ثم يضيف وهو يشير إلى جهة الغرب: "من تاجوراء إلى جنزور، المياه ملوثة بالصرف الصحي ومخلفات المصانع. التلوث قضى على الإسفنج وقلّل وفرة السمك. ننتظر من المسؤولين تحركًا حقيقيًا، لأن ما يحدث ليس طبيعيًا، بل تدمير مستمر لمورد رزقنا الوحيد".
ويشير مختار إلى أن أعمال الردم العشوائي على امتداد الشواطئ غيّرت طبيعة البيئة البحرية، ما أثر مباشرة على الأنواع القاعية من الأسماك. "بعض هذه الأسماك كانت تعتمد على تشكيلات محددة في القاع. الآن اختفت بيئتها الأصلية، ولم تعد تجد مكانًا مناسبًا للبقاء أو التكاثر."
ورغم محاولات الصيادين التواصل مع الجهات المختصة، يؤكد مختار أن الاستجابة غائبة تمامًا. "أرسلنا مراسلات ورفعنا مطالب، لكن دون أي رد. أحيانًا نشعر وكأن ليبيا لا تطل على البحر المتوسط أصلًا."
ويختم حديثه قائلًا: "نمتلك واحدًا من أطول السواحل في المنطقة، ومع ذلك نستورد الأسماك من الخارج. هذا الواقع غير منطقي، ويستدعي مراجعة حقيقة من قبل الدولة."
وغير بعيد عن ليبيا، لا يبدو الوضع مختلفًا على السواحل المصرية. في منطقة بحري بمدينة الإسكندرية، جلس الحاج عبد النبي، وهو صياد في الستينات من عمره، على الرصيف بجوار قاربه يتفقد شبكته التي خفّ فيها الصيد على نحو ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
وأشار عبد النبي إلى شبكته الخالية، قائلاً: "في السابق كنا نعود بمئة كيلوغرام من السمك، أما اليوم فلا نحصل إلا على عشرة، وأحيانًا لا نعود بشيء على الإطلاق."
وقال بنبرة يملؤها الاستياء من السفن الكبيرة التي تدخل أعماق البحر وتترك وراءها مياهًا ملوثة وتغيّر مسارات التيارات البحرية "السفينة الواحدة تصطاد أكثر مما يستطيع جميع الصيادين المحليين صيده مجتمعين، ومع ذلك لا نجد من يستجيب لنا أو يستمع إلى شكوانا."
في الجزائر، أشارت تقارير بيئية محلية إلى الاستنزاف المتواصل للثروة السمكية نتيجة الصيد الجائر، خاصة لصغار أسماك السردين على سواحل الغرب الجزائري. وتُقدّر الكميات التي تُصاد سنويًا من ما يُعرف بـ"بذور السردين" بأكثر من 1300 طن.
ويؤكد باحثون أن هذه الأسماك التي يقل طولها عن 11 سنتيمترًا تُصاد خارج الأطر القانونية، ما يُسهم في تدهور المخزون السمكي في البحر المتوسط.
كما أن استمرار هذا النمط من الصيد يحرم الأسماك الأكبر من الغذاء ويُعرّض المنظومة البيئية البحرية للخطر، في ظل غياب رقابة فعالة وتشريعات صارمة تحُد من هذه الممارسات.
تحديات متشابكة
و تعيش دول شمال إفريقيا واقعًا بحريًا هشًا، يواجه فيه الصيادون تراجعًا حادًا في المخزون السمكي، وارتفاعًا في التلوث، وتغيرات مناخية تؤثر على التيارات البحرية والأنواع السمكية.
لكن التحدي لا يقتصر على الجنوب. دول الشمال المتوسطي تواجه بدورها ضغوطًا بيئية، وتحديات ترتبط بالهجرة البحرية، وتداخل المصالح الاقتصادية.
بينما يواجه الصيادون في الساحل الجنوبي للمتوسط تدهورًا متسارعًا في بيئتهم البحرية ومعيشتهم اليومية، كانت أنظار المجتمع الدولي تتجه إلى مدينة نيس الفرنسية، التي استضافت في 9 يونيو/ حزيران 2025 قمة الأمم المتحدة الثالثة للمحيطات.
في هذه القمة، عرضت مصر خطة وطنية تتمحور حول ترميم بحيرات إدكو والمنزلة، إنشاء حواجز طبيعية بطول يفوق 70 كيلومترًا لحماية السواحل، وتقليص استخدام البلاستيك بإطلاق مسؤولية ممتدة لكل منتجي الأكياس البلاستيكية .
كما أعلن وزير البيئة ياسمين فؤاد عن مشاركة الصيادين في برامج تدوير المخلفات ومراقبة جودة المياه، مؤكدًا أن "حماية المتوسط لم تعد خيارًا بيئيًا بل ضرورة اجتماعية واقتصادية"
قدّمت مصر خطة وطنية تتمحور حول ترميم بحيرات إدكو والمنزلة، إنشاء حواجز طبيعية بطول يفوق 70 كيلومترًا لحماية السواحل، وتقليص استخدام البلاستيك بإطلاق مسؤولية ممتدة لكل منتجي الأكياس البلاستيكية .
كما أعلن وزير البيئة ياسمين فؤاد عن مشاركة الصيادين في برامج تدوير المخلفات ومراقبة جودة المياه، مؤكدًا أن "حماية المتوسط لم تعد خيارًا بيئيًا بل ضرورة اجتماعية واقتصادية"
أما المغرب، فقد استعرض رؤيته خلال "قمة أفريقيا من أجل المحيطات"، التي نُظمت بالتنسيق بين المغرب وفرنسا على هامش قمة نيس. وقد ترأست وزيرة الصيد البحري زكية الدريوش الجلسة المخصصة لمناقشة التحديات البحرية في القارة، مؤكدة التزام المملكة بتعزيز تقنيات الصيد المستدام، ودمج المجتمعات الساحلية ضمن سياسات الاقتصاد الأزرق.
كما أعلنت عن شراكات موقعة مع المنظمة البحرية الدولية، تهدف إلى تشديد الرقابة على أنشطة السفن الصناعية في مياه البحر المتوسط.
أما الجزائر، فقد أعلنت عن مشروع رقمنة مراقبة نشاط الصيد وربط موانئها بأنظمة تتبع إلكترونيّة، بالتعاون مع الاتحاد من أجل المتوسط، بما يسهم في تقليص الخسائر في المخزون البحري ورصد المخالفات بشكل آلي .
على النقيض، اقتصرت مشاركة ليبيا على طلب دعم فني من اليونسكو والاتحاد الأوروبي لاستئناف الدراسات البيئية المتوقفة منذ أكثر من عشر سنوات، وفق تصريح لرئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي لقناة DW عربية، دون جدول زمني أو خطة تنفيذ واضحة .
من جهتها، شددت تونس، عبر وزير خارجيتها، على أهمية تبني سياسات وطنية متكاملة لحماية الموارد البحرية، تقوم على مقاربة تشاركية تجمع بين البُعد البيئي والتنموي.
معاهدة المنتصف
شهدت قمة نيس توقيع 55 دولة على "معاهدة أعالي البحار"، التي تهدف إلى حماية 30 بالمئة من المحيطات بحلول عام 2030. وتُعد هذه الخطوة تقدمًا ملموسًا في مجال الحوكمة البحرية العالمية، إذ يُتوقع أن تدخل المعاهدة حيّز التنفيذ فور بلوغ عدد الموقعين 60 دولة، ما سيتيح إنشاء مناطق بحرية محمية حتى في أعالي البحار خارج الحدود الوطنية.
كما تم خلال القمة الإعلان عن إطلاق "خطة نيس من أجل المحيطات"، التي تركز على إشراك الصيادين في جمع البيانات البيئية، وحظر أنشطة الصيد العميق في المناطق البحرية الهشة، بالإضافة إلى دعم مشاريع الاقتصاد الأزرق كمسار لتعزيز التنمية المستدامة.
في المقابل، خصصت ألمانيا 20 مليون يورو لدعم هذه الجهود في دول الجنوب العالمي، وأطلقت صندوقًا لحماية المحيطات بقيمة 400 مليون يورو.
من جانبها، أعلنت فرنسا التزامها برفع نسبة "الحماية الصارمة" في مياهها الإقليمية إلى 4 بالمئة بحلول عام 2026، مقارنةً بنسبة 0.1 بالمئة حاليًا. في الوقت نفسه، خصصت إيطاليا 6,5 ملايين يورو لتعزيز مراقبة التسربات النفطية في البحر باستخدام تقنيات الاستشعار عبر الأقمار الصناعية.
لكن هذه التعهدات لم تلقَ قبولًا واسعًا. القبطان التونسي السابق سمير الشيخ الزقناني، الذي يعمل اليوم ناشطًا في مجال البيئة البحرية، عبّر عن شكوكه لـDW عربية قائلًا: "يصعب التصديق عندما يكون المموّل نفسه أحد أكبر مصادر التلوث على مستوى العالم."
من جهة أخرى، تُصنّف منطقة البحر الأبيض المتوسط منذ سنوات طويلة كواحدة من أبرز النقاط الساخنة لتغير المناخ. وتشير الدراسات العلمية إلى أن المحيطات قد امتصت نحو 90 بالمئة من الحرارة الزائدة الناتجة عن النشاط البشري منذ بداية العصر الصناعي، وهو ما يزيد من الضغط على النظم البيئية البحرية الهشة في المنطقة.
غياب التنفيذ
ورغم التعهدات التي أُعلنت في نيس، ظلّت أصوات الصيادين، مثل مختار وعبد النبي، بعيدة عن مراكز القرار. إذ يقول مختار في مقابلة مع مراسل DW عربية: "نحن نعرف البحر، ونستطيع حمايته، لكننا لا نملك الأدوات. إذا استمروا في إعطائنا الوعود ويعطوا غيرنا الشباك، فلن يتبقى لنا شيء."
من جهته، قال مانويل توريس، مستشار السياسات البحرية في وزارة البيئة الإسبانية، في تصريح لـDW عربية إن حماية المتوسط لا يمكن أن تتحقق دون إشراك دول جنوبه. وأضاف: "لا يمكن الحديث عن حماية فعالة بدون تونس، المغرب، ليبيا، والجزائر. الفجوة تبدأ عندما يتم تهميش الصياد المحلي في رسم السياسات."
وقد أعادت قمة نيس تسليط الضوء على وضع البحر المتوسط، لكنها لن تُحدث تغييرًا حقيقيًا ما لم تتحول الالتزامات إلى سياسات قابلة للتطبيق.
ويأمل القائمون على المؤتمر أن تشكّل هذه الدورة نقطة تحوّل في حوكمة المحيطات، على غرار ما مثّله اتفاق باريس للمناخ قبل عقد من الزمن.
تم إعداد هذا التقرير في إطار زمالة مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات لعام 2025، التي تنظمها شبكة الصحافة البيئية Earth Journalism Network التابعة لمنظمة إنترنيوز.
نيس فرنسا
تحرير: عارف جابو