تجاوزت التساؤلات التي تطرحها اعتداءات باريس الإرهابية المجالات الأمنية والسياسية، لتشمل وبشكل ملفت الأسس الإيديولوجية والعقائدية التي تغذي وتحفز الإرهابيين، ولم يكن مفاجئا أن تتجه أصابع الاتهام للوهابية السعودية القطرية.
إعلان
منذ الاعتداءات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول 2001 ونفس السؤال يتكرر حول علاقة المذهب الوهابي بإيديولوجية الحقد والكراهية التي يتغذى منها الإرهاب الإسلاموي. ورغم أن النظام السعودي أظهر إرادة في محاربة الجهاديين الذين يهددون الأمن الداخلي للمملكة، إلا أن العقيدة الوهابية نفسها لم تخضع لأي مراجعة جوهرية، بل إن تكريسها يزداد يوما بعد يوم كما يدل على ذلك الافتتاح المرتقب لمركز جديد للأبحاث حول الفكر الوهابي قرب الرياض، تكريما للشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية في القرن الثامن عشر والذي شارك في تأسيس الدولة السعودية.
صروح أثرية في مواجهة الحروب والتشدد الديني
بعد سيطرة حركات متشددة على مدن أثرية، كما حصل في العراق وسوريا، حذرت منظمات دولية من ضياع كنوز أثرية وإسلامية، تدمرها الحروب وتعمل معاولها فيها، أفكار متشددة تعتبر أن وجود آثار حضارات مضت يشكل "تهديداً للإسلام" نفسه.
صورة من: Getty Images/AFP/A. Al-Rubaye
أعلنت القوات العراقية أن تنظيم "داعش" السني المتطرف فجر منارة الحدباء التاريخية وجامع النوري الكبير الذي شُيد عام 1172 وشهد الظهور العلني الوحيد لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في المدينة القديمة بغرب الموصل. تفجير المسجد الذي يحمل قيمة رمزية كبيرة للتنظيم، اُعتبر بمثابة إقرار بـ"هزيمة" التنظيم.
صورة من: Getty Images/AFP/A. Al-Rubaye
اثأر سقوط مدينة تدمر الأثرية تحت سيطرة تنظيم "داعش" مخاوف من أن تلقى مدينة التاريخ هذه مصير كثير من المواقع الأثرية في سوريا، والتي انتهت إلى التدمير والحرق والنهب خلال المعارك بين فصائل المعارضة السورية وقوات النظام. بعد سيطرة "داعش" قال الأزهر في بيان له أن الدفاع عن تدمر هو "معركة الإنسانية بأكملها".
صورة من: picture-alliance/CPA Media/Pictures From History/D. Henley
جراء الحرب الأهلية في سوريا دمرت مواقع أثرية يرجع تاريخ بعضها لأكثر من 5000 عام، فقد أحرقت نيران هذه الحرب سوق حلب القديم، الذي يمثل أحد أقدم الأسواق في العالم، ولم تسلم قلعة الحصن بحمص من تدمير هذه الجماعات بعد أن استخدمها تنظيم "داعش" كمخبأ للقناصة.
صورة من: Reuters
بلدة معلولة، التي تستمد شهرتها من الأديرة التاريخية، وقعت هي الأخرى ضحية حركة "النصرة" المتشددة عام 2013، ونهب مسلحو التنظيم صلبانا وأيقونات أثرية وباب دير سركيس. وخلال سيطرتهم على البلدة هرب أغلب سكانها المسيحيين.
صورة من: picture-alliance/akg-images/Hedda Eid
تتعاظم هذه المخاوف بعد أن دمر تنظيم "داعش" مدينة الحضر الأثرية في العراق بعد ان سيطر عليها، كما دمر مقاتلوه مدينة نمرود جوهرة الإمبراطورية الأشورية التي تأسست في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إضافة إلى تدميرهم لكثير من الآثار التي تعود للحقبة الآشورية والمعروضة في متحف مدينة الموصل التي يحتلها التنظيم منذ عام .
صورة من: picture-alliance/dpa/Quelle: Islamischer Staat/Internet
لكن تقرير للأمم المتحدة كشف أن التنظيم لم يدمر جميع التماثيل الآشورية، التي يصفها متطرفو التنظيم بـ"الأصنام"، بل قام ببيع القطع الأثرية الأهم في السوق السوداء لدعم تمويل عملياته المسلحة في العراق وسوريا.
صورة من: picture-alliance/dpa/Quelle: Islamischer Staat/Internet
كان تدمير مدينة الحضر في اطراف الموصل بأعمدتها الشهيرة خسارة كبيرة للتراث الإنساني. نشأت مملكة الحضر في القرن الثاني الميلادي ودامت حوالي مئة عام. واشتهرت بهندستها المعمارية وفنونها وصناعتها، وتنتشر فيها الكثير من النقوش المنحوتة والتماثيل.
صورة من: picture-alliance/Bildagentur-online/Tips Images
عمليات تدمير المواقع الأثرية المدرجة على لائحة التراث الإنساني لمنظمة اليونسكو، لم تقتصر على آثار آشور، وإنما شملت أيضاً مراقد إسلامية مقدسة، كمقام النبي يونس في الموصل، الذي نسفه تنظيم "داعش" لـ"إبعاد الشرك عن الإسلام"، كما تنص رؤية التنظيم الدينية المتشددة.
صورة من: picture-alliance/dpa/EPA
طالما وصفت ليبيا بأنها "خزانة التاريخ" لما تحتويه من مدن أثرية لا تزال شبه كاملة من الحضارتين الإغريقية والرومانية. بعد الحرب الأهلية التي أعقبت سقوط نظام معمر القذافي، قام المتشددون بجرف عدد من الأضرحة أو نبشها في مختلف أنحاء البلاد، انطلاقا من اعتقادهم بأن وجودها "يخالف تعاليم الإسلام".
صورة من: REUTERS
وفي مكان غير بعيد عن ليبيا، وقعت أضرحة الأولياء في مالي وما تحتويه من مخطوطات أثرية هامة ضحية للرؤية الدينية الضيقة، فقد قامت جماعات متشددة على الطريقة الوهابية بتدمير هذه الأضرحة معتبرة أن تكريم الأولياء من "عبادة الأوثان".
صورة من: picture-alliance/abaca
خلال حكم الإخوان المسلمين لمصر تسربت أنباء عن تقديم بعض قيادي التنظيم مقترحاً لبيع الآثار الفرعونية، كما دعت أصوات متشددة أخرى خلال تلك الفترة أيضاً إلى هدم الأهرامات وأبو الهول ونزلة السمان على اعتبار أنها "أصنام".
صورة من: picture-alliance/dpa/K. Scholz
وفي الآونة الأخيرة بدأ تنظيم "داعش" يعمل بشكل ممنهج على التنقيب عن الآثار في مصر للبحث عن مصدر جديد لتمويل عملياته، وذلك عن طريق تهريب وبيع الآثار التي يعثرون عليها .
صورة من: picture-alliance/dpa
مطلع عام 2014، لحق بمتحف الفن الإسلامي في القاهرة تدمير شامل إثر انفجار قنبلة في مبنى مديرية أمن القاهرة التي تقع أمام المتحف مباشرة. دمر التفجير كثير من الآثار المرتبطة بتاريخ الإسلام نفسه، وقالت الجهات الأمنية إن جماعة الإخوان المسلمين كانت وراء الاعتداء.
صورة من: picture-alliance/dpa
قبل سيطرة تنظيمات متشدد أفرزتها ثورات "الربيع العربي" وقادت إلى تدمير صروح أثرية، كانت حركة طالبان الأفغانية قد سبقت كل هؤلاء مطلع 2001 بتفجيرها لتمثالي بوذا في باميان. وتوافد مئات من عناصر الحركة من ارجاء افغانستان وعملوا طيلة 25 يوما على تدمير التمثالين بالقذائف والمتفجرات، انطلاقاً من الأفكار الوهابية التي يعتنقها مقاتلو الحركة.
صورة من: Getty Images
الأفكار الوهابية قادت هي الأخرى إلى تدمير آثار إسلامية في بلد بعيد عن "الربيع العربي، فقد دقت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية ناقوس الخطر بشأن هدم المواقع الأثرية في السعودية بحجة توسيع الحرمين الشريفين. كما أكد مفتي البلاد أن ما هدم من آثار في الحرمين الشريفين "لا مانع منه، بل إنه من الضرورة"، مشيراً إلى أن توسعة الحرمين تقتضي ذلك.
صورة من: picture-alliance/dpa/Saudi Press Agency/Ho
15 صورة1 | 15
وترمز هذه الخطوة للدور الجوهري الذي يلعبه إرثه الفكري في السعودية رغم أنه فكر يُتهم بتغذية التطرف الإسلاموي خصوصا السني بما في ذلك تنظيم "الدولة الإسلامية". "للإرهاب وجهان: الخطاب والفعل، فالعملية الإرهابية يسبقها دائما خطاب إرهابي" كما أوضح لـ DWرياض الصيداوي المفكر والباحث التونسي في العلوم السياسية.
مذهب متشدد
لقد ندد مجلس كبار العلماء، أعلى هيئة دينية في السعودية، على لسان مفتي المملكة بهجمات باريس، كما واظبت نفس الهيئة على استنكار والتنديد بالمتطرفين ووصفهم بـ "الضالين والكفار". غير أن النخبة الدينية السعودية واظبت في الوقت ذاته على ذم الشيعة ووصفهم بـ"الرافضة" وهو لفظ شائع بين المتطرفين السنة الذين يرفضون اعتبار الشيعة مسلمين.
وفي هذا السياق أوضح رياض الصيداوي أنه اكتشف إماما في مكة يقول "اكرهوهم، احقدوا عليهم، ابغضوهم، ابغضوا اليهود والنصارى والشيوعيين والليبراليين والشيعة والصوفية، هذا هو خطاب الكراهية الذي يتكرر لدى شيوخ الوهابية.. لا ننسى أن التحريض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون في أوروبا".
مفارقات سياسة الرياض في مكافحة الإرهاب
عملت السعودية مؤخرا على مضاعفة جهودها في مكافحة الإرهاب ونظمت حملة واسعة تحمل شعار "معا ضد الإرهاب والفكر الضال". هذه الحملة كما تلك التي سبقتها تهدف رسميا لحماية الشباب السعودي من التطرف وإعادة إدماج جهاديين سابقين. كما أن النظام السعودي انتهج سياسة صارمة ضيّق من خلالها الخناق على السلفيين الجهاديين في الداخل، سواء بالزج بهم في السجون أو بمراقبتهم لمنعهم من السفر لمناطق النزاعات. وتدافع حكومة الرياض بشدة عن سجلها في التصدي للتشدد الإسلاموي وكذلك بتعاونها مع استخبارات الدول الحليفة ومعاقبة رجال الدين الذين يشيدون بالتطرف.
غير أن التحالف الاستراتجي بين المؤسسة الدينية والعائلة المالكة يمنع أي مراجعة جوهرية للوهابية، المذهب الديني الرسمي في المملكة. وبهذا الصدد أوضح رياض الصيداوي أن "القاعدة وداعش هما النسخة العملية للوهابية، فالقاعدة التي أسسها أسامة بن لادن هي التقاء بين الوهابية السعودية المتطرفة مع الجهادية المصرية التي انشقت عن الإخوان المسلمين(...) والقاعدة أنشأت بدورها داعش".
الغرب بين المصالح والمبادئ
هناك سؤال يحير المحللين كلما تعلق الأمر بالعلاقة المعقدة بين الغرب والنظام الوهابي في السعودية، فإذا كان الأخير يغذي الإرهاب، فلماذا يدعمه الغرب؟ فكيفما كان النظام البديل فسيكون في حاجة لبيع نفطه في الأسواق العالمية. يرى رياض الصيداوي أن الأمر يتعلق "بصراع بين المبادئ والمصالح، السعودية بلد غني جدا ينتج حوالي 11 مليون برميل نفط يوميا، وله ميزانية تفوق 500 مليار دولار كدخل سنوي وهو من أفضل الأسواق الاستهلاكية في العالم".
وفي حوار سابق مع DW أجاب غيدو شتاينبيرغ الخبير الألماني في شؤون الإرهاب بقوله "إنها فرضية خطيرة، لأنه لا يوجد حاليا بديل مقبول للنظام الحالي في السعودية. هناك معارضة سلفية قوية لها علاقات مع الإخوان المسلمين، كما أن التنظيمات الإرهابية هناك لها أتباع كثيرون إضافة للمعارضة الشيعية القوية في شرق البلاد". وأضاف الخبير الألماني أن "السعودية حليف موثوق به للغرب، وصارت منذ عام 1979 من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية. وهناك توافق أمريكي سعودي بشأن العداء لإيران. ومنذ 1990 حلت إيران محل الاتحاد السوفييتي كعدو. كما أن هناك توافقا بين الجانبين بشأن قضايا إقليمية أخرى. وأكد شتاينبيرغ أن هناك مخاوف، في حال سقوط حكم آل سعود، من أن تنقسم البلاد إلى ثلاث أو أربع مناطق وأن يستحيل تشكيل حكومة مركزية.