الأخطاء الطبية في الجزائر: ظاهرة منتشرة ومآس متعاقبة
١٦ يونيو ٢٠١٢كثيرة هي الأخطاء الطبية التي تضع حداً لحياة المرضى، أو تسبّب لهم عاهات مستديمة. وفي الجزائر تتحدث الأرقام عن أكثر من 600 قضية في المحاكم خلال الأربع سنوات الماضية. هذا الرقم على ضخامته لا يعبّر بدقة عن الواقع، الذي تعددت فيه الأخطاء لتتحوّل إلى خطايا. فلا غرو إذاً أن تسجل المستشفيات الحكومية أربع أخطاء في التشخيص والعلاج بين كل خمس حالات معالجة.
قصة عبد الناصر ورغي، البالغ من العمر 47 عاماً، ربما تعتبر واحدة من أكثر القصص التي تعبر عن واقع الأخطاء الطبية التي شهدتها الجزائر. فقضيته كادت أن تتحول إلى فضيحة، لولا أن العدالة تدخلت لإنصاف الضحايا. لكن ذلك لم يكن كافياً في ظل وضع اجتماعي مزر يعيشه عبد الناصر والضحايا الآخرون.
القصة الكاملة
عبد الناصر أب لأربعة أطفال، فقد بصره سنة 2007، ويروي أنه كان يعاني من قصر نظر حاد، قبل أن يتوجه مع عدد آخر من المرضى إلى قسم العيون بمستشفى العاصمة الجزائر، من أجل استبدال دوائه القديم بآخر جديد، بعدما اتصلت به إحدى الطبيبات لتخبره أن المستشفى عمد إلى شراء دواء سيخلصهم نهائياً من نظاراتهم الطبية، وهو الخبر الذي دفع 31 مريضاً يعانون من قصر النظر الحاد إلى الذهاب للمستشفى.
ويتابع عبد الناصر، في حديثه لـDW عربية: "توجهنا إلى المستشفى ووجدنا الطبيبة في انتظارنا، واصطفّ الجميع أمام غرفة العمليات. كانت الفرحة الكبيرة بادية على محيا الجميع، والأمل كان أكبر". وجد ناصر نفسه برفقة كريمة أعراب، البالغة من العمر 45 عاماً، في قاعة العلاج، وكانت الطبيبة تشرف على إعطاء الدواء الجديد للمرضى الواحد تلو الآخر. وبعدها لمح عبد الناصر كريمة أعراب مغمى عليها.
من جانبها تسرد كريمة قصتها لـDW عربية: "قالت لي الطبيبة لا تخشين وتحليت بالشجاعة وصدقتها، ظناً مني أنني بين أيدٍ أمينة. لكن عندما وصلت إلى البيت بدأت أشعر بمضاعفات حادة جراء الحقنة التي كنت أجهل اسمها، وبدأت عيني اليسرى – وهي العين السليمة التي أستطيع الرؤية بها – بالانتفاخ والاحمرار. وفي الصباح تفاجأت بظلم دامس يغطي عينيّ، متبوعاً بآلام لا يتصورها عقل".
نفس الأعراض التي شعر بها عبد الناصر ورغي، الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى قسم العيون بالمستشفى، ليتفاجأ بأن المرضى الذين حقنوا بالدواء الجديد فقدوا بصرهم. الفاجعة كانت كبيرة عندما فشلت إدارة المستشفى في إقناع المرضى بأن السبب هو عدم نظافة المكان وأن الدواء فقد مفعوله. ويضيف عبد الناصر: "في ذلك الصباح أخبرتني الطبيبة أنها فشلت في تحقيق حلمهم في رؤية النور مجدداً، وهو الأمر الذي لم أستوعبه وبقية المرضى، خاصة أن الطبيبة لم تسلمنا وثيقة يلتزم بها المريض بتحمل كل المسؤوليات في حال فشل الدواء في تحقيق مفعوله، مما جعل الضحايا يستنتجون أنهم كانوا مجرد فئران تجارب".
حكم غير نافذ وتعويض غير مناسب
قسم طب العيون وعد الضحايا بالتكفل بعلاجهم، إلا أن الوعود تبخرت في الهواء، ما دفع الضحايا إلى إلى رفع قضية في المحكمة، كشفت على إثرها التحقيقات أن الدواء الذي حُقن به المرضى ما هو إلا دواء لمعالجة الحالات المتقدمة من السرطانات، مثل سرطان القولون والرئة والبروستاتة والعين، في حين أن المرضى لا يعانون من السرطان. كما أفضت التحقيقات إلى أن الدواء، الذي أنتجته شركة "روش" الأمريكية، مُنع استعماله سنة 2005 في فرنسا نظراً لعدم نجاعته بنسبة 100 بالمائة.
المحكمة قضت ببراءة الطبيب المسؤول عن القسم، وبعقوبة مقدارها ست سنوات غير نافذة بالسجن ضد الطبيبة المعالجة، وهو ما أثار حفيظة الضحايا، خاصة مع إقرار المحكمة تعويضاً لا يتجاوز 560 يورو لكل مريض، وهو مبلغ لا يكفي لإصلاح ما أفسده الدواء.
هذه المأساة قلبت حياة عبد الناصر وبقية الضحايا رأساً على عقب، فمنذ فقدانه البصر، فقد عبد الناصر وظيفته كمحاسب في شركة حكومية، ويعيش مع عائلته في وضع مزر ويقطن بيتاً مستأجراً. ويقول ورغي أن مبلغ التعويض لا يغني ولا يسمن من جوع، خاصة بعدما اكتشف أن نفس القضية حصلت في أمريكا وأن الضحايا حصلوا على مبالغ خيالية كتعويض، رغم أنهم التزموا بتحمل كامل المسؤولية في حال فشل العلاج.
وأملاً في معرفة تكاليف إعادة بصره، راسل عبد الناصر العديد من المستشفيات والمعاهد الطبية في الخارج، من بينها المعهد الألماني للتجديد الطبي "إيكسال سنتر"، الذي أكد له أن مبلغ العملية لوحده يقدر بنحو 10 آلاف يورو، دون حساب تكاليف الإقامة والسفر.
الطبيب هو الحكم
وحول الأخطاء الطبية في الجزائر وآثارها المأساوية، يقول الدكتور بوداني أحمد أن الأخطاء الطبية تنحصر في نوعين، أولهما الخطأ البشري الذي يمكن أن يقع لأي شخص، والثاني هو الخطأ الناتج عن الإهمال الذي يعاقب عليه القانون. وبخصوص قضية المرضى الذين فقدوا بصرهم بسبب حقنهم بدواء فقد نجاعته في الدول الأجنبية، يوضح بوداني لـDW عربية أن الجزائر تشتري أدوية دون إعادة مراقبتها بشكل دقيق للتأكد من مدى نجاعتها، إذ يكفي أنها تمر عبر المختبر الوطني لمراقبة الأدوية الصيدلانية كي تستعمل مباشرة.
ويشير الدكتور أحمد إلى أن أن هناك دولاً مثل سويسرا لا ترخص أي دواء أجنبي للتسويق حتى تتأكد من مدى نجاعته، على الرغم من أن دولاً أخرى أجرت دراسات حوله وجربته، إلا أنه يستدرك بالقول أن المسألة لا تعتبر جريمة، كون الدواء مرخص في الجزائر وتم تسويقه بصفة قانونية. وتقع المسؤولية الأولى والأخيرة على عاتق الطبيب، وهنا تلعب الكفاءة والخبرة الدور الأهم في اتخاذ مثل هذه القرارات.
رتيبة بوعدمة – الجزائر
مراجعة: ياسر أبو معيلق