كلما تصاعدت حدة التوتر الأمني في سيناء، إلا وكبرت معها معاناة المدنيين. فهم يوجدون في وضع بين إرهاب الجماعات الإسلامية المتشددة وبين القبضة الحديدية للجيش الذي لا يتوارى في استخدام العنف ضدهم، كما في التقرير التالي.
إعلان
في أحد المقاهي في قلب القاهرة يجلس سعيد عتيق، رجل نحيل تعلو وجهه ابتسامة عريضة. "نعم أعرف جيدا أحد زعماء الجماعات الإرهابية في سيناء"، ويضيف: "شادي المناعي نشأ في منطقة مجاورى وكنت أراه دائما خلال اجتماعات القبيلة. كان شخصا عاديا مثلي ومثلك."
الرجل سعيد عتيق ، الذي لا يتجاوز عمره منتصف الثلاثينات، يرتدي قميصا رماديا عصريا وبمعصم يده تبدو ساعة غالية الثمن. وهو ناشط سياسي، ينحدر من قرية شبانة الواقعة شمالي سيناء، غير بعيد عن الحدود المصرية الإسرائيلية. وينتمي عتيق إلى قبيلة السواركة، ثاني أكبر قبيلة في شبه جزيرة سيناء. شبانة أصبحت في يومنا هذا "مسرحا للمعارك" بين الجيش والجماعات الإرهابية، كما يؤكد عتيق، مضيفا أن ما لا يقل عن 90 بالمائة من السكان وجدوا أنفسهم مجبرين على الهرب منها. "شبانة أصبحت مدينة أشباح"، على حد تعبيره.
مقاتلون مقنعون
شادي المناعي هو واحد من مئات الإسلاميين المتشددين الذين لا يترددون في استخدام العنف لتحقيق أهدافهم وهو من الناشطين في سيناء منذ سنوات. ومنذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي على يد الجيش، تزايدت أنشطة هؤلاء بشكل ملحوظ. ومن الجماعات الإرهابية الرئيسية في سيناء جماعة "بيت المقدس"، التي كانت قد أعلنت ولائها لتنظيم "الدولة الإسلامية" ومنذ ذلك العهد والجماعة تطلق على نفسها اسم "ولاية سيناء". وقد نفذت الجماعة عدة هجمات إرهابية ضد الجيش المصري في سيناء راح ضحيتها المئات من الجنود. كما لم تقتصر أنشطتها على سيناء فقط، بل طالت القاهرة أيضا.
يرد الجيش على تلك العمليات الإرهابية بحملات مداهمات واعتقالات وحظر التجول. كما أنه أطلق عمليات أمنية واسعة النطاق ضد الإرهابيين أسفرت عن مصرع 500 إرهابي، وفق معطيات المؤسسة العسكرية المصرية. ويقدر عدد المقاتلين في صفوف "ولاية سيناء" بما بين 300 و700 شخص، وفق تقديرات زاك غولد من معهد الدراسات الأمنية الوطنية في تل ابيب. وللحيلولة دون ارتفاع عدد هؤلاء الإرهابيين، يعمل عتيق على إقناع الشباب بعدم اللحاق بالجماع الإرهابية في سيناء.
ويقول عتيق إنه يعرف الطريقة التي يتبعها الإرهابيون في التخطيط لعملياتهم، ويوضح ذلك من خلال إظهار صورة مخزنة في هاتفه الذكي لسيارة رياضية غارقة في الرمال بشكل كامل تقريبا. ويقول إن هذه السيارة يستخدمها الارهابيون لتخزين الأسلحة والمؤونة. "هؤلاء يعرفون كيف يخفوون آثارهم."
سيناء شبه مقصية من المشاريع التنموية
يعود إقبال الشباب على الجماعات الإرهابية في سيناء بالدرجة الأولى إلى ارتفاع نسب البطالة. وقد ساهم ذلك في ازدهار التجارة بالمخدرات وتهريب الأسلحة. كما يمكن لتنظيم "الدولة الإسلامية" الاعتماد على مساعدين محليين، كما يقول غولد. ويضيف: "مقابل 50 دولارا يقومون بمراقبة الشرطة وبوضع متفجرات محلية الصنع."
في الواقع تجاهلت الحكومة المركزية في القاهرة سيناء لسنوات طويلة ، حيث تُرك فيها البدو لأنفسهم كما تم اقصاءهم من الخدمة العسكرية. اما المخصصات المالية الضئيلة التي حصلت عليها سيناء، فإنها إما اُستثمرت بشكل خاطئ أو اختفت في مستنقع الفساد، كما يلاحظ أحد الموظفين في مصلحة تنمية سيناء الذي لا يريد الكشف عن هويته. الأمر الذي خلق لدى سكان سيناء حالة من الخنق والسخط على الحكومة المركزية في القاهرة. وهو ما ساهم في إقبال العديد منهم على المتطرفين. وفي سياق متصل يوضح زاك غولد قائلا: "الكثير من البدو لا يشعرون بالانتماء إلى الدولة المصرية. وبالتالي لا يعاملون على أنهم مصريون."
سياسة القبضة الحديدية تطال السكان
في غضون ذلك، تواصل الحكومة سياسة القبضة الحديدية ضد عمليات الإسلاميين المتشددين، حيث قامت القوات المصرية بهدم بيوت 3200 عائلة تعيش على الحدود مع قطاع غزة في إطار حملة أمنية واسعة أسفرت عن تهجير هذه الأسر عن موطنها. مثل هذا التصرف يتنافى مع القوانين الدولية، كما لم تحصل الأسر على تعويضات كافية لما لحق بها من أضرار، وفق تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش على تصرفات الأجهزة الأمنية في سيناء. أما الحكومة فتزعم بأنها دفعت تعويضات مناسبة. وعللت هدم المنازل وتهجير الأسر على الحدود مع قطاع غزة بضرورة جعل المنطقة التي تمتد على طول كيلومترات خالية من البنايات أو السكان، لأن الإرهابيين يقومون بتهريب الأسحلة إلى قطاع غزة عبر أنفاق هناك. وكثيرا ما تفرض السلطات حضرا على التجول في عدة مناطق من سيناء. "لقد ضقنا ذرعا من الإجراءات الأمنية. اليوم أجبرنا على قضاء ثلاثين دقيقة بالسيارة لقطع مسافة تستغرق خمس دقائق"، كما تقول طالبة ذات عشرين عاما من منطقة العريش عبر سكايب رافضة.
جولة مصورة ترصد معاناة أهل سيناء
أثناء جولة في مناطق مختلفة في سيناء، تعرفت DW عربية على معاناة الأهالي، بعد أن أصبحت أرضهم مسرحا للعمليات العسكرية في إطار حملة التصدي للإرهاب. وهي عمليات اعتبرها بعضهم أنها مجرد "محاولة لكسر شوكة البدوي".
صورة من: DW/A. Wael
"لو سكتنا سيضيع حقنا!"
كان التخوف سيد الموقف في جلستنا حول النار. تخوف من أي رد فعل "عقابي" يصدر عن أهالي منطقة "الشيخ زويد" (شمال سيناء)، في حال تطرقوا إلى الانتهاكات التي طالتهم خلال الحملات الأمنية المستمرة منذ أشهر. وبعد حديث مطوّل هبّ أحدهم بالقول "هوه بده يسكتنا، لو سكتنا سيضيع حقنا!".
صورة من: DW/A. Wael
استعراض للقوة
قبل غروب الشمس بساعة ونصف تفرض قوات الجيش حظراً للتجول حتى السادسة صباحاً. تتوقف الحياة تماماً، على الطرق الرئيسية، بينما تكون هناك حركة محدودة بطرق بديلة بعيدة عن نقاط التفتيش الأمنية، وذلك بعلم الجيش. شاهدٌ من أهل سيناء يعلق "إنه استعراض للقوة، ليس أكثر".
صورة من: DW/A. Wael
السيارة الرسمية للإرهاب!
سيارة محترقة في إحدى الحملات الأمنية، وقد غطاها صاحبها بغطاء (حصيرة) من جريد النخل....هكذا صار ملاك السيارات يخافون من حرق سياراتهم أمام منازلهم، أو من إطلاق الرصاص عليها إذا تحركوا بها، خاصة أن "نقاط التفتيش" تتعامل مع نوعيات معينة من السيارات بوصفها سيارة إرهابية بإمتياز نظراً لإعتياد مفجري نقاط الجيش "تفخيخ" نوع محدد من السيارات وتوجيهها نحو نقاط تمركز الجيش.
صورة من: DW/A. Wael
إطعام النار
الجلسة قد تطول.. لهذا يجب الانتباه إلى النار وإطعامها بالحطب، حتى لا تخبو. وحولها يتكلم عدد من شباب "الشيخ زويد" عن رغبتهم في دراسة الإعلام والالتحاق بدراسات حرة بجامعة العريش القريبة منهم. وهناك من يفكر في حمل كاميرات وتسجيل ما يجري ونشره على "يوتيوب". بيد أن خدمة الإنترنت معطلة، وعليهم السفر للعريش للتواصل عبر الشبكة.
صورة من: DW/A. Wael
أشجار إرهابية
نادراً ما تجد بيتا لا تحيط به أشجار رغم طبيعة سيناء الصحراوية، إلا أن أهلها يحرصون على زراعة أشجار الزيتون والخوج. هذه الأشجار هي النشاط الأكثر انتشاراً هنا، حيث تستخدم الثمار كبديل عن الأموال. وخلال حملات الحرب على الإرهاب قامت قوات الجيش باقتلاع أشجار الزيتون عن طريق استخدام "البلدوزرات" تارة، وبحرقها تارة أخرى.
صورة من: DW/A. Wael
محاصرة الحياة والبحر
العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء، محاطة بالتحصينات الأمنية، حيث تستقر بها عدة مواقع حكومية وأمنية كمبني المحافظة، ومديرية الأمن، ومكاتب المخابرات بتنويعاتها، إلى جانب مستشفى الجيش وغيرها..هكذا تصبح عملية التصوير معقدة في العريش المدينة الساحلية المطلة على "المتوسط".
صورة من: DW/A. Wael
"الحرب" في جلسات البدو
في كل بين ستجد "المِقِعد"(هكذا تنطق)، وهو مكان مخصص للضيوف يقع خارج المنزل. يتنوع فرشه، لكن ما هو أساسي فيه أن الجلسات على الأرض. المِقِعد يستضيف السهرات البدوية، ولابد أن يتوسطه مكان مخصص لإشعال النار، لإعداد الشاي وتدفئة الجالسين في ليالي الحظر، والحديث يكون غالباً عن الأوضاع الحالية و"الحرب".
صورة من: DW/A. Wael
"ذقون"..وظلم أيضاً
في كل بيت من بيوت شمال سيناء، ستجد قصة لها علاقة بالحرب الدائرة. أحيانا يحرق البيت أو السيارة في الحملات الأمنية، خسائر كبيرة بالنسبة للناس، لكنها عادية بالنسبة للجيش. هناك "ذقون في سيناء" كما يقول أهلها، تعبيراً عن الجماعات المسلحة، وهناك أيضاً تفجيرات تستهدف نقاط التفتيش الأمنية، لكن هناك ظلم أيضاً.
صورة من: DW/A. Wael
طرق خالية
طريق جانبي يكشف الشكل المعتاد لطرق سيناء المحاطة بأشجار الزيتون، تتوقف الحياة هنا يوميا من الرابعة عصراً حتى السادسة من صباح اليوم التالي؛ لكن مع بداية الحملات الأمنية، قبل 5 أشهر، قامت "القوات" بإزاحة أشجار الزيتون لمسافة تزيد عن 50 متراً، ثم توسعت لتحرق الأشجار وتقتلع بعضها لمسافة تزيد عن 100 متراً، حتى تكون الطرق مكشوفة، ولا يختبئ وسطها أي إرهابي محتمل.
صورة من: DW/A. Wael
توسع أفقي
المنازل هنا لا تتجاوز الطابق الواحد وأحياناً تلمح بيتا من طابقين. نمط العمارة بسيط جدا، وإذا كانت هناك رغبة في التوسع فإن الامتدادات تكون أفقية في الغالب، سواء تعلق الأمر ببناء جراج للسيارة، أو "مِقِعد" لاستقبال الضيوف، أو المخزن، المؤسس من الخوص (جريد النخيل) أو غيرها.
صورة من: DW/A. Wael
"فتة سيناوية"
وجبة بدوية دسمة: إلى جانب الأرز والخبز، المكونين الأبرز للثريد، تستقر قطع الدجاج، وتدمج السلاطة في الطبق الكبير. حين وضعت المأدبة توقف الكلام، وبدأ الطعام. أهل شمال سيناء لا يزالوان مخلصين للعادات وذلك بتناول الطعام باليد، دون استخدام الملاعق.. كما تستخدم الشوربة لتسهيل عملية التناول، بينما وضعت ملعقة واحدة للمصور.
صورة من: DW/A. Wael
حكايات عن الدولة
لا تتوقف الحكايات هنا، الموضوعات متنوعة، لكن الرابط الذي يجمعها الأوضاع السائدة في ظل الحرب على الإرهاب. وأكثر المواضيع إثارة للسخرية لدى المتحاورين، قرار الحكومة المصرية السماح للبدو بامتلاك الأراضي بسيناء، وذلك بسبب طريقة تعامل الدولة المصرية مع أهل سيناء.
صورة من: DW/A. Wael
محاكم شرعية ومشايخ من غزة ..أيام مرسي
"ماهر" يشرب الشاي. هو صوفي، يري أن الفترة منذ قيام الثورة المصرية إلى فترة حكم "مرسي" اتسمت بالهدوء، مع توقفت الأجهزة الأمنية والاستخبارتية عن نشاطها، وكما أن سيناء أصبحت "حرة كما لم تكن من قبل". ماهر يحكي عن المحاكم الشرعية التي أتى بها مشايخ من غزة تمّ ترحيلهم بعد "تصدي النظام القبلي لهم".
صورة من: DW/A. Wael
أشجار الزيتون شاهد على الأحداث
شجرة زيتون محترقة، دليل على أن حملة أمنية جرت هنا. أشجار الزيتون هي الأثر الظاهر لما صنعته الحملات الأمنية هنا بشمال سيناء، القوات المسلحة، الخصم والحكم، هي التي تباشر الحملات والاعتقالات، كما أنها الجهة التي تدير التحقيق وتصدر الأحكام.
صورة من: DW/A. Wael
في انتظار العدالة
هل ستتحقق عدالة؟ يتساءل صاحب السيارة المحترقة، الذي واجه "مصيبة" أكبر من حرق "العربة" على حدق قوله. فقد حبس ولده بعد محاكمته عسكريا. والرجل يؤكد أن "سالم" (ولده) لم يكن يستطلع نقطة التفتيش (تمهيداً لاقتحامها)، حسب التهمة الموجهة له، وهو موقن من أن ولده المحبوس بسجن وادي النطرون قد ظلم. كان مكلوماً، ورفض ذكر اسمه أو تصويره، مكتفياً بأن تكون هذه الصورة شاهدا عما حدث و الظلم الواقع هنا.
صورة من: DW/A. Wael
15 صورة1 | 15
سياسة الإرهاب والترهيب
شاهد عتيق الكثير من الأمور في سيناء وعايشها أيضا ، فقد تعرض أحد أصدقائه قبل عشرة أشهر للاختطاف قبل أن يتم العثور عليه بعدها بأيام قليلة جثة هامدة ومشوهة. ويعزو عتيق ذلك إلى أن صديقه كان يتحدث عن موقفه الرافض لتنظيم "الدولة الإسلامية" بشكل علني. "الكل يعرف هنا من يدعم من"، حسب عتيق. كذلك أصبح من المعروف عنه أنه يقوم بأنشطة توعوية ضد الجماعلات الإرهابية. ولهذا السبب فقد أصب يغير مكان إقامته بشكل دائم. "لدي مخاوف على حياتي"، عل ما يقول عتيق. ويضيف: "الإقامة في القاهرة لا تعني بأنني في آمان"، لافتا إلى أن أحد أصدقائه قتل بأعيرة نارية أمام باب بيته في القاهرة. وهو متؤكد من أن تنظيم "ولاية سيناء" يقف وراء الاغتيال.