كيف ابتدعت مخابرات ألمانيا الشرقية أخطر تكتيك للقمع النفسي؟
٣ مايو ٢٠٢١مع سقوط جدار برلين وانهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية "DDR" انهار معها واحد من أشرس أجهزة الاستخبارات في العالم وأكثرها قسوة، لتنفتح أمام الجميع أبواب عالم خفي يخبئ داخله استراتيجيات مروّعة ليس فقط للحكم والسيطرة، ولكن كذلك للتجسس ولقمع المعارضين بتقنيات غير معهودة.
اتبع جهاز شتازي، أو وزارة حماية الدولة أو أمن الدولة باختلاف الترجمات، عدداً من الاستراتيجيات بهدف إحكام السيطرة على سكان ألمانيا الشرقية منعا لحدوث أي حركات مقاومة للحكم الشيوعي الديكتاتوري الذي كان يرزح تحته ملايين من سكان الشطر الشرقي من البلد. إحدى تلك الاستراتيجيات ما يسمى بعملية "التفكيك" أو "التحلّل" وهي ترجمة حرفية للكلمة بالألمانية "Zersetzung "، لكن تبقى الترجمة الأقرب للمعنى هي التدمير النفسي.
التدمير النفسي هو "وسيلة استعملت ضد أشخاص أو مجموعات يراهم جهاز الشتازي على أنهم عدائيون سلبيون" (أعداء للدولة)"، هكذا تعرّف المفتشية الفيدرالية لأرشيف الشتازي "BSTU" هذه التقنيات التي أتت بديلاً عن القانون الجنائي. والمثير أنه من الصعب جداً ترجمة الكلمة إلى لغات أخرى، وكل ترجمة تبقى تقريبية، إذ لم يتم استعمال الكلمة في المجال السياسي خارج ما ابتدعه الشتازي.
لماذا "التحلّل"؟
صدرت الاستراتيجية تحديداً عام 1976 في دليل تعليمات داخلي يسمى "الكتيب رقم 1/76"، والشرط الأول لتطبيقها هو ألا يكون هناك أثر مادي لتدخل الدولة في الأمر يكتشف من خلاله الشخص المُستهدف أن هناك تدخلاً موجهاً ضده، أي تحييد "المعارضين دون اعتقالهم وحتى دون أن يدركوا حقيقة ما يحدث لهم" بتعبير هوبيرتوس كنابه، مؤرخ ألماني والمدير العلمي السابق لنصب برلين هوهنشونهاوزن التذكاري، في حديثه لـDW عربية.
بدأت ألمانيا الشرقية في استخدام هذا التكتيك الذي يهدف حسب الكتيب إلى "تجزيء وشلّ وبعثرة وتفريق" المستهدفين، بعد توقيع اتفاقية هلسنكي عام 1975 والتي بموجبها تم الاعتراف بها كدولة وصارت مكشوفة بالفعل أمام العالم.
جذور تلك التقنية في ألمانيا لم تنبت خلال عهد ألمانيا الشرقية، لكن ما يحسب لجهاز الشتازي أنه كان أول جهاز أمني يطوّرها بشكل رسمي. يشير كنابه إلى أن الاستراتيجية جاءت من أساليب شيوعية قديمة تهدف إلى التسلّل داخل "المنظمات المعادية" بهدف تدميرها من الداخل، لكن الشتازي ذهب أبعد باعتماده منهجاً علمياً، إذ كانت الأجهزة الأمنية في ألمانيا الشرقية تقوم بتدريس هذه الاستراتيجية.
"استخدام هذه الأساليب كان نتيجة للنقاش الذي دار في السبعينيات حول الاعتقال واستخدام الوسائل العنيفة ضد المعارضين، وهو ما كان على ألمانيا الشرقية التخلّي عنه حتى تتمكن من الانضمام للمجتمع الدولي"، يقول يانز غيزكه رئيس قسم "الشيوعية والمجتمع" في مركز لايبنيتس للتاريخ المعاصر بمدينة بوتسدام الألمانية.
ويضيف غيزكه في حديث مع DW عربية أن القيادة السياسية والأمنية في ألمانيا الشرقية (DDR) فكرت وقتها في اتباع أساليب جديدة "غير مرئية" ولا يمكن معرفة أنها تأتي عن طريق جهاز الأمن السري.
"الوضع في DDR كان صعباً للغاية في بلد منقسم، فمن ناحية يقفون على حدود الكتلة السوفيتية، ومن ناحية هم تحت مراقبة الصحافة الغربية ومواطني ألمانيا الغريبة الذين كانوا يدخلون البلاد لزيارة أقاربهم" يقول كنابه. ويتابع أن حكام DDR كان عليهم أن يكونوا أكثر حذرًا مما عليه الحال في الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن يخشى مواجهة المعارضين بالأساليب الوحشية.
التدمير من الداخل
"تحطيم الثقة في النفس" من دون استخدام أي وسيلة عنيفة، يقول تقديم آخر على موقع المفتشية. أراد جهاز الشتازي "خلق إحساس بعدم الأمان، ودفع الشخص المستهدف نحو الإحباط والاستياء أو التنميط المجتمعي"، وهي ممارسات قد تدفع بالضحية أحياناً إلى التفكير في الانتحار، من خلال الوصول إلى "تحلّل أو تفكيك" أرواح الضحايا، وفق المصدر ذاته.
وربما يكون ذلك هو ما يفسر لجوء الشتازي إلى هذه الكلمة دون غيرها، إذ يوجد كتاب بعنوان "تحلّل الروح" كتبه يورغن فوكس، أحد ضحايا هذا التكتيك، مع الباحث النفساني كلاوس بيهنكه. وكشف هذا الأخير عن أن مختصين في علم النفس قاموا بالعمل على إخراج هذا التكتيك للوجود.
بنت هذه الاستراتيجية نظرياتها على تطبيق فرع من علم النفس يسمى "علم النفس العملياتي" كان يتم تدريسه داخل كلية الحقوق التابعة لوزارة أمن الدولة في بوتسدام وهي كلية صورية لا يعلم أحد طبيعة مناهجها ولا من يدرسون فيها ويحيطها الغموض بشدة. ولأجل إنجاز المطلوب، استعان الشتازي بكافة القطاعات غير الحكومية التي تسيطر عليها الدولة، وكذلك ببناء شبكة هائلة من المتعاونين مع الشتازي، ليسوا أعضاءً فعليين داخل تشكيل الجهاز.
غير أنّ تطبيق علم النفس العملياتي لم يكن مقتصراً فقط على المستهدفين بـ"التدمير النفسي"، بل كذلك على المواطنين العاديين الذين تمّ تجنيدهم لتنفيذ هذه الاستراتيجية، خصوصا لقلة عدد أفراد جهاز الشتازي. أوهمتهم الدولة أنهم ذوي أهمية شديدة لها وأنهم يساعدون أجهزتها ويقومون بحمايتها من "الخونة والعملاء"، وأن دعمهم لها سيقوي من علاقتهم معها، والمثير أنه لم تكن هناك حاجة للضغط عليهم للتعاون إلا فيما ندر.
قمع بأسلوب نفسي
اتخذت هذه التقنية، حسب ما يذكره هذا الدليل الخاص بها عدة أساليب منها: التشويه الممنهج للسمعة بناءً على معلومات - منها ما هو صحيح ومنها ما هو غير دقيق أو حتى غير صحيح -، استغلال الإخفاقات الشخصية والمهنية للشخص المستهدف، تقويض المعتقدات المتعلقة بمُثل معينة (خاصة بما هو سياسي)، خلق حالة من عدم الثقة والشك داخل التنظيمات والمجموعات، تفجير التنظيمات من الداخل بإشعال الخلافات بين الأفراد وهز ثقة الكل في الكل، وشغل هذه التنظيمات بمشاكلها الداخلية، وتقييد العلاقات الشخصية بين أفرادها.
يقوم الشتازي بتقييم دقيق للشخص المستهدف، ويجهز له ملفاً فيه كافة تفاصيل حياته اليومية من خلال اختراق أقرب الدوائر إليه، إذ قد يكون الشخص القائم بالمراقبة الزوج لزوجته أو الأخ لأخيه، كما يتم تفتيش منزله بشكل يومي والتنصت على محادثاته ورسائله، حتى تتكون صورة كاملة عنه.
من أكثر الطرق التقليدية لتنفيذ هذه الاستراتيجية، إرسال رسائل بالبريد أو الفاكس للضحية، تحتوي على صور ومعلومات قد تدمر السمعة إن هي انتشرت وعلم بها الآخرون وبالتالي تتم مساومته. وكذلك هناك نشر الشائعات حول الشخص المستهدف، والاتصال به من أرقام مجهولة بانتظام، واستدعاؤه لأداء خدمات حكومية اجتماعية لأسباب قد لا تكون بالضرورة مقنعة.
"كانت الاستراتيجية ناجعة، فقد نجحوا في خلق المشاكل للمعارضين وإخافتهم" يقول كنابه، معطياً أمثلة أخرى لطرق التنفيذ: "كانوا يدخلون إلى المنازل والشقق بشكل شبه دائم ويغيّرون مكان بعض الأشياء البسيطة، لأجل خلق حالة من الشك. قاموا بذلك معي"، مضيفاً: "وهناك مثال آخر منتشر وهو: نشر شائعات عن المستهدف تفيد بأنه عميل للشتازي ما يجعل الكل متخوفاً من التعامل معه".
أسلوب السطو واقتحام المنازل لأجل مصادرة وثائق رسمية للمستهدفين كان من الأساليب التي يعتمدها الشتازي. ولأجل إخفاء الهدف الرئيسي للعملية، يتم السطو كذلك على مقتنيات ثمينة لإيهام المستهدف أنها سرقة عادية وليست عملية نظام دولة كما تؤكد على ذلك الوثائق المنشورة.
الجنون والانتحار
لا تصل نتيجة "التدمير النفسي" إلى التوقف عن النشاط السياسي فحسب، كما فعل كنابه الذي كان أحد ضحايا تلك الاستراتيجية، بل هناك تقارير تتحدث عن وصول ضحايا إلى الجنون وتضرّر حياتهم الخاصة وهناك اشتباه في حالات انتحار، خاصة بعدما تيقن عدد منهم أن جهاز الشتازي هو من يقف وراء ما يجري وأنها كانت استراتيجية قوية للغاية لدرجة اعتمادها سلاحاً نفسياً مدمراً.
يقول كنابه إن جهاز شتازي نجح في إجباره "على إيقاف بعض أنشطته، وفي الوقت نفسه كانت الرسائل غير المباشرة التي تصله مفادها أنه لا أحد يريد تخويفه". يتساءل كنابه: "كيف تقول إنك لا تريد تخويفي وأنت تتبع مثل هذه الوسائل وغيرها معي؟".
ويضيف كنابه: "بالطبع اضطررت لوقف أنشطتي في ذلك الوقت. لكن ما حدث معي مجرد مثال شخصي..أعرف الكثير من الحالات الأخرى، حيث كانت هذه الأساليب ناجحة جداً، لأنك ستصاب بالذعر من تلك الملاحقة الخفية، كما لن يكون لديك الوقت لأيّ أنشطة معارضة إذا خلقوا لك المشاكل في العمل وفي حياتك الخاصة".
التتمة في الجزء الثاني: التدمير النفسي.. كيف ألهمت ألمانيا الشرقية أجهزة القمع عبر العالم؟
إسماعيل عزام/عماد حسن