"التحلل"..كيف ألهمت ألمانيا الشرقية أجهزة القمع عبر العالم؟
٤ مايو ٢٠٢١في الجزء الأول من هذا التحقيق تناولنا بالحديث الخلفية التاريخية لاستراتيجية التفكك/التحلّل (Zersetzung) أو (التدمير النفسي) وكيف أن وزارة أمن الدولة في عهد ألمانيا الشرقية "الشتازي" قد جعلت منه أكثر أساليبها فعالية في مواجهة المعارضين لسياسات ألمانيا الشرقية، وكيف تسببت تلك الاستراتيجية في وقف النشاط السياسي للبعض، وتسببت بمشاكل كبيرة للبعض الآخر.
تابع الجزء الأول هذا التقرير من هنا: "التحلل".. تكتيك ألمانيا الشرقية لتدمير المعارضين دون أيّ أثر للدولة!
في الجزء الثاني من هذا التحقيق سنتعرف على أحد أبرز طرق تنفيذ هذه الاستراتيجية، وحول ما إذا كان قد تم تصديرها إلى دول أخرى أم لا.
الجنس.. الأسلوب الأكثر قذارة
سقط كثير من الاشخاص والمؤسسات ضحايا لهذه الممارسات، واستطاع كثير منهم العثور على أسمائهم في الوثائق السرية بعد اقتحام مقرات الشتازي. جمعت هيئات ألمانيا الموحدة بعد سقوط جدار برلين عدداً من هذه الوثائق وأتاحتها للعامة سواء على مواقعها الإلكترونية أو للاطلاع عليها في عين المكان.
ومن بين الوثائق المنشورة، وثيقة تركز على طريقة استهداف منظمة غير حكومية تحمل اسم " فريدنسكرايس بانكو" (مجموعة السلام في بانكو) أسسها معارضون في ألمانيا الشرقية، لديها خلفية دينية كنسية، وتهدف للتشجيع على السلم العالمي، علما بأن بانكو، كان آنذاك أحد أحياء برلين الشرقية.
تعرّضت المنظمة لعمليات تجسس واسعة منذ نشأتها وكُتب اسمها في قائمة التنظيمات المعادية للدولة. وضع الشتازي خطة لتدميرها، واستطاع اختراق عدد من الفعاليات التي نظمتها، إلى أن تمكن من وقف جلّ أنشطتها.
ولأجل بلوغ الهدف، قام الشتازي باتباع أساليب قذرة لزعزعة العلاقات الاجتماعية لأفراد المنظمة، إذ تشير الوثيقة الرسمية إلى أنه على المندس أن يتحدث مع عضو معين من المنظمة حول علاقة جنسية بين زوجته وعضو آخر من المنظمة، ويعترف الشتازي بأن الهدف هو "إرباك العلاقة وكسر الثقة بين الزوجين".
كما سيقوم مندس آخر بالتغلغل في المنظمة والتظاهر أنه أضحى من الأعضاء المتدينين، ليشرع لاحقاً في نشر إشاعات بوجود علاقات خيانة زوجية ووجود حياة فاسدة لعدد من أعضاء المنظمة، ولأجل ذلك يقوم بإظهار صور مفبركة يصممها قسم خاص في الشتازي، حتى يتمكن العضو المندس من زعزعة الثقة بين أفراد المنظمة.
بل خطط الشتازي لإرسال عميلة مندسة لأجل دفع أحد المستهدفين إلى علاقة جنسية، حتى يستطيع الجهاز الحصول على أو خلق موادٍ يمكن استخدامها للتأثير على العلاقة الزوجية للشخص المستهدف.
يقول هوبيرتوس كنابه، المؤرخ الألماني المتخصص في تاريخ "ألمانيا الشرقية" : "كانوا يحاولون تدمير العلاقات الخاصة عبر إرسالهم لعملاء يحاولون إقامة علاقات جنسية معك فيما يعرف بـ'مصيدة العسل'، وحدث ذلك مع إرسالهم لعميل بهدف خلق علاقة مع معارضة معروفة لأجل تدمير علاقتها بزوجها".
رائحة "التدمير النفسي" عربياً
المتابع للمشهد السياسي في الكثير من الدول العربية سيتمكن من التعرف على بعض الأساليب التي تتبع إستراتيجية "التدمير النفسي" ضد المعارضين والحقوقيين، خصوصا أسلوب تشويه السمعة.
من أبرز أوجه التشابه بين استراتيجية الشتازي وأساليب مستخدمة في دول عربية كبيرة هي صحافة التشهير التي تجنح نحو نشر صور وفيديوهات شديدة الخصوصية لمعارضين أو منتقدين للسلطات، وهي المواد التي لا يمكن الحصول عليها إلا بدعم من السلطة أو بتستر منها.
وعلى الرغم من أن قادة الشتازي أتلفوا آلاف الوثائق قبيل سقوط جدار برلين، إلا أن الجهات الأخرى المتعاونة مع الشتازي احتفظت بقدر كبير من تلك الوثائق. وكانت لهذا الجهاز علاقات قوية بأجهزة أمنية عبر العالم ومنها بعض الدول العربية خاصة منها المحسوبة على التيار الاشتراكي كأنظمة ليبيا وسوريا.
"هناك عدة ملفات ووثائق تؤكد وجود روابط مباشرة بين بلدان عربية كسوريا ومصر والعراق وكذلك إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية مع ألمانيا الشرقية، ولم تكن الروابط سرية نظراً لوجود تحالف في الجهة المقابلة بين إسرائيل ودول غربية أخرى"، يقول المؤرخ ينس غيزكه، المتخصص في تاريخ ألمانيا الشرقية.
من جهته، يؤكد هوبيرتوس كنابه على وجود نوع من التعاون الوثيق بين شتازي وبعض أجهزة المخابرات في المنطقة العربية، خاصة مع سوريا والعراق، وأيضاً مع دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا وموزمبيق وأنغولا وما إلى ذلك. ويقول: "بالطبع، كان هناك مستشارون من الشتازي يخبرون أجهزة الأمن في هذه الدول بكيفية تنظيم عمل الأجهزة القمعية".
لكن هل هناك تطبيق مباشر لـ"التدمير النفسي" عربياً؟ خصوصا أن معارضين كثر في أكثر من دولة عربية قرّروا الابتعاد عن الأضواء بشكل غير مفهوم ودون تفسير معلن؟
يجيب كنابه: "لست متأكدًا من اتباع تلك الأساليب بشكل مباشر لكن البعض يقول إن ذلك يحدث هناك". يعطي كنابه مثالاً من تونس قبل الثورة: "لم يتم دائماً اعتقال نشطاء حقوق الإنسان، لكن كان يتم خلق صعوبات لهم في حياتهم الشخصية لوقف نشاطهم".
وهناك مثال آخر قريب نوعًا مًا: "صديق من مصر أخبرني بوجود أساليب قريبة من أساليب الشتازي كاتهام سيدة أن سلوكها مشين وعليها أن تخضع لفحص طبي للتحقيق من عذريتها" يقول كنابه، (يقصد كشوف العذرية التي أجريت لعدة ناشطات مصريات وأثارت وقتها فضيحة دولية للنظام المصري).
لا يوجد تأكيد مادي على تصدير سلاح "التدمير النفسي" لدول أخرى، يوضح غيزكه، لكنه يستدرك: "يمكنني القول دون أيّ ضمان، وباستنتاج خاص، إنه إذا كانت الظروف مشابهة في محيط سياسي، فسيكون من المهم للغاية لأنظمة حكم عبر العالم استخدام هذه الأساليب، خاصة إذا كانت هذه الأنظمة مهتمة برسم صورة إيجابية لها أمام المجتمع الدولي، وبالتالي عدم استخدام أساليب الاعتقال المباشر للمعارضين. أما إذا كانت لا تهتم فتعتمد على الطرق التقليدية للقمع".
الاعتقال بالجرائم الجنسية.. إرث للشتازي؟
تعتمد استراتيجية "التدمير النفسي" على محو أيّ آثار لتدخل الدولة وعدم استخدام العقوبات القانونية من الأصل. لكن في المقابل، تنامى مؤخراً استخدام أساليب اعتقال المعارضين بناءً على تهم من القانون الجنائي، خاصة تهم الجرائم الجنسية، وهو تكتيك قديم- جديد يهدف إلى تقليل تعاطف الرأي العام مع المستهدفين وخلق حالة من الجدل حول إذا ما كانوا بالفعل قد اقترفوا هذه الجرائم أم لا.
لكن هل يمكن حقا تصوير هذا التكتيك على أنه إرث للشتازي؟ أم إنها مصادفة؟
يقول غيزكه: "أعرف شخصيات كثيرة مثلاً في روسيا تم اعتقالها بناء على جرائم غير سياسية، لكن الأمر لا يشبه إجراءات 'التحلل' لأن هذه الأخيرة تبقى دون أيّ تدخل مباشر من الدولة. بل يكون التدخل غير مرئي". ويتابع: "صحيح أن هناك تشابهاً على درجة معينة، لكن لا يمكن القول إنه تطبيق مباشر لإجراءات الشتازي في السبعينيات والثمانيينات" من القرن الماضي.
ويؤكد ينس غيزكه على أن "عمل الشرطة السرية عبر العالم يقوم على استخدام طرق غير مباشرة أو خفية لمعاقبة أحد الأشخاص، مستندين في ذلك على توصيف الأمر بأنه جريمة جنائية بدل جريمة سياسية"، لكنه يستطرد: "سأكون متردداً حيال ربط هذه التقنيات بشكل مباشر مع أساليب الشتازي".
بيدَ أنه بشكل عام هناك دراسة لهذه الأساليب، وفق ما يقوله كنابه من جهة أخرى: "أنا متأكد من أن موظفي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية عبر العالم يدرسون أساليب الجهات الأمنية الأخرى بهدف الخروج بمبادئ توجيهية".
ويتابع: "أساليب شتازي كانت متاحة للعالم بعد إتاحة أرشيف هذا الجهاز للجميع إثر سقوط نظام ألمانيا الشرقية"، مضيفاً: "كل هذا الكم من الوثائق استفادت منه أجهزة أمنية حول العالم، خصوصاً حول إنشاء أجهزة أمنية سرية خاصة بها شديدة التعقيد في عملها وشديدة التقدم".
التكنولوجيا في الخدمة
لو استمر نظام ألمانيا الشرقية إلى الآن، فمن المؤكد أن جهاز الشتازي كان سيستخدم كل التقنيات المتاحة، ومنها الانترنت. ومع التقدم التكنولوجي واعتمادنا بشكل شبه مطلق على الهواتف المحمولة والحواسيب أضحت بياناتنا منتشرة على العديد من المنصات. ورغم كل الحذر، فشركات توفير الانترنت قادرة على معرفة نشاط المستخدم على الانترنت ومن ذلك ما يتصفحه ومساراته على الطريق.
لكن هل تسقط هذه البيانات في أيدي الأنظمة؟ الأمر ليس مستبعداً، خصوصاً مع برمجيات التجسس المنتشرة التي تخترق الهواتف بسهولة كما هو الحال مع برمجية بيغاسوس التي طورتها "إن.إس.أو" الإسرائيلية والتي بيعت إلى دول متعددة واستخدمت في التجسس كما أكد ذلك مختبر "سيتيزن لاب" في كندا. الحصول على هذا الكم من البيانات يفتح أمام أساليب "التدميرالنفسي" مساحات كبيرة للاشتغال.
"الأساليب التكنولوجية والرقمية الحالية وتزايد استخدام والاعتماد على الهواتف الذكية كلها أمور تمهد الطريق لمخابرات أيّ دولة تريد الدخول إلى الحياة الخاصة لأحدهم لأنه صار من السهل تعقب الشخص عبر التكنولوجيا التي يستخدمها" يقول غيزكه، لكن هناك جانب إيجابي آخر للإنترنت وفق قوله: "يستطيع المعارضون التجمع عبر الانترنت.. وهناك عدة طرق مختلفة للتواصل (المشفر) فيما بينهم. لذلك يوجد لدى الطرفين فرص للعمل، كلٌ في مجاله في العالم الرقمي".
إسماعيل عزام/ عماد حسن/ ص.ش