التعليم في العراق – ماض مشرق وحاضر مثقل بعدم الاستقرار
٧ مايو ٢٠١٢قُيل إن مصر تؤلف، ولبنان تطبع والعراق يقرأ، وهذا يدلّ على أن نسبة العراقيين المتعلمين كانت عالية جداً، إذ كانوا شغوفين بالعلم والمعرفة والقراءة شغفاً كبيراً. وكان شارع المتنبي في العاصمة بغداد، والذي يطلق عليه العراقيون شارع الكتب، شارعاً معروفاً في كل أنحاء العالم العربي. وما أن يُذكر اسمه في القاهرة أو في بيروت أو في أي مكان من الشرق الأوسط، حتى تتوهج العيون بالبهجة وتتألق الذكريات.
لم تكن بغداد مركزاً للتجارة واللهو فقط، بل كانت أيضاً مركزاً للفنون والثقافة والتعليم أيضاً. لذلك دأب المثقفون العراقيون على أن يقصدوا شارع المتنبي، ويرجعون محملين بالكتب المستعملة أو الجديدة منها. إلا أن هذا الشارع، ومنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بات عرضة لهجمات إرهابية عنيفة، راح ضحيتها عشرات العراقيين ما بين قتيل وجريح، ودمرت العشرات من المطابع وعدد كبير من المكتبات عن بكرة أبيها، لاسيما تلك التي تعتبر من أكبر وأغنى المكتبات في العراق.
ولا تقل شهرة مقهى الشهبندر عن شهرة شارع المتنبي، حيث كان الكتاب والفنانون والسينمائيون والمثقفون يلتقون فيه لتبادل الأفكار والمعلومات. هكذا كانت إذاً نخبة المجتمع العراقي في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، وهكذا كانت صورة العراق في كل أنحاء العالم.
قيمة كبيرة للتعليم
"كانت للتعليم قيمة كبيرة للغاية"، يتذكر رياض قدو الذي درس الهندسة وأكمل فترة التدريب في لندن. وكان والداه قد عاشا في الولايات المتحدة لتلقي الدراسة الجامعية، إذ كانت الحكومة العراقية تقدم المنح الدراسية للطلبة بسخاء وتوفدهم إلى أوروبا وأميركا، وأنفقت الملايين عليهم في الخارج. وكانت سياسة التعليم في العراق تقوم على إيفاد المتفوقين في إنهاء الدراسة الثانوية، أو ما تسمى في العراق: البكالوريا، للدراسة في بريطانيا وألمانيا وأمريكا.
أما الذين كانوا يحصلون على علامات أقل، فكانوا يوفدون إلى الاتحاد السوفيتي أو دول أوروبا الشرقية أو مصر. وبعد انتهاء هؤلاء الطلبة من دراستهم في الخارج كانوا يعودون إلى بلدهم، حيث تنتظرهم فرص عمل جيدة، كما قدمت لهم الحكومة المنازل الراقية، مع امتيازات أخرى كثيرة. "لهذه الأسباب كان كل شخص في ذلك الوقت لديه الرغبة في الحصول على تعليم جيد"، يقول قدو شارحاً أسباب إقبال أبناء وطنه على التعليم.
وفي الحديث معه عن الأوضاع الحالية في العراق يقول المهندس في عقده الخامس من العمر: "ما زالت الرغبة موجودة لدى الناس في الحصول على درجة عالية من التعليم، ولكن الآن اختلف كل شيء. في ذلك الوقت كان الدينار العراقي الواحد يساوي ثلاثة دولارات أمريكية، أما الآن أصبح الدولار الواحد يساوي 1200 دينار. كما أن البلد شهد انحداراً لم يسبق له مثيل في كافة المستويات، وبكل معنى الكلمة".
عزلة دولية وغياب التبادل الأكاديمي
هول الدمار في العراق بسبب الحروب المتتالية أنهك بنيته في كافة المجالات بوتيرة، لم تسلم منها حتى العقول، ما أثر سلباً في تطور النخبة، فحرب الكويت وما تبعها من عقوبات اقتصادية مطلع تسعينات القرن الماضي، أضعفت البلد بشكل كبير. وإثر قرار الأمم المتحدة بفرض منطقة حظر طيران على شمال العراق منح الأكراد حماية من عدوان صدام حسين واضطهاده لهم، فقد أخذ الإقليم الكردي منحى آخر من التطور مقارنة ببقية المناطق العراقية الأخرى. من جهة أخرى كان هذا القرار حاجزاً أمام التقدم على مستوى العراق ككل، لذلك أصبح من المستحيل تفعيل التبادل الأكاديمي كما كان في السابق.
وبدأت التقاليد البالية للأسرة تفرض وجودها في مجال التعليم، إذ سُمح للذكور بالالتحاق بالمدارس، أما الفتيات فكان يجب عليهن البقاء في المنزل، وأجبر الكثير منهن، ممن كنّ في المدرسة، على تركها قبل الحصول على مؤهلات تعليمية تضمن مستقبلهن. كما فرّ آلاف الأكراد من بطش الدكتاتور إلى الخارج. وفي زمن العزلة الدولية على العراق تبتعهم آلاف أخرى أيضاً.
مناطق العراق الأخرى كانت تعيش عزلة أيضاً، وإن كانت مختلفة بعض الشيء، فبسبب الحصار المفروض على العراق عمّ الفقر في البلاد، وتردت أحوال المدارس والجامعات وقل الاهتمام بها. وعندما أطيح بنظام صدام حسين في نيسان/ أبريل 2003 كانت تجهيزات أغلب الجامعات هي من بقايا تجهيزات سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، إضافة إلى توقف المنح الدراسية إلى الخارج.
هجمات على النخب الثقافية والأكاديمية
مع دخول القوات الأمريكية والبريطانية إلى العراق أزداد الإرهاب شدة، وكان تأثيره على أساتذة الجامعات ومعلمي المدارس كبيراً جداً. وأدى هذا الأمر إلى هجرة الأدمغة والنخبة المثقفة بشكل متزايد إلى الخارج هرباً من جحيم الإرهاب. وأصبحت ملاحقة الإرهابيين للنخبة من الأساتذة الجامعيين والمعلمين والأطباء والمحامين والسياسيين وتهديدها أو خطفهم واغتيالهم من الأمور الاعتيادية في العراق، إضافة إلى الهجمات الإرهابية أمام مباني الجامعات.
في 5 آذار/ مارس 2007 أدى انفجار سيارتين مفخختين في شارع المتنبي إلى دمار هائل ومقتل أكثر من مائة شخص، ومازالت بعض آثار ذلك الدمار ماثلة حتى يومنا هذا. بالنسبة للكثيرين شكل هذا الهجوم نهاية للأمة التي اشتهرت يوماً بالعلم والثقافة والفنون، فقد هجر بغداد في السنوات التسعة الماضية أكثر من مليون شخص، بينهم الكثير من المتعلمين والمثقفين والكتاب والشعراء. صحيح أن الأعمال الإرهابية انخفضت بشكل كبير في السنتين الأخيرتين، وعاد القليل ممن هاجر بغداد إلى بيوتهم، لكن الكثير منهم ما زال باقياً في المهجر بسبب عدم الثقة بالوضع الأمني المتردي.
إصلاح التعليم في كردستان العراق
في كردستان العراق تطورت الحالة في السنوات الأخيرة باتجاه مختلف تماماً عما عليه الحال في أنحاء أخرى من العراق. فقد كان الإقليم الكردي بعيداً إلى حد كبير عن الإرهاب، لذلك وجد العديد من المعلمين وأساتذة الجامعات من بغداد مأوى لهم في أربيل ودهوك والسليمانية، المحافظات الثلاثة المكونة لإقليم كردستان العراق. وها هم الآن يعلّمون ويحاضرون هناك أيضاً، إضافة إلى الآلاف من الأكراد، الذين عادوا من المنفى لتقديم خبراتهم التي حصلوا عليها في أوروبا والولايات المتحدة، ومن أجل المشاركة في بناء مجتمع متقدم.
وقبل ثلاث سنوات اعتمد وزير التربية في حكومة إقليم كردستان، والذي كان يعيش في السويد، نظام التعليم السويدي في المدارس. وحسب قول مازن رسول أحد العائدين من نورنبرغ الألمانية: "إصلاح المؤسسات التعليمية في كردستان خطوة جديرة بالاهتمام". ومازن رسول البالغ من العمر أربعين عاماً، يعمل كرئيس إداري في المدرسة الألمانية، التي تأسست قبل عامين في أربيل.
أما مدير المدرسة يورغن إندَر فيؤكد أن أساليب التدريس القديمة ما زالت قائمة رغم اعتماد النظام السويدي، إذ ما زال التلاميذ بعيدين عن أسلوب البحث العلمي المطبق في السويد وفي كل أوروبا. وربما يستغرق الأمر بعض الوقت إلى أن تطبق المناهج التعليمية الأوروبية. وحالياً يخرج التلاميذ في كردستان العراق إلى الشوارع للاحتجاج على الضغوط النفسية جراء الصعوبة التي يلاقونها في تطبيق المنهج التعليمي السويدي الجديد.
بيرغت سفينسون/ فؤاد آل عواد
مراجعة: عماد غانم