الخلود إلى الراحة يفاقم الاكتئاب النفسي
١٤ أكتوبر ٢٠١١حذرت منظمة الصحة العالمية من أن يصبح الاكتئاب أحد أكبر التحديات الطبية التي قد يصعب علاجها حالياً وفي المستقبل، بل وتتكهن المنظمة في أن يغدو الاكتئاب ثاني أوسع عبء صحي يستلزم علاجه في العالم بحلول عام 2020. وفي ألمانيا وحدها يعاني حوالي أربعة ملايين شخص من اكتئابات نفسية تستلزم العلاج العاجل، فيما تؤكد الإحصائيات أن سُبْع المصابين بالاكتئاب يلجأون إلى الانتحار.
وعُقِد مؤخراً في مدينة لايبزيغ شرق ألمانيا المؤتمر الأول للمصابين بالاكتئاب وحضره أكثر من ألف مشارك من المصابين بالمرض وأقرباؤهم مع عدد من الأطباء والعلماء كي يتمكنوا من تعميق معرفتهم بهذا المرض وخاصة من وجهة نظر المرضى أنفسهم.
التخلص من الاكتئاب الحاد ممكن
وفي قاعة المؤتمر وقف المريض السابق بالاكتئاب توماس مولار روريش على منصة الميكروفون وأخذ يروي بثقة كبيرة بالنفس تجربته السابقة مع هذا المرض وآذان الحاضرين تصغي له باهتمام. ولو كان لا يزال مصاباً بالاكتئاب، الذي عانى منه لمدة أربعة أعوام، لما استطاع إلقاء كلمته في هذا اليوم وبهذه الثقة أمام كل هذا الجمع من الحاضرين.
عانى توماس، الذي يعمل مديراً لشركة، من اكتئاب نفسي حاد في الماضي وتوجه حينها عدة مرات إلى الطبيب، وحتى بعد قضائه فترة الإجازة لم يشعر بأي تحسُّن كما يقول ذلك بنفسه:" أعراض الاكتئاب لدي بدأت بإحساس شبيه بالزكام وبالضعف وبفقدان الشهية. وكان لديّ شعور بالخوف. ولم أعرف سبب تخييم الخوف على نفسيتي. واكتسحني شعور بأني لم أعد قادراً على الذهاب إلى شركتي والعمل فيها كالمعتاد، فأخذتُ إجازة لمدة أسبوع وتحسّنَت صحتي قليلاً ولكن حالتي ما لبثت أن تفاقمت إلى الأسوء من جديد".
هل كان ذلك إجهاداً بسبب العمل الزائد عن الحد؟ أم أنه كان اكتئاباً نفسياً؟ كان توماس يحب عمله ويستمع به، ولم يستطِع تحديد مشكلته في البداية. وذهب مراراً وتكراراً إلى الطبيب لتحديد المشكلة، كما يقول توماس:" اعتقدتُ أن مرضي غير معروف أو صعب التشخيص، وخُيّل إليّ أنه قد يكون لديّ فقر في الدم أو ورم خبيث في المخ. وطلبتُ من طبيبي أن يجري لي فحوصات طبية كثيرة جداً، لدرجة أن الطبيب بدأ ينظر إلى حالتي بشيء من عدم الجدية، لأن نتائج التشخيص لم تـُشِر إلى وجود أي مرض فِعْليّ لديّ، فنصحني الطبيب ككل الأطباء بأن أذهب في إجازة مجدداً".
وراء كل إجهاد جسدي يقف اكتئاب نفسي
تؤكد الإحصائيات بأن حوالي عشرة في المئة من المرضى الذين يذهبون إلى الأطباء يعانون في الحقيقة من اكتئاب نفسي خفي لا يمكن تشخيصه بسهولة. صحيح أن هناك نسبة كبيرة من المرضى يعانون من إجهاد جسدي حاد بسبب العمل المستمر في طلب لقمة العيش والصعوبات المتعلقة به، لكن البروفيسور أولريش هيغيرل المتخصص في علم النفس والأعصاب في مستشفى مدينة لايبزيغ الألمانية يرى أن وراء كل إجهاد جسدي يقف اكتئاب نفسي غالباً. ولا ينصح الطبيب المكتئبين بأخذ أقساط طويلة من الراحة، ويضيف:" المصابون بإجهاد جسدي يُنصَحون عادةً بالنوم لوقت أطول أو بأخذ إجازة أو ما إلى ذلك، لكن هذا غير مُجْدٍ في حالة المصابين باكتئاب نفسي. بل على العكس من ذلك: النوم الكثير يزيد الاكتئاب سوءاً. بل إن الحرمان من النوم قد يكون أكثر فعالية في معالجة الاكتئاب. ولا أنصح المصابين بالاكتئاب أبدأ بأخذ إجازات أو بالسفر في محاولة منهم للقضاء على مرضهم، لأنه سيبقى معهم وسيسافر معهم أينما حلوا. وباختصار: العطلة تؤدي إلى تفاقم الاكتئاب".
ذهب توماس إلى طبيب آخر وشعر بالسعادة حينما عرف أخيراً سبب معاناته، وهو الاكتئاب. فكثير من من المصابين بالاكتئاب يبدو عليهم ظاهرياً أنهم سليمو الجسد وفي حالة صحية جيدة، لكن مشكلتهم في الحقيقة هي أنهم لا يستطيعون أحياناً إنجاز أبسط أمورهم اليومية، ويصبح تنظيف أسنانهم مثلاً كل يوم صباحاً مهمة صعبة يفضلون عدم القيام بها. وهذا هو سبب أن الكثيرين من الأصحّاء لا يستطيعون تفهّم المصابين بالاكتئاب لأن مرضهم خفيّ. ويرى الخبير أولريش هيغيرل أن الاكتئاب ليس مجرد اضطراب في المزاج بل إنه مرض خطير ينبغي الانتباه إليه، قائلاً: "لدينا مرضى مصابون بالاكتئاب الحاد. ونحن نعتبر حالتهم ملحة وطارئة تسلتزم الاسعاف. مثلها في ذلك مثل أي مرض عاجل آخر كالتهاب الزائدة الدودية مثلاً . فاحتمال الانتحار لدى المصابين باكتئاب حاد يكون كبيراً وكثيرون منهم يحاولون الانتحار بالفعل. لكن الحالات تتنوع من حالات الاكتئاب الخفيف إلى حالات الاكتئاب الوسَط، الذي يكون عادةً كرد فعل بسبب فقدان المرء لشريك الحياة مثلاً أو إصابته بنوبات قلبية أو لأنه تقاعد وأصبح لازماً عليه العيش في دار المسنين مثلاً، أو لأي سبب آخر يؤدي إلى تغير كبير في نمط الحياة".
مجابهة الاكتئاب بالنشاط اليومي
الحزن والشعور بالتعاسة من جزئيات الحياة العادية لكل شخص، لكن في حالات الاكتئاب تخيِّم هذه الأجواء على كامل جسد المصاب وروحه. ويتفق الخبراء من اختصاصات مختلفة على أن المعالجة النفسية تكون مناسبة لحالات الاكتئاب الخفيف والمتوسط وأن تناوُل الأدوية المضادة للاكتئاب لا تكون ضرورية إلا في حالات الاكتئاب الحاد. لكن الواقع يظهر جدلاً بين الخبراء حول هذا الطرح، كما يقول توماس:" المعالج النفسي يقول: أنا لا أريد أن يتناول مريضي أدوية ضد الاكتئاب لأنه بذلك يلهي نفسه عن مشكلته الحقيقية وبالتالي فأنا لا أستطيع في هذه الحالة معالجة مريضي نفسياً. فيما يقول طبيب الأعصاب: الأدوية مهمة لأن مريضي ليس بخير ولا يمكن علاجه نفسياً لأن الاكتئاب لديه حاد للغاية".
تمكن توماس من مجابهة مرضه والتخلص منه، لكنه لا يزال مهتماً جداً بموضوع الاكتئاب سعياً منه لإفادة المرضى الآخرين من خلال تجربته. وقد انضم إلى الجمعية الألمانية للمصابين بالاكتئاب لهذا الغرض، وهو ينصحهم بألا يعزلوا أنفسهم وبأن ينغمسوا في نشاطات يومية في محيطهم مع الآخرين. وهذا ما أجمع عليه المرضى والخبراء في المؤتمر الأول للمصابين بالاكتئاب في مدينة لايبزيغ الألمانية، كما يقول الخبير أولريش هيغيرل: "على المرضى تبادل المعرفة والخبرة فيما بينهم . وعليهم أن يرفعوا أصواتهم معبّرين عن مشاكلهم وأن يُخرجوا ما في صدورهم من معاناة، لأن المصابين بالاكتئاب يميلون إلى العزلة والشعور بالذنب عادةً، وعليهم تعلم طرح مطالبهم والدفاع عنها"، كي يستطيعوا مساعدة أنفسهم وأن يساعدوا الآخرين في تفهّم حالهم.
كلاوديا روبي / علي المخلافي
مراجعة:هبة الله إسماعيل