الديمقراطية الفرنسية أمام تحدي تدخل "لوبي" المال في السياسة
٨ يونيو ٢٠٢٥
ترقَّب الفرنسيون الاستماع إلى الملياردير الفرنسي بيير إدوارد ستيرين بفارغ الصبر. وكان من المفترض يُكشف في ذلك عن تفاصيل "نظام بيئي حقيقي للغزو السياسي"، بحسب تعبير عضو في لجنة التحقيق البرلمانية.
وكان من المزمع استجواب رجل الأعمال سترين - صاحب شركة سمارت بوكس، التي تُقدّم هدايا تجريبية - حول مشروعه "بيريكليس"، الذي استثمر من خلاله نحو 30 مليون يورو في مبادرات تُمثِّل قيمًا محافظة. بيد أنَّ الملياردير الفرنسي لم يحظر وظلّ مقعده فارغًا داخل قاعة في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي).
وفي هذا الصدد قال توماس كازيناف، النائب البرلماني عن ائتلاف "إنسامبل!" الحاكم ورئيس لجنة الاستماع: "لقد أبلغنا يوم أمس السيد ستيرين بأنَّه يريد الإدلاء بشهادته عبر اتصال فيديو لأسباب أمنية". وأضاف: "أجبته أنَّنا اتخذنا إجراءات حماية، كما نفعل من أجل البرلمانيين المعرضين للتهديد بشكل مستمر".
وكذلك أعرب كازيناف عن أسفه على هذه "المراوغة". فهكذا لا يمكن - بحسب تعبيره - التحقق من التزام مشروع "بيريكليس" بالقوانين الفرنسية الخاصة بتمويل الأحزاب. وستيرين ليس الملياردير الوحيد الذي يحاول توجيه الرأي العام في فرنسا نحو اليمين. ولذلك يطالب البعض بقوانين وقواعد أكثر صرامة.
حاضنة اليمين الفرنسي
غير أنَّ المدير العام لمشروع "بيريكليس" كان قد وصل قبل ذلك بأسبوع إلى جلسة استماعه. حيث قال أرنو ريرول للجنة الاستماع: "وضع بلدنا الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي حرج. نحن حاضنة للمشاريع ذات التوجهات السياسية المتطرفة على يمين الطيف السياسي. وحتى الآن، لم ندعم سوى أقل من 15% من أصل 600 طلب".
ومن بين هذه المشاريع مجلة يمينية اسمها "الخطأ" (L'Incorrect)، وكذلك "مرصد إنهاء الاستعمار"، الذي يندّد بأمور منها معاداة تنوير مزعومة عن طريق "الصحوات". وتعمل حركات الصحوات بقوة ضد التمييز. ولكن ريرول لم يكشف إلا عن بعض المشاريع التي يدعمها مشروعه "بيريكليس"، الذي أضاف أنَّه لا يموّل أي مرشحين للانتخابات. فهذا مسموح بموجب القانون الفرنسي للأحزاب السياسية فقط.
"مشكلة للديمقراطية"
بيير إيف كادالين نائب برلماني عن حزب فرنسا الأبية(LFI) اليساري المتطرف وكذلك نائب رئيس لجنة التحقيق البرلمانية. وهو يرى أنَّ تصريحات ريرول غامضة للغاية. وحول ذلك قال كادالين لـDW إنَّ "صحيفة لومانيتيه نشرت وثيقة داخلية تفيد بأنَّ بيريكليس يريد مساعدة حزب التجمع الوطني (RN) اليميني المتطرف على اكتساح 300 مدينة في الانتخابات البلدية لعام 2026".
ومن جانبه أكَّد ريرول في جلسة الاستماع أنَّ هذه الوثيقة حقيقية، ولكنه وصفها بأنَّها "قديمة". ويريد مشروع بيريكليس بحسب هذه الوثيقة إنفاق 150 مليون يورو خلال عشرة أعوام من أجل مكافحة الإسلاموية والهجرة وأيديولوجيا النوع الاجتماعي، والعمل على الفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2027. وقد اعتبرت الوثيقة زعيم حزب التجمع الوطني جوردان بارديلا مارين لوبان "شخصين موثوق بها" في ذلك.
"هذه مشكلة للديمقراطية عندما يتدخل المليارديرات بهذا الشكل في الحياة السياسية"، كما يقول كادالين، ولا يعني بذلك ستيرين وحده. حيث يملك في فرنسا أحد عشر مليارديرًا 80 بالمائة من الصحافة اليومية. وتجمع محطاتهم التلفزيونية والإذاعية أكثر من نصف عدد المشاهدين المستمعين.
وكذلك ينصب الضوء أيضًا على فينسنت بولوريه، الذي يملك غالبية أسهم مجموعة لوجستية واتصالات تحمل اسمه. وقال كادالين إنَّ بولوريه يمارس "نفوذًا كبيرًا: من خلال قناته الإخبارية Cnews وإذاعة Europe 1 وصحيفة JDD الأسبوعية ومعهد استطلاعات الرأي CSA. وهذه الوسائل الإعلامية لديها مجتمعة قوة تأثير وتنشر آراءً يمينية تتبناها وسائل إعلام أخرى".
وهذا لم يحدث حتى الآن بهذا الشكل، كما يقول أبيل فرانسوا، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة ستراسبورغ الفرنسية: "في الماضي كان المليارديرات يشترون وسائل الإعلام، مثلًا حتى يجعلون السياسيين يفضلونهم في المناقصات العامة. أما اليوم فهم يريدون نشر أيديولوجيا معينة"، كما قال لـWD. وبولوري يدّعي رسميًا عدم ممارسته أي تأثير على محتوى وسائله الإعلامية. ولم تتلق DW أي جواب على طلبها إجراء مقابلة معه وكذلك مع بيريكليس.
خوف من انتقاد "إمبراطورية بولوريه"
وتركيز السوق الإعلامية له في ذلك آثار بعيدة المدى. "إذ يسود شكل من الرقابة الذاتية بين الصحفيين فيما يتعلق بهؤلاء المليارديرات. وذلك لأنَّ الصحفيين قد يفسدون في نهاية المطاف علاقتهم بصاحب عمل محتمل"، كما قال لـDW أموري دي روشغوند، الصحفي الاقتصادي في مجلة "ستراتيجيز" الأسبوعية وإذاعة فرنسا الدولية (RFI).
زد على ذلك أنَّ بولوريه وستيرين يوحدان صفوفهما. "فقد التقيا ويبدو أنَّهما يريدان تشكيل اتحاد بين اليمين، أي جناح الجمهوريين المحافظ والجبهة الوطنية".
لقد شهد أليكسيس ليفرير، وهو مؤرخ إعلامي في جامعة ريمس، ما تعنيه مواجهة هذه الإمبراطورية. وحول ذلك يقول: "تلقيت آلاف الرسائل - إهانات وكذلك تهديدات بالقتل، كان إحداها من تاجر أسلحة".
وكان السبب مقابلة أجراها في نهاية شباط/فبراير وطالب فيها ليفرير بسحب ترخيص قناة CNews، وكذلك قناة C8، وهي قناة أخرى يملكها بولوري، وتلقت قبل ذلك عشرات التحذيرات لأسباب منها التمييز الجنسي والهوموفوبيا. وحوار ليفرييه مع DW يعد من أول حواراته منذ هذا الحادث. ويقول: "لم يعد العديد من زملائي الباحثين يجرؤون على انتقاد إمبراطورية بولوريه. وكذلك صمت صوت المبدعين الثقافيين في فرنسا. بينما كانوا تقليديًا مدافعين عن القيم الإنسانية".
ومع ذلك فإنَّ ستيرين وبولوريه مجرد استثناء بالنسبة لهيرفي جولي، المؤرخ في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS). وحول ذلك قال لـDW: "حزب التجمع الوطني لا يوجد لديه تقريبًا أي مؤيدين معروفين بين رجال الأعمال. وأربابُ العمل لم يدعموا تاريخيًا اليمينَ المتطرف قبل وصوله إلى السلطة. ورجال الأعمال يدعمون في العادة الأحزاب المحافظة المعترف بها. أما اليوم فقد أصبح الكثيرون منهم تقدميون ويؤيدون المساواة ومكافحة التغير المناخي".
ومن الممكن أن ريكون الوضع مختلفًا عند وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، كما يقول جولي: "في ألمانيا تعاون رجال الأعمال مع هتلر بعد وصوله السلطة وساهموا في ترسيخ سلطته". ومع ذلك يرى البرلماني كادالين أنَّ مستوى الإنذار وصل إلى اللون الأحمر. ويقول: "نحن نحتاج إلى قوانين ضد التركيز في سوق الإعلام".
ويضيف أنَّ "وسائل الإعلام هذه هي منصات لقوى رجعية تريد تفكيك دولتنا الدستورية، كما في الولايات المتحدة الأمريكية". فهناك يتجاهل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أحكام المحاكم غير المتوافقة مع مصالحه. وتدعم ذلك قنوات تلفزيونية مثل فوكس نيوز. والقوانين الجديدة ليست الحل بالنسبة للنائبة إليونور كاروا. وحول ذلك قالت لـDW: "يمكننا مكافحة مشاريع مثل بيريكليس من خلال فضحها. وربما لهذا السبب أيضًا لم يحضر ستيرين إلى جلسة الاستماع". ولذلك يواجه الآن الملياردير ستيرين عقوبة بالسجن لمدة عامين وغرامة مالية قدرها 7500 يورو.
أعده للعربية: رائد الباش