العاطلون عن العمل في تونس .. وقود الثورة وإشكالية التنمية
٢٦ مايو ٢٠١٢منذر عبيدي، شاب تجاوز السادسة والثلاثين من العمر، درس الرياضيات وتخرج سنة 2006 بشهادة في هذا المجال الصعب. كان يمني النفس بوظيفة تمهد له العيش الكريم. لكن رغم مرور سنوات، لا يزال منذر في بحث متواصل عن فرصة عمل. ويقول منذر لـDW عربية، بنبرات مليئة بالحزن تعبر عن سنوات من التعب والحرمان: "لقد اشتغلت بمختلف الأعمال. قبل الثورة عملت تاجراً بين تونس وليبيا، أسافر بين البلدين مرات عديدة في نفس الأسبوع، أشتري وأبيع وأكسب رزقي". ورغم تعب وضنك سنوات البطالة المتواصلة، حافظ منذر على إرادة قوية وأمل كبير في العمل في مجال تخصصه الأصلي.
خلال السنوات الأخيرة، شارك منذر في أغلب امتحانات الوظيفة العمومية دون كلل أو ملل، متنقلاً بين محافظة سيدي بوزيد المهمشة إلى العاصمة تونس، رغم يقينه أن لا أمل له في النجاح. لكنه يصر على ذلك، رغم أن الرشوة والمحسوبية كانتا العملة الدارجة خلال هذه السنوات، بحسب ما يشرح لـDW عربية.
"بيع الصبر لطالبي العمل"
ويتابع منذر بالقول: "زرعت الثورة فينا أملاً كبيراً، وحملت للعاطلين من الشباب والفقراء والمهمشين بصيصاً من الأمل بعد سنوات اليأس والقحط. لكن لا شيء يبدو قد تغير غير الأماني والوعود التي تعاظمت، وغير النية الطيبة لدوائر القرار في وزارات العمل والتربية".
عندما يزور المنذر العاصمة للبحث عن عمل، ينام عند أصدقائه من العزّاب الذين يتقاسمون إيجار شقة في وسط المدينة، ويتنقل من بيت إلى بيت، مضيفاً: "كلما أحسست بأني أصبحت ثقيلاً على أصدقائي، أنتقل إلى مجموعة أخرى من الأصدقاء لأمضي بعضاً من الليالي الأخرى معهم. أخرج في الصباح لأقوم بجولة في المدينة بين الدوائر الحكومية وأمضي أغلب الوقت في المقاهي أو في فضاءات الإنترنت".
ويؤكد منذر أنه كان يزور مكتب تشغيل الكفاءات في العاصمة يومياً علّه يظفر بفرصة عمل، إلا أن نفس الإجابات ونفس الوجوه دفعته لمقاطعة المكتب والاكتفاء بالتسجيل كل شهر في سجلات العاطلين عن العمل عبر الإنترنت، معتبراً أن هذه المكاتب "لم تعد وظيفتها سوى بيع الصبر لطالبي العمل".
ورغم أوضاعه الصعبة، إلا أن منذر لم ييأس وقام بالاتصال بجمعيات أوروبية تعنى بالتنمية، وعرض عليها مشاريع وبرامج في منطقته الزراعية النائية بمحافظة سيدي بوزيد. ورغم بطالته سافر إلى إيطاليا وإسبانيا لعرض أفكاره ومشاريعه التنموية، مضيفاً أن "جمعية إيطالية دعتني للقيام بجملة من المحاضرات حول رؤية العاطلين عن العمل للتنمية في تونس. وقد تكفل الجانب الإيطالي بكل مصاريف تنقلي لعلمه أنني عاطل عن العمل". ويحاول المنذر اليوم أن يربط بين اتحاد الفلاحين وجمعية العاطلين في منطقته بمستثمرين من أوروبا.
اتحاد للعاطلين من أجل الدفاع عن حقهم في العمل
بعد الثورة انضم كثير من العاطلين عن العمل إلى اتحاد العاطلين لكي يدافع عن حقوقهم، وتمكنوا من تأسيس فروع لهم بمختلف المحافظات. الاتحاد تأسس قبل الثورة بسنوات وظل يقاوم التهميش والإقصاء خلال حكم زين العابدين بن علي، إلا أن عضويته اقتصرت على بعض النقابيين من الطلبة. وينادي الاتحاد بضرورة وضع مقاييس شفافة للانتداب في القطاع العمومي، وتكافئ الفرص بين مختلف العاطلين.
ويرى لطفي مرابط، عضو الاتحاد، أن معاناة العاطلين عن العمل تتواصل بعد الثورة رغم الاختلاف في التعاطي مع هذه الإشكالية بين حكومات بن علي والحكومة الحالية. ويقول لطفي، الحاصل على شهادة في تدريس اللغة الفرنسية والعاطل عن العمل، أنه في غياب منهج تنموي واضح لن تستطيع تونس اليوم تجاوز إشكالية البطالة.
ويعتبر المرابط أن المحسوبية والرشوة في عهد بن علي كانت العملة الرائجة في سوق العمل، وكانت البطالة المقننة في شكل آليات التشغيل الهشة هي المسكنات التي قدمها النظام لآلاف الشباب العاطل عن العمل. كما يذكر عضو اتحاد العاطلين عن العمل أن سياسة حكومات بن علي ضاعفت من عدد العاطلين من أصحاب الشهادات العليا، عن طريق خلق اختصاصات جامعية دون دراسة واقعية لمتطلبات السوق وحاجات الاقتصاد من كفاءات واختصاصات مهنية.
ويتذكر لطفي سنواته الأولى في الجامعة بين سنتي 2004 و2005، إذ "كنا نعلم أننا سنلتحق قريباً بطوابير المعطلين، وكنا على قناعة كبيرة داخل المكتب الفدرالي للاتحاد العام لطلبة تونس أن (هناك) عملية ممنهجة لتصفية المعارضين وتجويعهم باسم القانون والاختبارات الوطنية"، موضحاً أن من يتجاوز مرحلة الاختبارات خلال حكم بن علي كان يسقط حتماً في "البحث الأمني"، الذي يمكّن النظام وأعوانه من تصفية السياسيين بحرمان كل من تقلد مسؤولية نقابية أو سياسية من فرصته في العمل.
"التشغيل استحقاق...يا عصابة السراق"
وخلال الثورة يؤكد لطفي المرابط أن العاطلين عن العمل ساهموا "في الحراك الثوري الذي عاشته تونس. وبعد أحداث سيدي بوزيد كنا مقتنعين بأن هذه المرّة لن يستطيع النظام عزل المنطقة والقضاء على الاحتجاجات التي تعيشها ... كان المعطلون عن العمل وقود الثورة وشعلتها. لقد صدحت حناجرنا في كل ربوع تونس بشعارات (التشغيل استحقاق يا عصابة السراق)، إلا أننا اليوم منسيون من قبل الحكومة رغم الوعود والنوايا الطيبة".
ويضيف عضو اتحاد العاطلين عن العمل أن الحكومة الحالية لا تزال عاجزة عن حل مشكلة البطالة، ويطالب بمزيد من الشفافية وبمقاييس أكثر عدلاً في سوق العمل. ويعيب لطفي على الحكومة الفساد المتفشي في بعض الوزارات، مشيراً إلى أن الاتحاد "يمتلك قوائم لأشخاص وقع تشغيلهم خارج قانون الاختبارات الوطنية"، ومشدداً على "أن العلاقات الحزبية ما تزال فاعلة". ويدلل المرابط على ذلك بالمنتدبين الجدد في وزارة الشؤون الدينية، والمحسوبين على حركة النهضة الإسلامية الحاكمة في تونس.
يذكر أن آخر إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء تشير إلى أن نسبة البطالة بلغت خلال الربع الأول لسنة 2012 أكثر من 18 بالمائة، وتبيّن نفس الأرقام ارتفاع عدد العاطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا إلى حوالي 221 ألفاً.
ورغم هذه الأرقام، التي تبيّن عمق ظاهرة البطالة داخل المجتمع التونسي، إلا أن الحكومة عازمة على توفير 75 ألف فرصة عمل خلال السنة الحالية، وتوسيع قاعدة برامج النهوض بالتشغيل الممولة من الصندوق الوطني للتشغيل، لتشمل حوالي 100 ألف منتفع. كما تسعى الحكومة إلى جانب ذلك لتعزيز عمليات التوظيف بالخارج، خصوصاً في دول الخليج وليبيا والدول الأوروبية، ضمن برامج للهجرة المنظمة.
حلول مأمولة زادت البطالة
وتقول بعض المصادر بالوكالة التونسية للتشغيل أن عدد طالبي الشغل من خريجي الجامعات كان في حدود 50 ألفاً، وأن الرقم قفز بعد الثورة بأشهر إلى أكثر من 200 ألف، وهو مؤشر تجب دراسته بعمق للتعرف إلى حقيقة هذا الارتفاع الكبير وتأثيره على سوق العمل. كما ترى نفس المصادر أن حكومة محمد الغنوشي تتحمل مسؤولية تطور هذا الرقم، فقد قامت بإقرار منحة "أمل"، وهي منحة بطالة تقدّر بمائتي دينار تونسي (حوالي 100 يورو) للعاطلين عن العمل، واشترطت التسجيل بمكاتب التشغيل للتمتع بهذه المنحة، وهو ما ولّد عزوفاً عن العمل بالقطاع الخاص، لأن طالب الشغل يحبذ التمتع بالمنحة والمشاركة في اختبارات التوظيف الحكومية على أن يعمل بالقطاع الخاص ويُحرم من حقه في العمل في القطاع العمومي.
وعوض أن تقدم هذه المنحة حلولاً لسوق العمل، فقد زادت الوضع تعقيداً، إذ برزت ظاهرة اللجوء إلى العمالة الأفريقية في العديد من القطاعات، مثل البناء والزراعة. وحول ذلك يقول صلاح الدين المديني، مدير مكتب تشغيل الكفاءات في تونس، أن سوق العمل مبنية على قانون العرض والطلب، مضيفاً أنها تحتاج إلى دراسة معمقة للتعرف على توجهاتها المستقبلية في ضوء المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
ويبّين المديني أن إدارته تتعامل بكل حرفية ومهنية مع طلبات العمل، وأن وظيفتها لا تعدو كونها إدارة للوساطة بين المؤسسة وطالب العمل، علاوة على إداراتها لقاعدة البيانات الخاصة بالعاطلين عن العمل وبمختلف الآليات والخدمات التي توفرها الدولة لهم.
خالد بن بلقاسم - تونس
مراجعة: ياسر أبو معيلق