العالم العربي- ثقافة سائدة تفاقم مأساة البطالة!
٣ سبتمبر ٢٠١٧بعيدا عن المهنة التي تعلموها أقدمت مجموعة من الأطباء المصريين على افتتاح مطعم للوجبات السريعة بمدينة دمنهور شمال الدلتا. المطعم الذي يقدم شرائح الكبدة ويحمل اسم "دكتور كبده" يلقى إقبالا كبيرا من قبل الزبائن لتمتعه بالنظافة والمهارة في وجباته بالبهارات الاسكندرانية.
وبالقرب من العاصمة الأردنية عمّان قام عدد من خريجي الاقتصاد والهندسات بتأسيس مزرعة بيئية نموذجية فريدة من نوعها. هذه المزرعة التي تحمل اسم "ينبوت" تقوم على تحسين نوعية التربة وإنتاج أغذية خالية من المواد الكيماوية والاعتماد على الطاقة المتجددة ونشر الوعي البيئي وروح الإبداع لدى الشباب.
مثل هذه المشاريع التي يمكن اعتبارها منارات بدأت تأخذ طريقها الشائكة في أسواق العمل العربية المتخمة بالعاطلين عن العمل من خريجي مختلف التخصصات الجامعية.
لماذا تتفاقم البطالة؟
رغم تسجيل العشرات من هذه المشاريع في كل دولة عربية، فإنها ما تزال محدودة وتشكل الاستثناء، وهو الأمر الذي يفسر ارتفاع نسبة البطالة في صفوف خريجي التخصصات الجامعية في الدول العربية حتى في مجال الطب والهندسات. ففي بلد صغير كتونس مثلا يقدر عدد العاطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا أكثر من ربع مليون عاطل، ما يعادل ثلث الخريجين تقريبا.
وفي دول عربية أخرى كالمغرب ومصر ودول الخليج لايبدو الوضع أفضل لاسيما وأن الدولة ترفع يدها وبشكل سريع عن التوظيف الإلزامي في مؤسساتها لخريجي بعض التخصصات بسبب تراجع إيراداتها من جهة وزيادة الأعباء المالية المترتبة على خدماتها العامة من جهة أخرى إضافة إلى تبعات الاضطرابات الداخلية السياسية والاجتماعية التي تزداد حدة. وهو الأمر الذي يجبرها على اعتماد خطط تقشف قاسية تبدأ بخطوات هي الأسهل عليها كوقف التوظيف وتسريح العمالة الزائدة.
مشكلة ثقافة اليأس وضعف المبادرة!
تبنت الدولة لسنوات طويلة في غالبية الدول العربية سياسات توظيف استوعبت على مدى سنوات غالبية خريجي الجامعات من اختصاصات معينة كالهندسة والطب في قطاع الدولة ومؤسساته الاقتصادية. وخلال هذا الفترة تكرست ثقافة الاعتماد على القطاع العام في توظيف الخريجين الذين تكدسوا في المكاتب الحكومية دون أعمال تذكر. ومع تراكم الخريجين وعجز مؤسسات الدولة عن استيعابهم بدأت البطالة تتسع في صفوفهم. وفاقم الأمر مسألتان الأولى تتمثل في عدم قيام الدولة بتوفير الشروط التي تمكنهم من بدء حياتهم الوظيفية بالاعتماد على المبادرات والمشروعات الخاصة. ومن هذه الشروط محاربة الفساد الإداري الذي يعرقل المشاريع ويدفنها قبل أن تولد، وتوفير البنية التحتية للمشروع وتقديم الاستشارة والقروض الميسرة والحضانة التكنولوجية له.
أما المسألة الثانية فتتمثل في ضعف روح المبادرة والجرأة وتحمّل المخاطرة لدى الخريجين الذين تكرست لديهم ثقافة اليأس والإحباط والروح السوداوية والميل إلى الاسترخاء وانتظار معجزات الدولة وتحميلها كامل المسؤولية في كل مصائبهم ومعاناتهم!
الكرة في ملعب القطاع الخاص؟
صحيح أن الدولة تتحمل المسؤولية عندما يقوم موظفوها الفاسدون مثلا بعرقلة المبادرات الخاصة عن طريق تلقي الرشوة وسوء استغلال جزء من أموال القروض الميسرة. كما تتحمل المسؤولية عندما لا توفر المقومات الأساسية لإطلاق المشاريع الخاصة. غير أنها لا تتحمل مسؤولية إيجاد وظائف للجميع في مؤسساتها المترهلة كما يطالب مثلا خريجو جامعات تظاهروا مؤخرا في عدة مدن مغربية وعربية أخرى. فمعظم الوظائف في أية دولة ناجحة على الصعيد الاقتصادي تخلقها المبادرات الفردية والقطاع الخاص.
ومن هنا فإن على الدولة أيضا تكثيف جهودها لإعادة هيكلة هذا الأخير كي يقوم بواجباته في استيعاب الخريجين بمشاريع وشركات خاصة تقدم لهم إلى جانب المرتب الشهري التأمينات الاجتماعية والصحية والتقاعدية أسوة بما تقوم به مؤسسات الدولة. ويعد تملص القطاع الخاص عن تقديم هذه التأمينات أبرز أسباب عزوف الشباب للعمل فيه والابتعاد عنه.
مطلوب مزيد من البراغماتية!
تعيش الدول العربية مجتمعة اليوم أوضاعا اقتصادية تزداد صعوبة بسبب الاضطرابات الداخلية التي تشهدها والتراجع الدراماتيكي في إيرادتها من السياحة والنفط والزراعة والمواد الأولية.
هذا الوضع الجديد يتطلب إلى جانب تشجيع فعلي للمبادرات الخاصة الاعتماد بشكل أكبر على الحلول البراغماتية العملية والمؤقتة بعيدا عن ثقافة العمل السائدة في المجتمعات العربية التي تزدري الكثير من الأعمال على أساس أنها لا تليق بخريج الجامعة كالأعمال الزراعية وأعمال البناء والنظافة والمطاعم والمقاهي والصيانة وغيرها.
وهو الأمر الذي يفسر الاعتماد على عمالة أجنبية حتى في بلد متخم بالبطالة مثل تونس. ففي المواسم الزراعية كمواسم جني الزيتون نجد الكثير من المزارعين التونسيين مجبرين على استخدام هذه العمالة في الوقت الذي يرفض في الكثير من الشباب التونسي الذي يعاني البطالة العمل في جني المحاصيل الموسمية.
مثل هذا الرفض الذي يكرس ثقافة عمل تعرقل التنمية وتحسين مستوى المعيشة ما كان ليحصل لو كان الخريج مقيم خارج بلده.
ففي الخارج ترى الخريج مستعد للقيام بأي عمل مهما كان نوعه، لاسيما في بلدان تعتبر النجاح في أي من مجالات الحياة أساس الاحترام والتقدير والكرامة.