كما لو أن شخصاً ما أخذ مطرقة كبيرة و قام بتكسير كل شيء. أطلال وخراب في كل مكان تقع عليه العين. لم يتبقى شيء من سنجار، أكبر مدينة للإيزيديين في شمال العراق. المسؤول الأول عن هذا الدمار هم الأمريكيون. بعد مرور عام فقط من سيطرة "داعش" على مدينة سنجار، تمكن المقاتلون الأكراد من تحرير المدينة في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015. لكن القصف الأمريكي كان السبب في تدمير شبه كامل للعاصمة غير الرسمية للإيزيديين العراقيين. ولكن ما زاد من تدمير وخراب المدينة، الغارات الجوية التركية التي تلت التحرير، ما جعل الإيزيديين يشعرون بأنهم فقدوا وطنهم، الذي يسموه سنجار.

زيارة رئيس البلدية

في سنجار يبدو وكأن الوقت قد توقف، حيث لا أثر لأعمال إعادة إعمار المدينة المدمرة. مر عام فقط على تحرير الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، من إرهاب "داعش"،  لكن هناك على بعد 120 كيلومتراً فقط، إلى الغرب من سنجار بدأت عملية إعادة الإعمار منذ فترة طويلة. لكن في سنجار، التي تم تحريرها منذ ما يقارب ثلاث سنوات، لم يحدث الكثير منذ عمليات إزالة الأنقاض من الشوارع. وتعرضت العديد من القرى القريبة من المدينة للتدمير وهجرها سكانها، مثل قرية حردان، حيث يوجد على جانب الطريق المؤدي لها، أربعة قبور جماعية يحيط بها سياج مؤقت. في الماضي يعتقد بأنه كانت تعيش 300 عائلة في القرية واليوم لا يوجد سوى 60 أسرة، كما يقول الشيخ حسن خلف، الذي فقد ولدين و أخ وأربعة من أبناء أخيه ولا يعلم إن كانوا قد دفنوا في المقابر الجماعية.

وعند السؤال، لماذا لا يحصل الناس في  قرية حردان على المساعدة؟ يجيب رئيس بلدية سنجار، فهد حميد عمر "ذلك لأن الإيزيديين في العراق مواطنون من الدرجة الرابعة أو الخامسة". هذا المواطن الأيزيدي، بتسريحة الشعر القصيرة والشارب، يقف على سطح مقر بلديته وينظر بعينيه إلى أنقاض المدينة. فهد حميد عمر، مسؤول عن حوالي 3500 عائلة، ويقول: "لأن الناس المسؤولين عن الأمن هنا لم يكونوا مهتمين بأهل سنجار".

تولى فهد منصب رئيس البلدية منذ بضعة أشهر فقط، وهو ايزيدي أيضاً. يرتدي فهد زيًا بسيطًا باللون الأخضر الزيتوني، ويؤكد باستمرار على أنه حارب "داعش" أيضاً. ويتحدث غالباً بصيغة الجمع" نحن الإيزيديين من سنجار". وعلى خلاف سلفه مهما خليل، فإن فهد ليس مقرّبا من حكومة المنطقة الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في شمال العراق، بل  من الحكومة المركزية في بغداد. "نريد أن تدار سنجار مباشرة من قبل بغداد وليس من قبل الأكراد."، وذلك بسبب ما حدث في السنوات الخمس عشرة الماضية، عندما وقع الإيزيديون ضحايا للصراع على السلطة بين والحكومة المركزية. ومنذ الاستفتاء المثير للجدل حول استقلال الأكراد في أيلول/ سبتمبر 2017 يزداد تناحر  الجهات المعنية على السلطة. ولهذا يشتكي رئيس بلدية سنجار: "لو كنا ننتمي لبغداد من البداية ، لما حدث ذلك لنا، في إشارة إلى حملة الإبادة الجماعية، التي اقترفها تنظيم "الدولة الإسلامية" في حق الأقلية العرقية الدينية من الإيزيديين، بحسب لجنة تابعة للأمم المتحدة. يتحدث رئيس البلدية بنبرة صوت فيها ازدراء لحكومة الحكم الذاتي الكردية في أربيل ومقاتلي البشمركة: والتهمة هي الخيانة.

يوم تغير فيه كل شيء في سنجار

وصل أول مقاتلي تنظيم داعش إلى سنجار فجر  الثالث من آب/ أغسطس 2014. تقدمت الميليشيات الإرهابية في قافلة من العربات الأمريكية المدرعة وغيرها من المركبات العسكرية التي استولى عليها التنظيم من الجيش العراقي في وقت سابق. قبل ذلك وفي حزيران/ يونيو احتل الأصوليون السنة الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق وأعلنوا ما يسمى دولة الخلافة هناك. وبعدها أرادوا أن يقضوا على الإيزيديين، الطائفة التي يصفونها بـ "الكفار".

منطقة سنجار، مركز الإيزيديين، كانت فريسة سهلة لداعش. وعلى الرغم من أن المنطقة تابعة للحكومة المركزية على الورق، إلا أن مقاتلي البشمركة الأكراد كانوا يتواجدون هناك منذ سنوات وانسحبوا على الفور دون قتال مع دخول داعش. وكان الإيزيديون بمفردهم. ارتكب داعش جرائم مروعة. إذ تم حتى الآن اكتشاف حوالي 70 مقبرة جماعية في المنطقة. لا أحد يعرف بالضبط عدد الأشخاص الذين قتلهم التنظيم الإرهابي. رئيس البلدية فهد يقدر ما لا يقل عن 15 ألف قتيل ومفقود. كما تم أسر ما يصل إلى 7 ألف امرأة وطفل من الإيزيديين. أكثر من نصف المرحلين ما زالوا مفقودين. كما تم بيع العديد منهم  في العراق وسوريا مثل الماشية. فقط من حين لآخر ينجح الناشطون في شراء ضحاياهم بمساعدة المهربين وذلك مقابل 10 آلاف دولار على الأقل للشخص الواحد.

لم يكن هذا الهجوم الأول على الإيزيديين في تاريخ العراق، ولكن ربما كان الأكثر قسوة. تشير تقديرات منظمة يزدا للإغاثة Yazda إلى أن حوالي نصف مليون من الإيزيديين عاشوا في العراق قبل آب / أغسطس 2014. وبلغ عدد سكان منطقة سنجار حوالي 250 ألف نسمة معظمهم من الإيزيديين ولكن أيضاً من العرب المسلمين والأكراد والتركمان. اليوم  فر معظم اليزيديين إلى مخيمات اللاجئين الكبيرة حول مدينة دهوك الشمالية العراقية و إلى المناطق الكردية في سوريا وتركيا وإلى ألمانيا. في هذا السياق يوضح المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين لـ DW أنه في عام 2015  تقدم 31.379  عراقي بطلب لجوء في ألمانيا بينهم 15.256 من الإيزيديين. ومن بين 97.162 عراقي تقدموا بطلبات للجوء في ألمانيا عام 2016 ، كان هناك 37.655 من الإيزيديين. أما في العام الماضي، فقد تقدم 23.605 عراقي بطلب لجوء ومن بينهم 11.200 ايزيدي.

حصار من جميع الجبهات

ساعد مقاتلون من حزب العمال الكردستاني/ PKK، المدرج أصلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على لائحة المنظمات الإرهابية ، بالتعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية السورية/  YPG في توفير ممر هروب آمن لحوالي 50 ألف إيزيدي فروا إلى جبل سنجار  في آب / أغسطس 2014. وتعد وحدات حماية الشعب السورية قريبة من حزب العمال الكردستاني، الذي تعود جذوره إلى تركيا. في سنجار تمجد الكتابة على الجدران زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان وهي تذكير بالقتال ضد داعش. وفي "مقبرة الشهداء" على جبل سنجار ترفرف الأعلام وصور أوجلان. العديد من المقاتلين الذين دفنوا هنا، قتلوا خلال المعارك  ما بين الفترة من آب/ أغسطس عام 2014 و تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. كما قام حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب بتسليح ميليشيا الإيزيديين لطرد داعش. وتم تحرير منطقة سنجار في النهاية بمساعدة سلاح الجو الأمريكي و قوات البشمركة الكردية. وقد عادت البيشمركة بعد تلقي السلاح والتدريب العسكري من الخارج، أيضا من الجيش الألماني. وذا الوضع أدى إلى مناوشات بين الميليشيات الكردية المتناحرة في المنطقة بعد تحريرها.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وبعد فترة قصيرة من استفتاء الاستقلال الكردي المثير للجدل، تولى الجيش العراقي وميليشيا الحشد الشعبي الشيعية حكم المنطقة. يتلقى الحشد الشعبي دعما كبيراً من إيران، وهذه الأخيرة تشكل أحد الأطراف الرئيسية المتحاربة في سوريا المجاورة. وفي المنطقة تقود الطريق الرابطة بين الموصل، معقل داعش السابق في العراق والرقة، معقله السابق في سوريا، وهو الطريق الذي يمر عبره المقاتلون والأسلحة عبر الحدود.

انسحبت قوات البيشمركة مرة أخرى. كما اختفت ايضا قوات حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية منذ أن هددت تركيا علناً توجيه ضربة عسكرية مثلما حدث في عفرين السورية. وتريد تركيا منع وحدات حماية الشعب وقوات حزب العمال الكردستاني من السيطرة على منطقة متماسكة. وهكذا تتعرض سنجار للطحن في غمرة الصراع على السلطة والمصالح بين قوى محلية ودولية.

الأمان المفقود

إذن بمن ينبغي على الإيزيديين المضطهدين الوثوق بعد الإبادة الجماعية؟ يقول ستيفان إلياس، 24 عاماً وهو يقطع الزجاج: "طالما هناك الآلاف من الجماعات السياسية المتنافسة هنا، فلن يعود الناس". جدران ورشته الصغيرة مليئة بثقوب الرصاص. إلياس، يعمل في الواقع معلماً ولكن بما أنه لا توجد مدارس في مدينة سنجار المدمرة امتهن الحرفة. الأعمال تسير بشكل سيء لأنه نادراً ما تتدفق أي أموال من أجل إعادة الإعمار لا من بغداد ولا من أربيل ولا من حكومات أجنبية. "الناس لا يعتقدون أن هناك أمان في سنجار حقاً". وعند سؤاله عن سبب تركه مخيم اللاجئين على جبل الإيزيديين المقدس للعيش في المدينة المدمرة؟ يقول إلياس: "لأن هذا الوطن الوحيد، الذي أملك". ونفس الرأي تشاطره باران خرو. لم ترد الشابة، ذات تسريحة ذيل الحصان أن تقول أي شيء في البداية. ولكن في الأخير قالت بأن عائلة عمها لا تزال في قبضة داعش، مضيفة أن الحياة لم تعد ممكنة: "لا يوجد كهرباء هنا والمياه سيئة للغاية." خرو مرعوبة من الذخائر غير المنفجرة و الألغام المتفجرة التي لا يمسها أحد. "لا تزال هناك جثث وبقايا عظام بشرية هنا".

الحلم بجيش ايزيدي في وطن ممزق

على رئيس البلدية أن ينشر التفاؤل في العاصمة الإيزيدية المدمرة. بصورة رسمية لا يقلقه وجود ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية القادمة من جنوب البلاد في المدينة، وهو مدين لها بتعيينه وليس للحكومة المركزية في بغداد. لقد قامت "الدولة الإسلامية" بظلم عظيم ، ليس فقط للإيزيديين ولكن أيضا للأخوة الشيعة ، يؤكد رئيس البلدية. بالنسبة له ما يقلقه أكثر العرب السنة والتركمان في المنطقة، من بينهم العديد ممن دعموا داعش.

فهد حميد عمر يرغب في الحماية الدولية وتشكيل جيش خاص بالإيزيديين. لديه أيضاً رسالة للحكومة الألمانية: "إذا كان الألمان يريدون مساعدة الإيزيديين، فعليهم فعل ذلك مباشرة وعدم إرسال الأسلحة إلى الأكراد". قبل أيام قليلة فقط كان بود رئيس البلدية أن يطلق النار بنفسه، وذلك عندما كان مزارعون عرب يرعون ماشيتهم على قبر جماعي أيزيدي. ويقول بمرارة: "هؤلاء الناس من القرى المجاورة الذين شاركو في قتلنا، يرعون ماشيتهم على عظامنا اليوم". سنجار، إنه الوطن المفقود، ممزق مثل كل العراق.

ساندرا بيترسمان / إ. م