على إيقاع الانهيارات المتلاحقة في لبنان، يتصاعد الحديث عن وجوب الانتقال إلى نظام سياسي جديد، قوامه اللامركزية أو الفيدرالية. ورغم أن طرح الفيدرالية ليس جديدا، يعود الحديث عنها إلى الواجهة عند كل مرحلة سياسية انتقالية.
إعلان
السقوط الحر للاقتصاد اللبناني منذ عام 2019، وتفاقم الأزمة السياسيةفي ظل العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية والشلل في كل مؤسسات الدولة، تحول طرح الفيدرالية من حديث داخل صالونات النخب السياسية إلى حديث وسجال في الشارع اللبناني وعلى المستوى الشعبي.
في العموم يلقى طرح الفيدرالية قبولا لدى الأحزاب المسيحية التقليدية في لبنان بوصفه حلا لسيطرة الأغلبية المسلمة على القرار والحكم، فيما ترفضه الأحزاب التقليدية الأخرى بوصفه طرحا انعزاليا ومقدمة لتقسيم البلاد.
وخلافا للطرحين هناك آراء وازنة معارضة ومؤيدة داخل الفريقين. لكن هل الفيدرالية نظام قابل للتطبيق والحياة في بلد لا تتجاوز مساحته 10452 كلم مربع؟ وهل تشكل فعلا حلا لأزمة الحكم في لبنان؟ وهل تحقق تفاهما أوسع لدى المكونات اللبنانية أم تساهم في تباعدها وبالتالي تعزز فرص تناحرها؟
فيدرالية الطوائف؟
يقول الأستاذ الجامعي والناشط السياسي د. وليد فخر الدين لـ DW عربية إن طرح الفيدرالية في لبنان ناتج عن "ردة فعل ويأس بسبب فشل النظام اللبناني في الحكم، وهذا أمر مشروع. لكن الفيدرالية بحد ذاتها ليست علاجا لأزمة لبنان، وطرحها في هذا التوقيت يدل على تشخيص خاطئ للأزمة".
ويعتبر فخرالدين الفيدرالية بالصيغة المطروحة هي "فصل للمكونات اللبنانية على أساس طائفي، بينما المشكلة في لبنان سياسية بامتياز وليست ناتجة عن عدم قدرة الطوائف على التعايش". ويرى أن فصل المكونات السياسية إداريا وجغرافيا وديمغرافيا لن يؤدي إلى حل على المستوى السياسي في لبنان، بل إلى تصادم أكبر داخل المكون الواحد أولا وبين المكونات ثانيا، بدليل "الحروب التي وقعت بين قادة التنظيمات المسيحية في منطقة بيروت الشرقية التي كانت تعتبر فيدرالية مسيحية إبان الحرب الأهلية، وكذلك المعارك الطاحنة بين حزب الله وحركة أمل، أكبر حزبين شيعيين، في منطقة بيروت الغربية التي كانت تعتبر فدرالية مسلمة".
من جهة أخرى يعتبر الباحث في الأنظمة السياسية والقانون الدستوري د. سليم زخور، أن النظام اللبناني تاريخيا وحاليا قائم أصلاً على أساس فيدرالي. إذ "يكرّس المكونات الطائفية والمذهبية على أنها مكونات سياسية لكل منها حصته في الحكم والمواقع الرسمية في الدولة". لكن زخور يرى أن المشكلة تكمن في أن النظام اللبناني "نسخة مشوهة" عن الفيدرالية، لأنه يتجاهل الاختلافات الأساسية بين هذه المكونات، مما يؤدي إلى خلافات مستمرة. ويضيف لـ DW عربية بأن "الفيدرالية ليست حلا بالمطلق، لكنها بالتأكيد مسار طبيعي نحو تنظيم وإدارة التعددية في لبنان وصولا إلى نظام سياسي صحي."
ويشرح زخور كيف يمكن لأي سجال سياسي في لبنان أن يتحول إلى "اشتباك طائفي" بسبب تغاضي النظام السياسي اللبناني عن اختلافات أساسية ثقافية واجتماعية بين مكوناته، وبالتالي يفتقد للقدرة على إدارة تنوعها بشكل سليم.
خلاف حول موعد التوقيت الصيفي!
تحول قرار إداري بتأجيل تقديم عقارب الساعة في لبنان إلى سجال طائفي استمرّ لعدة أيام، حين أصدر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مذكرة استثنائية تؤجل انتقال لبنان من التوقيت الشتوي إلى التوقيت الصيفي إلى حين انتهاء شهر رمضان لكي يتيح للمسلمين الصائمين الإفطار عند الساعة السادسة بدل السابعة بتوقيت بيروت. القرار لاقى انتقادات واسعة لدى الأحزاب المسيحية وصلت حد عصيانه من قبل المؤسسات الكنسية والشعبية المسيحية. وانقسم اللبنانيون لعدة أيام بين توقيتين زمنيين مختلفين، إلى أن أعلن رئيس الحكومة العودة عن قراره.
يقرّ فخرالدين أن القوى السياسية تستغل مثل هذه الحوادث لتجييش الرأي العام وإظهار أن المشكلة طائفية، فيما الهدف هو تسجيل نقاط بالسياسة.
أما زخور فيقول إن هذا الاشتباك هو نموذج قائم في لبنان باستمرار. مضيفاً أن "النظام يسمح للقوى السياسية باستغلال ثغرات لتحويل اللعبة السياسية إلى لعبة مذهبية وطائفية". ويوضح بأنه "يمكن تفادي هذا الاستغلال وهذه المشاكل في دولة فيدرالية، لأنها أولا تعطي استقلالية للمكونات في الوحدات الفيدرالية لتحديد خياراتها، وثانيا تؤمن البنية الفيدرالية آليات دستورية جديدة مختلفة عن آليات النظام الحالي لاتخاذ القرار على مستوى السلطة الاتحادية مما يسمح بإدارة مشتركة أفضل للحكم".
تقسيم الوحدات الفيدرالية
عمليا يصعب تخيل وحدات فدرالية مقسمة على أساس طائفي أو مذهبي في لبنان، بسبب التنوع والتداخل الكبير بين المناطق والقرى اللبنانية.
غير أن الخبير في القانون الدستوري، د. سليم زخور، يقدم طرحا ينطلق من مناطق جغرافية تتمتع بأغلبية طائفية أو مذهبية معينة تشكل قضاء أو نصف قضاء بحسب مساحتها، تمتلك صلاحية التشريع وتنظيم أمورها الإدارية ولها تمثيلها في الدولة المركزية التي تمتلك حصرية القرار فيما يخص السياسات المالية والخارجية والدفاعية.
هذه المقاربة يرفضها د. وليد فخرالدين الذي يرى أن الفيدرالية تفترض أن المركز هو الأقوى، أما في لبنان الدولة المركزية هي اللاعب الأضعف في المعادلة، فيما القوى السياسية هي الأقوى، ويختم حديثه لـ DW عربية بأن "إعلان فيدرالية في ظل مركز ضعيف يعني حتما التفكك والحرب".
بيروت ـ محمد شريتح
لبنان 100 عام.. من طوائف الجبل إلى دولة على شفا الانهيار
لبنان.. بلد صغير المساحة، لكنه يختزل على مدار قرن من إعلان قيامه أحداثاً كبيرة جعلته صورة مصغرة عما جرى في العالم العربي من خيبات متواصلة. يحتضن تاريخه كل شيء: العنف والصلح، الحرب والسلم، الرخاء والشدة، الوطنية والتبعية.
صورة من: Getty Images/AFP/J. Eid
فتنة جبل لبنان
سكنت عدة طوائف في المناطق المعروفة حالياً بلبنان، خاصة منطقة جبل لبنان. لكن الطوائف الأبرز كانت ستة: الموارنة والأرثودوكس والكاثوليك، وفي الجانب الآخر الدروز والسنة والشيعة. بقي الجبل تحت سيطرة العثمانيين، لكنه شهد توترات طائفية خطيرة خاصة المجازر بين الدروز والموارنة عام 1860. تدخلت قوى أوروبية في المنطقة خاصة منها فرنسا، وشهد جبل لبنان بضغط أوروبي قيام نظام "المتصرفية" الذي عزّز الوجود الماروني.
صورة من: picture-alliance/Design Pics
قيام لبنان الكبير
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، استطاعت فرنسا فرض انتدابها على لبنان بعد توسيعه ليضم البقاع وولاية بيروت فضلاً عن ترسيم الحدود مع سوريا. ويقول جوزيف باحوط في مقال على كارنيغي إن فرنسا هدفت إلى خلق وطن شبه قومي للمسيحيين في الشرق الأوسط، لكن الطوائف المسلمة رفضت بشدة الوضع الجديد. أعلن لبنان استقلاله عام 1943 على يد الرئيس بشارة الخوري، لكن جلاء القوات الفرنسية لم يتم إلّا عام 1946.
صورة من: picture-alliance/United Archives/TopFoto
الميثاق الوطني
شهد إعلان استقلال لبنان ما عُرف بالميثاق الوطني الذي منح رئاسة الدولة للموارنة ورئاسة الوزراء للسنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة. وكان هدف الميثاق تسهيل الاستقلال حتى لا يطلب المسيحيون حماية فرنسا ولا يطالب المسلمون بالوحدة مع سوريا. لم يُكتب الميثاق لكنه بقي مطبقاً في البلاد منذ ذلك الحين، ويرى متتبعون أنه سبب المشاكل الطائفية في البلاد بما أنه هو من أسس لنظام المحاصصة.
صورة من: picture-alliance/dpa/W. Hamzeh
إنهاء حكم شمعون
تحوّلت بيروت إلى مدينة تجمع الكل منذ سنوات الاستقلال، لكن اندلاع النزاع العربي-الإسرائيلى ألقى بظلاله على بلد يصارع لخلق هويته. استقبلت بيروت آلاف اللاجئين الفلسطينيين كما استقبلت مهاجرين عرب وشهدت نمواً اقتصادياً لكن في الآن ذاته ركزت قوى عربية متصارعة نفوذها داخل المدينة منذ ذلك الحين. غير أن أبرز حدث شهدته بيروت في الخمسينيات كان الانتفاضة ضد الرئيس كميل شمعون الذي كان له علاقات قوية مع الغرب.
صورة من: Imago Images/United Archives International
العصر الشهابي
من بين أكثر رؤساء لبنان احتراما هو فؤاد شهاب الذي حكم البلاد منذ 1958 إلى 1964 ورفض التمديد له رغم شعبيته الطاغية. تحقق في عهد شهاب الكثير من الاستقرار في البلد رغم الانتقادات الموجهة له بتقوية دور المخابرات بعد محاولة الانقلاب. جاء بعده شارل حلو الذي حاول اتباع النهج الشهابي بعدم تفضيل أيّ طرف سياسي على آخر، لكن البلد شهد في عهده عدة مشاكل اقتصادية، ما مهد الباب لسليمان إفرنجية ليخلفه.
صورة من: picture-alliance/dpa/M. Tödt
الحرب الأهلية تندلع
شهد لبنان توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 بين الفصائل الفلسطينية في مخيمات اللاجئين وبين الدولة اللبنانية حتى لا تتكرر مناوشات بين الطرفين، وبموجبه تم الاعتراف بالوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وقف اليسار اللبناني مع الفلسطينيين، في حين رفضهم اليمين المشكل أساساً من منظمات مارونية. ومع تعاظم النفوذ الفلسطيني تعددت الاحتكاكات مع القوى اليمينية، لتندلع رسمياً الحرب الأهلية في أبريل/ نيسان 1975.
صورة من: picture-alliance/AP Photo/M. Raouf
بيروت تشتعل
قُسمت بيروت إلى شرقية تحت سيطرة القوات اليمينية وغربية للفلسطينيين والقوات اليسارية. زاد التناحر الطائفي بين المسلمين والمسيحيين من الحرب خاصة مع وجود اختلالات اجتماعية بينهم. زاد التدخل السوري من سعير الحرب، وكذلك فعلت إسرائيل عندما اجتاحت لبنان عام 1982 وحاصرت بيروت الغربية ما أدى إلى جلاء المسلحين الفلسطينيين، لكن الحرب لم تنته، ووقعت بعد ذلك مواجهات حتى داخل الأطراف التي كانت متحالفة.
صورة من: Ziad Saab
حزب الله يخرج منتصرًا
انتهت الحرب رسميا عام 1991 سنتين بعد توقيع اتفاق الطائف. شهدت الحرب مجازر مروعة كالكرنتينا والدامور وصبرا وشاتيلا، ووثقت الكاميرات مشاهد مرعبة كما جرى في حصار بيروت وحرب المخيمات. تقوّت لاحقا التنظيمات الشيعية، وخصوصا حزب الله المرتبط بإيران، وبقي التنظيم محافظًا على سلاحه بعد حلّ كل الميلشيات، فتراجع نفوذ التنظيمات المسلحة اليمينية واليسارية والفلسطينية، كما ضمنت سوريا استمرار حضورها في البلد.
صورة من: Getty Images/AFP/A. Amro
الاغتيالات تستمر
استقر لبنان نسبيا في التسعينيات، لكن سنوات الألفية شهدت مواجهات مسلحة بين حزب الله وإسرائيل في صيف 2006، لكن الهزة الأعنف كانت اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق الذي ساهم في إعمار لبنان. كانت من نتائج الاغتيال خروج القوات السورية نتيجة ما عُرف بـ "ثورة الأرز". شهد البلد في تلك السنوات استمرار الاغتيالات السياسية التي وجهت فيها الاتهامات لدمشق كاغتيال الشيوعي جورج حاوي والصحفي سمير قصير.
صورة من: picture-alliance/dpa/N. Mounzer
حراك لبنان
لأول مرة في تاريخ البلاد، يخرج مئات الآلاف من اللبنانيين عام 2019 رفضاً لنظام المحاصصة الطائفية، مطالبين برحيل الطبقة السياسية ككل. جاءت الاحتجاجات في ظل استمرار ترّدي الوضع الاقتصادي وارتفاع نسب الفساد، ما أدى إلى استقالة حكومة سعد الحريري، وتشكيل حكومة حسان دياب التي استقالت بدورها بعد انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة ما يناهز مئتي قتيل. تقرير: إسماعيل عزام