طقسٌ روحانيّ، أو وقودُ ثورة، أو صرعةٌ على تيك توك: القهوةُ أكثرُ بكثيرٍ من مجردِ مشروب. تاريخها الضاربَ في القِدَم يروي حكاياتٍ عن الماعز والأساطير والاستعمار فما السر العربي الكامن فيها؟
. رغم أن النبات أصله من إثيوبيا، فإن أول زراعة موثقة له كانت في اليمن – وهناك أيضًا حصل على اسمه "قهوة"، وهو في الأصل اسم لـ "الخمر".صورة من: Liu Lei/Xinhua/picture alliance
إعلان
أصبحت القهوة منذ زمن جزءًا من ثقافة البوب من مشروب ستاربكس الشهير فرابوتشينو، الذي يحتفل هذا العام بمرور ثلاثين عامًا على ظهوره، إلى الصيحات المنتشرة على تيك توك مثل "دالغونا كوفي" أو "كلاود كوفي". لكن كل هذه الصيحات سبقتها قصة طويلة: فقد كانت القهوة تُحضّر على مدى قرون ضمن طقوس معينة، وتُشرب في الصالونات، وكانت وقودًا للثورات.
وفي الوقت نفسه، فإن تاريخها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستعمار – واليوم بتغير المناخ: فنتيجة لارتفاع درجات الحرارة وعدم انتظام هطول الأمطار، يكافح كثير من مزارعي البن من أجل البقاء، كما أن أسعار القهوة ترتفع بشكل كبير. ومع ذلك، فإن شُرب نحو ملياري فنجان قهوة يوميًا يظهر مدى ارتباط هذا المشروب بثقافة العالم. فيما يلي نظرة سريعة على رحلة القهوة عبر الزمن والقارات.
"كوبي لواك" من إندونيسيا هي حبوب قهوة تمر عبر الجهاز الهضمي لحيوان الزباد ثم تُجمع مجددًا. الفكرة أن التخمير يحسّن الطعم ويجعله أكثر نعومة.صورة من: Rafael Ben-Ari/Avalon/picture alliance
القهوة بين الأسطورة والروحانية
وفقًا للأسطورة، اكتشف راعي ماعز إثيوبي يُدعى كالدي، القهوة عندما لاحظ أن ماعزه بدأت تقفز بنشاط غير عادي بعد أن أكلت حبات حمراء. رغم أن القصة على الأرجح مختلقة، فإن قهوة أرابيكا تنحدر فعلًا من منطقة كافا في إثيوبيا، حيث لا تزال تلعب دورًا مهمًا في الطقوس حتى اليوم. ففي مراسم القهوة الإثيوبية التقليدية، تُحمّص الحبوب على نار مفتوحة وتُحضّر في إبريق خزفي يُعرف باسم "جيبينا" – وهي لحظة ضيافة وتواصل اجتماعي.
إعلان
في السنغال، تعد "قهوة طوبا" أكثر من مجرد مشروب – فهي تنكّه بالفلفل والقرنفل، وتنتمي إلى التقاليد الصوفية الإسلامية ولها معنى روحي. وفي العديد من الدول العربية يُضاف الهيل إلى القهوة.
في تركيا، يُغلى مسحوق القهوة المطحون ناعمًا جدًا مع الماء والسكر في إبريق نحاسي يُدعى "جزوة" – هذه هي القهوة التركية، والتي تُحضّر بالطريقة نفسها في اليونان وتُعرف هناك باسم "كافيداكي". وعندما يُشرب الفنجان حتى تبقى فقط الرواسب، تُقرأ الرواسب لاحقًا – وهي عادة عريقة في التنبؤ بالمستقبل لا تزال مستمرة حتى اليوم.
في إيطاليا، يقسم الناس على الإسبريسو – ويفضلونه كرشفة صغيرة زيتية سوداء في فنجان صغير سميك الجدران.
في البرازيل، يُعد "كافيزينيو" – وهو قهوة صغيرة محلاة – رمزًا للضيافة. وهو جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية: سواء في المنزل أو عند باعة الأرصفة. وفي عام 2020، خلال الإغلاق بسبب كورونا، أعادت كوريا الجنوبية القهوة إلى مركز الاهتمام العالمي: من خلال دالغونا كوفي – مزيج هش من القهوة الفورية والسكر والماء – والذي أصبح طقسًا منتشرًا على تيك توك – بسيط ومريح وجميل المنظر.
طعمها مر لكنها تمنح نكهة روحية صورة من: Channel Partners/Zoonar/picture alliance
جبن وبيض على القهوة؟
في جميع أنحاء العالم، هناك أنواع مبتكرة وغريبة أحيانًا من القهوة: ففي فنلندا والسويد، تُسكب القهوة على مكعبات جبن مصنوعة من حليب البقر أو الرنة – وهي عادة قديمة جدًا. في فيتنام، ظهرت "قهوة البيض" بعد الحرب العالمية الثانية بسبب نقص الحليب – وهي مزيج من صفار البيض المخفوق مع الحليب المحلى المكثف والقهوة – وأصبح اليوم من المشروبات الكلاسيكية المحبوبة.
وهناك أيضًا "كوبي لواك" من إندونيسيا – وهي حبوب قهوة تمر عبر الجهاز الهضمي لحيوان الزباد ثم تُجمع مجددًا. الفكرة أن التخمير يحسّن الطعم ويجعله أكثر نعومة. لكن منظمات حماية الحيوان تحذر: فالكثير من هذه الحيوانات تُحبس في أقفاص وتُجبر على الأكل. توجد شركات تزعم أن قهوتها "مجموعة من البرية" – لكن مصداقيتها غالبًا ما تكون موضع شك.
القهوة بالجبنة، على الطريقة الفنلندية. ففي فنلندا والسويد، تُسكب القهوة على مكعبات جبن مصنوعة من حليب البقر أو الرنة – وهي عادة قديمة جدًاصورة من: Alena68194/Pond5 Images/IMAGO
القهوة من مشروب مقدس إلى منتج عالمي
لم تكن القهوة تُنقل فقط في أكياس، بل عبر طرق التجارة، والتيارات الروحية، والحروب الاستعمارية. رغم أن النبات أصله من إثيوبيا، فإن أول زراعة موثقة له كانت في اليمن – وهناك أيضًا حصل على اسمه "قهوة"، وهو في الأصل اسم لـ "الخمر". استخدم الصوفيون القهوة للبقاء يقظين أثناء صلواتهم الليلية. وكان ميناء المخا اليمني مركزًا عالميًا لتجارة حبوب القهوة.
وفقًا للأسطورة، هرب الصوفي الهندي بابا بودان في القرن السابع عشر بسبع حبات خصبة من اليمن إلى جنوب الهند – رغم الحظر العربي على تصدير الحبوب. وكان ذلك بداية زراعة القهوة في الهند.
سرعان ما أدركت القوى الاستعمارية الأوروبية إمكانيات القهوة: فزرعها الهولنديون في جزيرة جاوة، والفرنسيون في الكاريبي، والبرتغاليون في البرازيل – وغالبًا ما ارتبط ذلك بالعنف والعبودية والعمل القسري. وهكذا أصبحت البرازيل في القرن الثامن عشر أكبر منتج للقهوة في العالم.
حتى أستراليا، التي تأخرت في دخول عالم القهوة، لديها اليوم ثقافة قهوة مزدهرة. حقيقة طريفة: أستراليا ونيوزيلندا تدعي كل منهما اختراع "فلات وايت" في الثمانينات.
التوقف لدقائق لتناول القهوة. من منا لا يفعل ذلك؟ صورة من: LB Studios/Connect Images/picture alliance
المقاهي كمراكز للأفكار والمناضلين
لطالما كانت المقاهي أكثر من مجرد أماكن لشرب القهوة، ففي إسطنبول القرن السادس عشر، حاول الحكّام حظرها مرارًا – خوفًا من أن تكون بؤرًا للقلاقل. وفي أوروبا خلال عصر التنوير، أصبحت المقاهي ملتقى للأفكار الثورية – ومن بين عشاق القهوة المشهورين فولتير وروسو.
وفي أمريكا الاستعمارية، حلت القهوة محل الشاي الذي فرضت عليه بريطانيا الضرائب – خاصة في "حانة التنين الأخضر" في بوسطن ، حيث اجتمع "أبناء الحرية" لتنظيم المقاومة ضد الاستعمار البريطاني. وقد أدى ذلك إلى ما عُرف لاحقًا بحادثة "حفلة شاي بوسطن"، عندما ألقى أعضاء المجموعة مئات الصناديق من شاي شركة الهند الشرقية البريطانية في ميناء بوسطن. وكان ذلك من بدايات حركة الاستقلال الأمريكية في القرن الثامن عشر.
في البرازيل، يُعد "كافيزينيو" – وهو قهوة صغيرة محلاة – رمزًا للضيافة. وهو جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية: سواء في المنزل أو عند باعة الأرصفة.صورة من: Ann Ronan Picture Library/Photo12/picture alliance
مع الحاسوب المحمول والقطط في المقهى
تشهد المقاهي اليوم عودة قوية كمقاهٍ للعمل المشترك – أماكن تجمع بين العمل والمنزل، حيث يمكن للمرء التواجد ببساطة. فمنذ التسعينات، بدأت العديد من المقاهي بتقديم خدمة الإنترنت، قبل أن يصبح الإنترنت اللاسلكي (واي فاي) أمرًا شائعًا في المنازل.
كما أصبحت المقاهي أكثر إبداعًا: ففي تايبيه عاصمة تايوان، افتتح عام 1998 أول مقهى قطط في العالم – مكان للاسترخاء مع القهوة ورفقة القطط. واليوم انتشر هذا المفهوم في كل أنحاء العالم – من طوكيو إلى برلين، يمكن لعشاق القطط مداعبة هذه الحيوانات الناعمة ومشاهدتها، وهم يحتسون فنجانًا من الموكا أو لاتيه ماكياتو أو أمريكانو أو دالغونا أو إسبريسو.
وسواء كطقس، أو وسيلة احتجاج، أو لمجرد التلذذ – تبقى القهوة مرآة ساحرة لعالمنا وتاريخنا. وعندما يدرك المرء ذلك، يتذوقها بمذاق أطيب.
أعده للعربية: عباس الخشالي
تحرير: عارف جابو
أكثر من مجرد مكان لاحتساء القهوة.. ما هي أشهر مقاهي العالم العربي؟
في أحدث تقييم لأفضل مئة مقهى حول العالم، انتزع مقهى "وان لايف" في الإمارات المركز 23 ومقهي "ثيرتي فايف مراكش" في المغرب المركز 53. وبالرغم من خلو القائمة من أي مقاهي عربية آخرى، تشتهر الدول العربية بمقاهي عريقة متنوعة.
صورة من: ZUMA Press/IMAGO
قهوة الفيشاوي في مصر
يعتبر مقهي الفيشاوي من أقدم المقاهي العربية حيث تأسس بالقاهرة عام 1797، أي قبل عام واحد من الحملة الفرنسية على مصر. ويقع المقهى بالقرب من سوق خان الخليلي بمنطقة الحسين. ويشتهر بكونه من الأماكن المفضلة لدى الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب "نجيب محفوظ"، حيث تردد عليه بانتظام واعتاد الكتابة هناك. ولازال المقهى يحتفظ بأجوائه الدافئة، محاطًا بمزيج من روائح التوابل والشيشة بناكهة الفاكهة.
صورة من: Meng Tao/Photoshot/picture alliance
مقهي سيدي شعبان في تونس
يقع مقهى سيدي شعبان ذو الموقع الساحر في قرية سيدي بوسعيد. ويعتبر المقهى من أشهر وأجمل المقاهي التونسية وأكثرها جذبًا للسياح بسبب أجوائه التقليدية وإطلالته الرائعة على جبل بوقرنين. ويُعرف المقهى أيضًا باسم Délices حيث صور المطرب الفرنسي الشهير "باتريك برويل" أغنيته الشهيرة Au Cafe des Delices، والتي ساهمت في شهرة المقهى.
صورة من: John Wreford/Sipa USA/picture alliance
مقهى باليما في المغرب
يتبع المقهى الواقع في شارع محمد الخامس بالعاصمة المغربية الرباط فندقًا يحمل نفس الأسم. وأسس الفندق ومقهاه ثلاثة أصدقاء فرنسيين في ثلاثينات القرن الماضي خلال الاستعمار الفرنسي. ويعتبر المكان شاهدًا على الكثير من الأحداث، لعل أبرزها احتجاز الثوري الكوبي الشهير "تشي جيفارا" ورفاقه في فندق باليما لدى وصولهم للمغرب. واكتسب المقهي شهرة كبيرة وأصبح مركزا لتجمعات الفنانين والمثقفين والسياسيين في المغرب.
صورة من: Serge Assier/maxppp/picture-alliance
مقهى الحافة في المغرب
أُسس مقهى الحافة بمدينة طنجة المغربية عام 1921 في موقع جغرافي مميز. ويوجد المقهى أعلى هضبة مرتفعة يطل منها على ملتقى البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ومن ورائه إسبانيا. ويتكون المكان من خمسة مدرجات بعيدًا عن صخب المدينة. ومازال المكان يحتفظ بطابعه التقليدي، ويعد موقع جذب سواء لسكان المدينة أو زوارها.
صورة من: Robert B. Fishman/dpa/picture alliance
مقهى النوفرة في سوريا
يقع المقهي بجوار المسجد الأموي الكبير في دمشق. ويعتقد كثيرون أن اسم المقهي جاء بسبب نافورة ماء كانت موجودة بقربه، ولكن يُطلق البعض علي المكان اسم شيخ المقاهي في الشام حيث يوجد في موقعه منذ مئات السنين. وأكثر ما يشتهر به مقهى النوفرة هو "الحكواتي"، الذي اعتاد على سرد القصص التراثية على مرتادي المكان. وبالرغم من مرور الزمن، لازال النافورة متمسكًا بوجود الحكواتي وما يسرده من قصص تفيض بحنين للماضي.
صورة من: Ammar Safarjalani/Xinhua/dpa/picture alliance
مقهى الشابندر في العراق
لا تكتمل جولتك بشارع المتنبي في العاصمة العراقية بغداد إلا بزيارة مقهى الشابندر. وتأسس المقهي عام 1917 محل مطبعة موسى الشابندر لطباعة الكتب التي بدأ تأسيسها عام 1907. وصمد المقهى العريق في مكانه لأكثر من مئة عام. وفي عام 2007، وقع تفجير إرهابي بشارع المتنبي راح ضحيته عشرات القتلى، من بينهم أربعة من أبناء صاحب المقهى. ليقوم أصحاب الشابندر لاحقًا بترميم المقهى والإبقاء عليه كشاهد على تاريخ العراق.
صورة من: Michael Runkel/robertharding/picture alliance
مقهى ويمبي - روشا بالحمراـ بيروت
يعود تأسيس مقهى ويمبي في بيروت إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي. ويعتبر المقهى الواقع في شارع الحمرا الشهير في العاصمة اللبنانية، منذ عقود نقطة جذب سياحي وتجمع تاريخي للمثقفين العالميين في بيروت. وتعود قصة المقهى إلى كونها فرعا من سلسلة عالمية من محلات المقهى ومطاعم الأكلات السريعة أسسها الأمريكي إيدي غولد الذي كان قد بدأ في الثلاثينيات من القرن الماضي حيث بدأ بفكرة إنشاء مطعم صغير في شيكاغو.
صورة من: Fadel Itani/DW
مقهى "ويمبي" يحمل رمزية سياسية
مقهى ويمبي ليس فقط مكانا لتناول القهوة أو للقاءات الاجتماعية، بل تحولت منذ سنة 1982 إلى موقع ذي دلالات سياسية في تاريخ لبنان. يوم 24 سبتمبر 1982 قام شاب من الحزب السوري القومي الاجتماعي بإطلاق النار على جنود إسرائيليين في المقهى، وقتل منهم ضابطا وأصاب جنديين، بعد ذلك أعلنت "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" مسؤوليتها عن العملية، التي أصبح المقهى بالنسبة لهم يحمل رمزية في تاريخ الحرب في لبنان.
صورة من: Fadel Itani/DW
مقهى يونس في لبنان
لطالما كانت المقاهي جزءًا من المشهد السياسي اللبناني. ومثلما تتغير ملامح المشهد اللبناني، تتغير المقاهي اللبنانية. ولم يعد الكثير من المقاهي القديمة موجودًا حيث تحولت لذكريات عن ماض جميل. ولكن مقهى يونس ربما هو واحدًا من أبرز المقاهي بالعاصمة اللبنانية بيروت اليوم. وقرر اللبناني أمين يونس تأسيس المقهي عام 1935، لتتوالي منذ ذلك الحين ثلاثة أجيال على إدارته وتبدأ في افتتاح فروع جديدة له خارج لبنان.
صورة من: Hussein Malla/AP Photo/picture alliance
مقهى سمسرة وردة في اليمن
ما قد لا يعرفه البعض، هو أن لليمن فضل كبير في اكتشاف البن ونشر صناعته حول العالم. ويقول مؤرخون إن الاسم الذي تحمله قهوة الموكا الشهيرة، يأتي من اسم ميناء "المخا" القديم في اليمن حيث كان مركزًا لتصدير البن لأنحاء العالم. ونظرًا لارتباط القهوة بشيوخ الصوفية حينها، أُطلق عليها اسم "خمر الصالحين" لسنوات طويلة. ومن أقدم وأشهر مقاهي اليمن مقهى سمسرة وردة بمدينة صنعاء والذي تأسس منذ أكثر من 220 عاماً.
صورة من: Mohammed Al-Jabri/DW
مقهى حراز في اليمن
ولم تمنع حالة الحرب وعدم الاستقرار السياسي التي يشهدها اليمن من استمرار ثقافة المقهى، خاصة مع التاريخ الطويل الذي يرتبط اليمن بصناعة القهوة. ويصف الكثيرون مقهى حراز بأنه الأبرز حاليًا في صنعاء، إذ تم افتتاحه مؤخرًا لتقديم البن اليمني الأصيل في مساحة تكفي نحو ألف شخص.
صورة من: Mohammed Mohammed/Xinhua/dpa/picture alliance