الكتب "المستنسخة" في العراق، من وسيلة لمقاومة الرقيب إلى آفة فتَاكة
١٣ يوليو ٢٠١٢ "اُهدي هذا الكتاب أولاً إلى قراصنة كتبي، فلا أعرف أحدا انتظر إصدارا جديداً لي كما انتظروه. أنا مدينة لهم بانتشاري. فلولاهم ما فاضت المكتبات بآلاف النسخ - المقلدة طبق الأصل - عن كتبي"، إهداء الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي هذا في كتابها "نسيان" ربما يكون لسان حال يعبر عن ظاهرة تصوير الكتب بشكل غير قانوني وبيعها، والتي استفحلت في بلاد الرافدين بشكل ملفت للنظر منذ تسعينات القرن الماضي.
الكتب المصورة بشكل غير قانوني أو "المستنسخة" كما تُسمى هنا، عرفها العراق قبل عقود مع تولي حزب البعث للحكم، إذ كانت الكتب الممنوعة التداول تُستنسخ وتُباع وتتناقلها الأيدي سراً بعيداً عن أعين الرقيب. ومع العزلة الثقافية التي عاشها العراق بسبب الحصار الاقتصادي لجأ العراقيون من جديد إلى استنساخ الكتب اليتيمة التي تمكنت من كسر الطوق بمبادرات شخصية، دون الالتفات إلى حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين والناشرين. وطريقة تصوير هذه الكتب باتت مُحترفة للغاية، حتى أصبح في الصعب في كثير من الأحيان تمييزها عن الكتب الأصلية.
وعلى الرغم من الانفتاح الذي عاشه العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، إلا أن الكتب المستنسخة لا تزال تهيمن على سوق الكتب في بغداد بشكل تجاوز الحدود المتعارف عليها في قانون حماية المطبوعات وحقوق المؤلف ودور النشر، بحيث أصبحت لها "قنَاصون" يتحينون الفرص لانتقاء الكتب الحديثة المستوردة من قبل المكتبات الكبيرة والتي اشترتها بالعملة الصعبة.
قرصنة معلوماتية
"أعتبر ظاهرة استنساخ الكتب عملية قرصنة معلوماتية"، هذا ما قاله طالب الخط العربي والإسلامي في كلية الفنون الجميلة ببغداد سنان سمير، الذي لا يقتني سوى الكتب الأصلية،"على الرغم من ارتفاع أسعارها التي تصل أحياناً إلى أضعاف مثيلتها المستنسخة". وعزا سمير (23 عاماً) الذي جاء منذ الصباح إلى شارع المتنبي لبيع الكتب وسط بغداد بحثاً عن بعض المصادر العلمية، سبب إقباله على الكتب الأصلية إلى أن "أغلب الكتب المستنسخة تفقد الكثير من خواصها بعد نحو سنة من اقتنائها حيث تبدو كتابتها غير واضحة على خلفية رداءة ورقها وحبرها".
ويضيف سمير الذي كان يعاين أحد الكتب الصادرة من إحدى دور النشر البيروتية، أن "استنساخ الكتب اليوم بات ظاهرة غير حضارية لأنها لا تحفظ حقوق المؤلف ودار النشر"، واختتم حديثه بالقول "مع هذا الكم الهائل من الكتب المستنسخة أصبح من الصعب جداَ العثور على الكتب الأصلية".
ظاهرة استنساخ الكتب ثمنها باهض
ولا يتفق عدنان ياسر حسين مع سمير، الذي يفضل شراء الكتاب المقلد والمستنسخ على مثيله الأصلي نظراً لسعره المناسب وتوفره بكثرة في السوق المحلية، مبيناً أن "الاستنساخ يؤكد جودة الأصل ويدل على تزايد الطلب عليه (...) الذي سوف يضمن عملية انتشار الكتاب بشكل أوسع".
ويقول حسين (46 عاماً) في حوار مع DW عربية: "أنا مع الكتاب المستنسخ لان الأصلي غالي الثمن، حيث يمكنك أن تشتري عدة كتب مستنسخة بسعر كتاب أصلي واحد"، منوهاً إلى أن "بعض أسعار الكتب الأصلية البسيطة تصل أسعارها إلى أكثر من 30 دولارا ً(أمريكياً) بينما لا يتعدي المستنسخ خمسة دولارات".
ويوضح حسين الذي كان يحمل بيده كتاباً أدبياً مستنسخاً، أن "الكتب المستنسخة سهلت الطريق للعديد من محبي الثقافة لاقتناء أنواع مختلفة ومتعددة من الكتب"، مشيراً إلى أن"العديد من الكتب يمكن أن تنشر على الإنترنت بدون حقوق المؤلف أو دار النشر".
من جانبه، يقول علي حسين عذافه صاحب مكتبة "النهضة العربية" وسط بغداد، في حوار مع DW عربية إن "استفحال ظاهرة الكتب المقلدة أثر سلباً على عملنا، خصوصاً في مجال الكتب المستورد التي تكون أسعارها باهظة". وعن حجم الخسائر التي يتكبدها أصحاب المكتبات التي تعمل على استيراد الكتب من مصادرها الأصلية، يضيف عذافة (57 عاماً): "خلال فترة الثمانينات والتسعينات كنا نستورد شهرياً نحو 200 إلى 400 كتاب من المصادر العلمية على سبيل المثال، أما الآن فلا تتجاوز وارداتنا من الكتب شهرياً 10 كتب لارتفاع أسعارها مقارنة مع المستنسخ منها".
وينوه عذافه الذي أبدى استيائه الكبير من رواج الكتب المقلدة في المكتبات المجاورة له، إلى أن"القارئ الذواق يبحث عن الكتاب الأصلي حتى لو كان سعره باهضاً"، داعياً الجهات المعنية بضرورة الحد من الظاهرة، من خلال "تشريع القوانين في هذا المجال والتي تحاسب المستفيدين والمروجين لتلك الكتب (المستنسخة)".
هل يحسم القضاء المعركة ضد القرصنة؟
ويقارن كريم حيدر صبيح، صاحب محل تجاري لبيع الكتب المستنسخة في شارع المتنبي وسط بغداد، ظاهرة الكتب المستنسخة في عهد حكم صدام وحسين وبعده. ويضيف قائلا:"ففي السابق كنا نعمل على استنساخ العديد من الكتب الدينية والسياسية وبعض الكتب الأدبية الممنوعة من التداول وبيعها بصورة سرية".
ويعمل صبيح (60 عاما)على استنساخ مختلف المصادر العلمية وبيعها منذ عام 1991 وحتى اليوم، ويقول في حديث مع DWعربية، قائلاً أن"استنساخ الكتب في العراق بعد الإطاحة بنظام البعث عام 2003، بقي حصراً على الكتب الباهظة الثمن مثل المصادر العلمية والمناهج الانكليزية"، لافتاً إلى أن سوق المستنسخ قد وفر كتب بسعر" يكاد يكون أقل من نصف السعر الحقيقي لها".
ومن جانبه أبدى مدير قسم المكتبات والمعارض التابعة لمؤسسة "المدى" الثقافية تخوفه من تفاقم ظاهرة استنساخ الكتب، وعن أسباب تناميها بعد عام 2003، يقول سلمان محمد عباس في حوار مع DW عربية إن "عامل الربح وغياب الدور الرقابي والتشريعي للدولة ومحاسبة من يتعدى على حقوق المؤلف أو الناشر من أبرز الأسباب التي أدت إلى استفحال الظاهرة".
ويكشف عباس أن هنالك العديد من المكتبات تقوم باستنساخ "كتب مؤسستنا وتبيعها بدون شراء حقوق الكتاب، وأن عدداً من القضايا رُفعت إلى القضاء". وعن السبل التي من شأنها أن تحد من ظاهرة إغراق السوق الثقافية بالكتب المقلدة، ينوه عباس، إلى ضرورة "تخفيف الرسوم الجمركية على الكتب المستوردة، فضلاً عن سَنِ القوانين في هذا المجال ومحاسبة المستفيدين".
ومن جهته يقول المحامي في بغداد كاظم عبد الأمير شلش،إن"تقليد الكتب يعتبر جريمة يحاسب عليها القانون، للاعتداء على حقوق الغير، كونها جزء من مبتكرات العقل البشري سواء في الآداب أو العلوم أو الفنون". ويوضح شلش في حوار مع DW عربية ان المادة (44) من قانون حماية حق المؤلف العراقي (3) لسنة 1971، تنص على أن "لكل مؤلف وقع الاعتداء على حق من حقوقه المبينة بهذا القانون الحق في التعويض المناسب لما لحق به من ضرر". واضاف:"ولأهمية الموضوع وضع المشرع العراقي نصاً آخر ( المادة 47) من نفس القانون، وتنص "لمحكمة البداءة بناء على طلب صاحب حق المؤلف أن تأمر بإتلاف نسخ أو صور المصنف الذي نشر بوجه غير مشروع والمواد التي استعملت لنشره بشرط ألا تكون صالحة لعمل أخر...".
لكن أمام ضعف هذه التشريعات في وضع عقوبات تحول دون تفشي ظاهرة بيع الكتب المستنسخة، تبقى أسواق الكتب في بغداد، التي قُيل زماناً إنها تقرأ بعد أن تكتب القاهرة وتطبع بيروت، مترعة بالاعتداء على حقوق الملكية الفكرية للكثير من الكتاب والمبدعين.
مناف الساعدي- بغداد
مراجعة: منصف السليمي