الكوليرا في زمن الحرب: الوباء يحصد أرواح السودانيين
٣٠ مايو ٢٠٢٥
يشهد السودان موجة متسارعة من تفشي وباء الكوليرا، في ظل انهيار شبه كامل للنظام الصحي وتدهور حاد في الأوضاع البيئية، لا سيما في مدينة أم درمان التي تعتبر من أكثر المناطق تضرراً.
وأعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان أن النقص الحاد في المحاليل الوريدية والكادر الطبي، إلى جانب انعدام المياه النظيفة ووسائل التعقيم، ساهم بشكل كبير في تفاقم الأزمة الصحية. وأشارت اللجنة إلى ارتفاع عدد الوفيات في ولايات أخرى مثل الخرطوم وشمال كردفان ونهر النيل، داعيةً إلى إعلان حالة طوارئ صحية فورية.
في هذا السياق، أكدت رنا عثمان من غرفة طوارئ ولاية الخرطوم لـ DW عربية تسجيل نحو 1800 حالة إصابة في كل من محليتي جبل أولياء وأم درمان، حيث تعد منطقة الصالحة من أكثر المناطق تأثراً. وانتشرت الإصابات في جبل أولياء بمناطق الفتيح وقرى الحبل والكلاكلات، خصوصاً بين النازحين من مناطق الجموعية. كما تم تسجيل إصابات في محلية أمبدة، مما يعكس توسع رقعة الوباء في الولاية.
من جانبه، أكد أحمد فاروق عيسى، المتحدث الرسمي لغرفة طوارئ جنوب الحزام، لـ"ميكروفون السودان الآن" تدهور الوضع الصحي في المنطقة، مشيراً إلى تسجيل حالتي وفاة وأكثر من 40 إصابة بالكوليرا خلال أسبوع، بالإضافة إلى انتشار أمراض حمى الضنك والحمى الحبشية، مما يعكس خطورة الأوضاع الصحية في الجنوب.
وأعلن مركز عمليات الطوارئ الاتحادي التابع لوزارة الصحة تصاعد إصابات الكوليرا في عدة ولايات، مسجلاً 2729 حالة إصابة و172 وفاة خلال أسبوع، مع تركيز 90% من الحالات في ولاية الخرطوم.
وأوضح سليمان عمار، المنسق الطبي لمنظمة أطباء بلا حدود في الخرطوم، أن تفشي الكوليرا الحالي في السودان، يُعد نتيجة مباشرة للحرب وتداعياتها على البنية التحتية الحيوية. وأكد أن الهجمات المتكررة على محطات الكهرباء، خصوصاً في أم درمان، أدت إلى توقف محطات معالجة المياه ، مما حرم الأهالي من المياه النظيفة، وهو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار المرض.
في تصريح لـ"ميكروفون السودان"، أكد عمر أحمد، ممثل منظمة سقيا وإطعام الخيرية، اتساع رقعة تفشي وباء الكوليرا في عدة محليات بولاية الخرطوم، منها كرري، وأم درمان، والخرطوم، وأمبدة، وسواعد، والوالدين. وأوضح أن المنظمة نفذت استجابة طبية عاجلة استمرت أربعة أيام، تضمنت توزيع 6000 عبوة درب و3600 كانيولا على 11 مستشفى ومركزاً صحياً، بتكلفة تجاوزت 11 مليار جنيه سوداني، لدعم المرافق الصحية التي تستقبل الحالات المصابة.
ما أسباب انتشار الكوليرا؟
فاطمة (اسم مستعار)، من سكان مدينة أم درمان، أكدت في شهادة خاصة لـ DW عربية أن الكوليرا تنتشر بسرعة كبيرة، والوضع كارثي بالفعل. قالت: "أنا قلقة جداً على صحة أطفالي الصغار، وكذلك كبار السن في عائلتنا، إذ مناعتهم ضعيفة ولا يتوفر غذاء جيد".
من جانبها، أوضحت رنا عثمان، من غرفة طوارئ ولاية الخرطوم، أن التهدئة الأمنية النسبية لم تخفف من حدة الأزمة، في ظل استمرار انهيار المؤسسات الصحية ونزوح الكوادر الطبية وضعف الإمدادات العلاجية. وأضافت أن نقل المرضى من مناطق التفشي الكبرى، خاصة أم درمان، إلى مراكز صحية في محليات تفتقر للإمكانيات، ساهم في توسع نطاق الوباء بدلاً من احتوائه.
فاطمة أكدت: "نعيش ظروفاً بالغة الصعوبة، والحياة لم تعد كما كانت. الكوليرا اجتاحت الأحياء كالنار في الهشيم، والموت أصبح مشهداً مألوفاً ومخيفاً. فقدنا حتى الآن سبعة من جيراننا بينهم أطفال ونساء وشباب، والخوف يسيطر علينا جميعاً". وأضافت: "عدد المستشفيات الحكومية محدود ولا يلبي الحاجة، بينما ترفض المستشفيات الخاصة استقبال المصابين، مما يعوق وصولنا للعلاج في الوقت المناسب. المرض ينتشر بسرعة، ونحن نفتقر إلى المعلومات والوسائل التي تساعدنا على مواجهته بشكل صحيح."
على مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت دعوات شعبية لتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية، عبر مبادرات خيرية مثل مبادرة مستشفى النو ولجان الطوارئ، في محاولة لسد الفجوة الكبيرة في الاستجابة الصحية. كما أطلقت غرف الطوارئ التابعة لوزارة الصحة حملات توعية لتثقيف المواطنين حول طبيعة المرض وطرق الوقاية منه، بالإضافة إلى آليات التعامل مع الحالات المشتبه بها.
الوباء "ينتشر كالنار في الهشيم"
أفادت السلطات الصحية في ولاية الخرطوم بتسجيل أكثر من 7700 حالة إصابة بالكوليرا و185 حالة وفاة منذ بداية العام، منها أكثر من ألف حالة بين الأطفال دون سن الخامسة. وشهدت الأيام الأخيرة من أيار/مايو تصاعداً حاداً في الإصابات اليومية، إذ ارتفعت من 90 حالة إلى أكثر من 800 خلال فترة قصيرة.
وحسب منظمة اليونيسف ، عاد أكثر من 34 ألف نازح إلى مناطق تفتقر تماماً للخدمات الأساسية، مما فاقم الأزمة الصحية. كما أدت الهجمات المتكررة على محطات الكهرباء إلى انقطاع إمدادات المياه، ما اضطر الأسر إلى الاعتماد على مصادر ملوثة، مما زاد من انتشار المرض.
وحذّر ممثل اليونيسف في السودان، شيلدون يات، من "تهديد مزدوج" يواجه الأطفال، يتمثل في الكوليرا وسوء التغذية، مؤكداً أن المنظمة وشركاءها يسابقون الزمن لتوفير الرعاية الصحية والمياه النظيفة وخدمات التغذية لإنقاذ آلاف الأرواح المهددة بالخطر.
سباق مع الزمن
وزارة الصحة بولاية الخرطوم تعلن عن نسبة شفاء بلغت 89% بين مصابي الكوليرا في مراكز العزل، مع تسجيل تراجع ملحوظ في أعداد الإصابات والوفيات خلال اليومين الماضيين. فقد تم تسجيل 942 حالة إصابة و25 وفاة أمس، مقارنة بـ 1177 إصابة و45 وفاة في اليوم السابق، مع نسبة وفاة بلغت 2%.
وأكد د. محمد التجاني، مدير الإدارة العامة للطوارئ والأوبئة، أن جميع الفحوصات المخبرية أثبتت إصابة المرضى بالكوليرا، ونفت وجود أي علاقة بين الحالات وحوادث
تسمم كيميائي.
ودعت منظمة "أطباء بلا حدود" إلى دعم جهود تحسين خدمات المياه والصرف الصحي في الخرطوم، مشددة على أهمية توفير الوقود لتشغيل المحطات والمستشفيات، وتسريع استعادة خدمات الكهرباء والمياه الحيوية.
بدورها، أكدت رنا عثمان من غرفة الطوارئ لـ DW عربية جاهزية فرقها التامة للتدخل الفوري والحد من تفشي وباء الكوليرا، بالتنسيق مع الجهات المختصة، من خلال تقديم الدعم المادي والعيني، ونشر فرق التوعية المجتمعية، وتعبئة الكوادر الطبية لإيقاف هذه الكارثة الصحية التي تهدد حياة آلاف المواطنين. وأضافت: "إننا في غرفة طوارئ ولاية الخرطوم ندعو السلطات الصحية والمنظمات الإنسانية والدولية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية واليونيسف، إلى تكثيف جهود الاستجابة الصحية بشكل عاجل وفوري لإنقاذ الأرواح وحماية المجتمع." وناشدت فاطمة جميع المنظمات الصحية والطبية بالتدخل الفوري لإنقاذ الوضع المتدهور، محذرة من أن "الوضع شديد الخطورة، ومع مرور كل يوم نفقد أرواحاً جديدة".
تحرير: خ.س