القاضي طارق بيطار الذي قرّر استئناف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، متحديا الضغوط السياسية والقضائية، رجل قانون يبقى لغزاً بالنسبة لكثيرين، لكنه تحوّل إلى رمز لمواجهة طبقة سياسية متجذّرة على رأسها حزب الله وحركة امل.
إعلان
رفض النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، قرارات المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار أمس الإثنين. وأعلنت "الوكالة الوطنية للإعلام" اليوم الثلاثاء (24 كانون الثاني/يناير 2023) بأن " النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات ردّ على القرارات التي اتخذها بالأمس المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار برفض هذه القرارات جملة وتفصيلاً كون البيطار مكفوفة يده عن الملف".
كان البيطار قد استأنف تحقيقاته في قضية الانفجار أمس الإثنين، بعد توقفها لأكثر من سنة، وأخلى سبيل 5 موقوفين، وادعى على 8 أشخاص جدد، مبرراً عودته بالاستناد إلى مواد قانونية لا تجيز ردّه.
تجاوز الخطوط الحمراء
بادعائه على مسؤولين قضائيين وأمنيين بارزين، بعد أكثر من عام على تعليق التحقيق جراء دعاوى لاحقته وطالبت بكفّ يده عن القضية، يضع المحقّق العدلي نفسه اليوم في مواجهة جديدة، بعد تجاوزه خطوطاً حمراء في لبنان، حيث تسود ثقافة الإفلات من العقاب منذ عقود.
وبيطار (48 عاماً) قاض معروف بنزاهته واستقلاليته وبابتعاده كلياً عن الإطلالات الإعلامية إلى درجة لم تُلتقط له صورة واحدة منذ توليه التحقيق في 19 شباط/فبراير 2021 في انفجار يُعدّ من بين أضخم الانفجارات غير النووية في العالم.
ومنذ ادعائه صيف 2021 على رئيس الحكومة السابق حسان دياب وطلبه ملاحقة نواب ووزراء سابقين ومسؤولين أمنيين، خشي كثيرون أن تؤدي الضغوط السياسية إلى عزله، على غرار سلفه فادي صوان الذي نُحي في شباط/فبراير من العام ذاته بعد ادعائه على سياسيين. لكنه يبدو حتى اليوم صامدا في مواجهة الضغوط، علما أنه نجح أيضا في منع تسرّب تفاصيل عن تحقيقاته الى الإعلام. وبالتالي، ليس معروفا الى أين وصل في تحقيقاته.
اتهامات بـ"تسييس" التحقيق
اصطدم عمله بتدخلات سياسية عرقلت مهمته، مع اعتراض قوى سياسية عدّة أبرزها حزب الله، على أدائه واتهامه بـ"تسييس" الملف، وصولاً إلى المطالبة بتنحّيه. ورفع مدعى عليهم تباعاً عشرات الدعاوى لكفّ يده عن القضية. وتمّ تعليق التحقيق أربع مرات آخرها في كانون الأول/ديسمبر 2021.
ورغم الحملة ضده، يحظى بيطار بتأييد لبنانيين كثر على رأسهم عدد كبير من أفراد عائلات الضحايا الذين يعلقون آمالاً على عمله ويرون فيه قاضياً نزيهاً لم يستسلم أمام الضغوط السياسية.
وتقول المحامية سيسيل روكز التي فقدت شقيقها في الانفجار، متحدثة باسم عائلات الضحايا، لوكالة فرانس برس، إن بيطار "جريء لدرجة أنه يواجه سلطة كاملة تعرقل التحقيق". وتضيف "تنبع جرأته من ضميره الحيّ لأنه يحقق في أكبر انفجار دمّر مدينة، يواجه بشجاعة ويتسلّح بالقانون".
واستند بيطار في استئناف التحقيق إلى مطالعة قانونية تفيد بأن لا وجود لأي نص قانوني يجيز كفّ يد المحقق العدلي عن عمله في قضية مماثلة. ويمكن له أن يدّعي على أي شخص من دون إذن من أي إدارة أو وزارة.
قبل تعليق التحقيق، حظي بيطار بتضامن واسع بعد تصعيد خطاب حزب الله ضده وبعد تسريب إعلاميين محليين رسالة وجّهها مسؤول رفيع المستوى في الحزب إليه تضمنت امتعاضاً من مسار التحقيق وهدّدت بإزاحته من منصبه.
وتظاهر العشرات من مناصري حزب الله وحليفته حركة أمل أمام قصر العدل في تشرين الأول/أكتوبر 2021 مطالبين بتنحية بيطار، ووقع خلال التظاهرة تبادل كثيف لإطلاق النار أوقع ستة قتلى، وعلت أصوات محذرة من نزاع أهلي. وكما يحصل دائما في لبنان المنقسم سياسيا الى حد بعيد، أحرق متظاهرون صور بيطار أمام قصر العدل في بيروت واتهموه بالتواطؤ مع الأميركيين، بينما تناقل آخرون صوره على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين دعمهم له ومشيدين بجرأته.
هل حياته في خطر؟
ويقول أحد معارف بيطار ممن يلتقونه دورياً وفضّل عدم كشف اسمه، إنه رجل هادئ للغاية، يرفض التخلي عن مسؤولياته رغم كل الضغوط التي تعرض ويتعرض لها. وينقل عنه قوله إنه "لن يستسلم أو ينهزم أمام الضغوط"، كما أنه يرفض "تسليم ملف التحقيق لأي قاض آخر حتى يعبث به".
ويستشعر بيطار، وفق مقربين منه، بمخاطر أمنية متزايدة "باتت تطغى على عمله وتحركاته كافة"، لكن يعتبر أنّ أمامه مهمة واضحة تكمن في "إنجاز ما تبقى من تحقيق المرفأ" في اعتبار "يطغى على أي اعتبار آخر". ومنذ استلامه ملف التحقيق، يستعين بحماية شخصية أمنية وعسكرية.
ويقول شخص آخر يعرفه رافضا الكشف عن اسمه "ليس لديه أي ارتباط سياسي معروف" في بلد تتدخل فيه السياسة حتى في التعيينات القضائية. ويعتبر عدد من القضاة محسوبين على طوائف وأحزاب سياسية. ويضيف "هذه تحديداً مشكلة السياسيين مع بيطار: ليس لديهم أي أداة للضغط عليه".
وحافظ بيطار المتحدر من شمال لبنان، خلال السنوات الماضية على سمعة حسنة. ويتمتع بثقة عالية في النفس تلامس في نظر البعض حدود الغرور.
وبيطار نادر الابتسام، ولا يقبل دعوات غداء وعشاء وحفلات من سياسيين ويتجنّب المناسبات العامة خشية اتهامه بالارتباط السياسي، وفق المصدر ذاته الذي يقول "عند تكليفه التحقيق، واجهنا صعوبة حتى في إيجاد صورة له". ويضيف "جرأته تخيفهم، فهو ظاهرة غير مسبوقة في قصر العدل".
ويعوّل بيطار على دعم تام من عدد كبير من أهالي الضحايا الذين يتظاهرون بانتظام أمام قصر العدل للتعبير عن دعمهم له ورفضاً لأي تدخلات سياسية بعمله.
ولد بيطار، ولديه ولدان، عام 1974 في قرية عيدمون في منطقة عكار الشمالية. ويحمل شهادة في القانون من الجامعة اللبنانية، وبدأ مسيرته المهنية في شمال البلاد قبل أن يترأس محكمة جنايات بيروت.
وتولى بيطار قضايا عدّة معقّدة، من أبرزها قضية الطفلة إيلا طنوس التي أثارت ضجّة في لبنان، إذ إنه دان العام 2020 مستشفيين خاصين وطبيبين وفرض على المدانين دفع تعويضات مالية ضخمة لعائلة الطفلة التي أدى خطأ طبي إلى بتر أطرافها الأربعة.
ويقول محام عرفه حين كان يرأس محكمة الجنايات "تسلمه قضية مرفأ بيروت كان بمثابة خسارة لنا في محكمة الجنايات، فقد خسرنا قاضياً نزيهاً واستثنائياً".
خ.س/ ص.ش (أ ف ب، د ب أ)
في الذكرى الثانية لانفجار المرفأ.. لبنان لايزال يتألم!
في الرابع من أغسطس تحل الذكرى الثانية لانفجار مرفأ بيروت المروع. انفجار أودى بحياة أكثر من مئتي شخص وأحدث هزة اجتماعية وسياسية واقتصادية هائلة لايزال صداها يتردد. انفجار المرفأ وأزمات لبنان الأخرى في هذه الجولة المصورة.
صورة من: JOSEPH EID/AFP via Getty Images
انفجار المرفأ .. جرح لايزال نازفاً
في الرابع من أغسطس / آب 2020، وقع انفجار هائل في بيروت. عزت السلطات الانفجار إلى كميات كبيرة من نترات الأمونيوم مخزنة بالعنبر رقم 12 بالمرفأ منذ 2014. ألحق الانفجار، الذي يعد أحد أكبر الانفجارات غير النووية المسجلة في العالم، دماراً ضخماً بالمرفأ والأحياء القريبة منه، وأسفر عن مقتل 214 شخصاً وإصابة 6500 آخرين. قال خبراء إن الصوامع امتصت الكثير من تأثير الانفجار، ما جنب المدينة أضرارا أسوأ.
صورة من: Ahmad Terro/picture alliance
انهيار صوامع الحبوب ينكأ الجراح
رغم مرور عامين على الانفجار المروع، لايزال مشهد الصوامع المدمرة يؤلم اللبنانيين إلى اليوم. مؤخراً اندلع حريق قال مسؤولون إنه نتيجة إشعال حرارة الصيف النار في الحبوب المتعفنة بالداخل ما أدى لاحقاً لانهيار جزء من الصوامع. رفض مواطنون اقتراحاً بإزالة المباني المدمرة وأصروا أن تبقى لتذّكر الجميع بالفاجعة. ينظر اللبنانيون للانفجار على أنه رمز للفساد وسوء الإدارة من قبل النخبة الحاكمة.
صورة من: Mohamed Azakir/REUTERS
أول سفينة حبوب أوكرانية .. من نصيب لبنان
تتزايد معاناة الكثير من الدول بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن عقب اتفاق رعته تركيا والأمم المتحدة بين روسيا وأوكرانيا غادرت أول سفينة تحمل حبوباً أوكرانية ميناء أوديسا متجهة إلى لبنان. وفق الاتفاق فإن سفينة الشحن "رازوني"، التي ترفع علم سيراليون سيتم تفتيشها أولاً في إسطنبول من قبل الأطراف المعنية، قبل مواصلة رحلتها نحو وجهتها الأخيرة وهي مدينة طرابلس اللبنانية.
صورة من: Michael Shtekel/AP/picture alliance
قضية الباخرة "لوديسيا"
ضمن أحدث ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية، أصدر النائب العام التمييزي في لبنان قراراً بالحجز على سفينة تنقل الشعير قالت السفارة الأوكرانية في بيروت إنها حُملت بشكل غير قانوني من مناطق في أوكرانيا باتت خاضعة للسيطرة الروسية. تم احتجاز الباخرة "لوديسيا" التي ترفع العلم السوري في مرفأ طرابلس في شمال لبنان، فيما بدأت المديرية العامة للجمارك وقوى الأمن الداخلي في إجراء التحقيقات.
صورة من: picture alliance/AP
انهيار اقتصادي لا يتوقف
يعاني لبنان من أزمة اقتصادية طاحنة صنّفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، ما أدى لأن تخسر العملة المحلية أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار، وتضاءلت قدرة المصرف المركزي على دعم استيراد سلع حيوية، بينها القمح والمحروقات والأدوية. منذ بدء الأزمة، تُحمِل السلطات اللبنانية جزءاً من مسؤولية الانهيار، لأكثر من مليون لاجئ سوري يعيشون في ظروف إنسانية صعبة بعدما فروا من الحرب في بلادهم.
صورة من: Mohamed Azakir /REUTERS
أزمة الخبز.. هل من أمل في حل قريب؟
على وقع الأزمة الاقتصادية، رفعت وزارة الاقتصاد اللبنانية مرات خلال العامين الماضيين أسعار الخبز. وفاقم الغزو الروسي لأوكرانيا من صعوبة الوضع في لبنان نظراً لتوقف تصدير القمح، خصوصاً أن لبنان يستورد 80% من حاجته من أوكرانيا. وفي كل يوم يزداد طول الطوابير أمام المخابز، وارتفع سعر ربطة الخبز المدعوم (6 أرغفة) إلى 13 ألف ليرة لبنانية، فيما تخطى سعرها 30 ألفاً بالسوق السوداء.
صورة من: Hussam Shbaro/AA/picture alliance
تفجر الاحتجاجات
فجر إعلان الحكومة اللبنانية أواخر عام 2019 عزمها فرض رسم مالي على الاتصالات المجانية عبر تطبيقات المراسلة الإلكترونية مثل واتساب، غضب اللبنانيين. تزامن الإعلان مع انهيار سعر الليرة وتفاقم أزمة الخبز لينزل الآلاف إلى الشوارع تعبيراً عن رفضهم القرار ورغبتهم في إسقاط النظام.
صورة من: Marwan Bou Haidar/Zuma/picture alliance
استقالة حكومة الحريري
رغم تراجع حكومة سعد الحريري عن فرض الرسم المالي على الاتصالات، استمرت الاحتجاجات. تزايدت التظاهرات وارتفع سقف المطالب ليصل إلى المطالبة برحيل الطبقة الحاكمة التي لم يمسها تغيير جوهري منذ عقود والمتهمة بالفساد وعدم الكفاءة. على وقع التظاهرات استقال الحريري في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بينما تسارعت وتيرة الأزمة المالية. تم تجميد أموال المودعين وسط أزمة سيولة في العملة الصعبة وانهيار للعملة المحلية
صورة من: Imago-Images/ITAR-TASS
انفجار المرفأ يطيح حكومة دياب
في الثامن من أغسطس/ آب عام 2021، تظاهر آلاف اللبنانيين ضد المسؤولين اللبنانيين الذين حمّلوهم مسؤولية مأساة انفجار مرفأ بيروت. شهدت التظاهرات مواجهات عنيفة بين محتجين غاضبين والقوى الأمنية التي استخدمت الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. لاحقاً أعلن عدد من الوزراء استقالتهم تباعاً، إلى أن أعلن رئيس الحكومة حسان دياب في العاشر من آب/أغسطس 2021 استقالة حكومته.
صورة من: Reuters/H. Mckay
مبادرة ماكرون
في الذكرى الأولى لإنفجار المرفأ، نظم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤتمراً دولياً لدعم لبنان، وهو الثالث بالتعاون مع الأمم المتحدة. تعهدت فرنسا بتقديم مساعدات مالية بقيمة 100 مليون يورو للبنان إضافة إلى نصف مليون جرعة من لقاحات فيروس كورونا. سعت باريس من خلال المؤتمر إلى جمع مساعدات إنسانية عاجلة بقيمة 350 مليون دولار.
صورة من: Reuters/H. McKay
أزمة كورونا
في فبراير/ شباط 2020، سجل لبنان أول إصابة بفيروس كورونا. وتراكمت الأعباء تدريجياً على القطاع الصحي الذي أنهكه الوضع الاقتصادي المزري الذي تعيشه البلاد. وفي طل غياب الخطط الحكومية للتعامل مع الفيروس وتوالي الأزمات الاقتصادية والسياسية بدأ الوضع الوبائي للبلاد يتخذ منحنى أكثر سوءاً مع تفشي المتحور دلتا.
صورة من: Emma Freiha/Reuters
أزمات متلاحقة
على وقع الانهيار الاقتصادي المتسارع، بات أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، بحسب الأمم المتحدة. كما فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار في السوق السوداء، فيما ارتفعت أسعار المواد والبضائع كافة، حتى أن أسعار مواد غذائية أساسية ارتفعت بأكثر من 70 في المئة خلال عامين. كما تشهد البلاد أزمة وقود وشحاً في الدواء وانقطاعات في الكهرباء تصل إلى 22 ساعة.
صورة من: Reuters/A. Konstantinidis
تجمد قضية المرفأ وأزمة سياسية مع الخليج
في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2021 اشتعلت الأوضاع إثر اعتراضات طائفية على أداء المحقق العدلي في انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار ووقع إطلاق نار أودى إطلاق النار بحياة 7 أشخاص وجمدت القضية بسبب تدفق الشكاوى ضد القاضي من قبل مسؤولين اتهمهم بالضلوع في الكارثة. في الشهر نفسه استدعت دول الخليج سفراءها وحظرت السعودية الواردات اللبنانية احتجاجاً على تصريحات وزير الإعلام وقتها جورج قرداحي بسبب الحرب في اليمن.
صورة من: Bilal Hussein/AP Photo/picture alliance
مخاوف صحية من أثر الحرائق الجديدة
مع عودة الحرائق إلى صوامع الحبوب المدمرة، توهجت سماء بيروت باللون البرتقالي في ظلام الليل داخل ميناء لايزال يشبه منطقة منكوبة، وسط توقعات بمزيد من الانهيارات، ليس في المباني وحدها ولكن في قطاعات شتى. أوصى خبراء الصحة والبيئة سكان المنطقة القريبة من الصوامع بارتداء أقنعة خاصة للحماية من أثر احتراق الحبوب المتعفنة وما تحمله من جراثيم. فمتى يخرج لبنان من أزماته؟ إعداد: عماد حسن/إيمان ملوك