باسم يوسف: أجيبلكم منين؟
١٦ مارس ٢٠١٤سيادة المشير يقول لنا بصوته المملوء بحنية وعطف لا يخطئها إلا خائن أو عميل «آنت محتاج تدي اكتر ما بتأخد» وقال إن هذا ما يقوله لضباطه حتى يحثهم على العمل تجاه الشعب. ثم يضرب مثلا رائعا بأبوين فقيرين يتخرج ابنهما فيرد لهما الجميل، ويتمنى أن يعم هذا السلوك بين الجميع.
الحقيقة أن هذا مثال رائع استطيع أن اقنع به هؤلاء الأطباء الجاحدين الذين يسألون فقط «حنأخد إيه من مصر» ولا احد منهم يقرر بينه وبين نفسه «حدي إيه لمصر»
أصل الطبيب الجاحد من دول ذاكر ودح ثم ذهب ليقضى تكليفه في مناطق نائية ثم تم تعيينه كنائب بوزارة الصحة حيث يقضى ساعات غير آدمية في المستشفى ثم يضطر أن يجرى وراء المستوصفات ومستشفيات بير السلم ليجد ما يكفى لدفع فاتورة تليفونه، ثم تنعم عليه الدولة بمرتبات طائلة كما تعرفون. فسحقا لهؤلاء الأطباء الذين يجرأون أن يطلبوا أي شىء من مصر.
أتذكر من سنة ونص كده كيف قام أطباء الإخوان باحتلال الجمعية العمومية للأطباء لإفشال المطالبة بالإضراب. يومها قام الرجال والنساء بحجز المقاعد وأقاموا صلاة الجمعة على الكراسي بلا قبلة صحيحة وبلا سواتر بين الجنسين ليضمنوا التصويت ضد الإضراب. ساعتها قال الإخوان: «يجب أن يتحمل الأطباء من اجل مصر» وخرجت الفتاوى التي تحرم الإضراب. ده أيام ما كان النظام على قلب الإخوان زى العسل.
تذكر هذا المشهد اليوم لأنك في الأيام القليلة القادمة سيتم اتهام نفس الأطباء الذين وقفوا ضد الإخوان بأنهم إخوان وإرهابيون.
من ثلاث سنوات نظم الإخوان حملة «شغلني مكانه» ليساندوا المجلس العسكري ضد الإضرابات وثورة العمال.
تذكر ذلك أيضا فحين تندلع الإضرابات في البلاد سيقول لك الإعلام إن هؤلاء إخوان أيضا.
تراجعت عن الذهاب إلى مقر الإضراب فيبدو أن حجة «اديتوا ايه لمصر» لن تنفع مع هؤلاء الجاحدين.
رجعت لأكمل كلمة المشير الحانية الذي سأل فيها الشباب: «قبل ما تفطر آنت سألت نفسك، عملت إيه للبلد دي؟»
طب والله سؤال مفحم، ويمكن أن اذهب به إلى إضرابات العمال في المصانع والسائقين في هيئة النقل العام، فأكيد أكيد سأجدهم فطرانين وشبعانين وان كل ما يحدث هو عبارة عن «دلع مرئ» يريدون به أن يأخذوا من مصر بدون أن يعطوا أى شيء.
كلمة المشير صاحب مقولة «أد الدنيا» يخرج على الشباب بنفس الحنية فيقول لهم إن الشباب لابد أن يفكر في مصر قبل أن يفكر في «حتجوز امتى وحاعيش امتى»
و كأن مصر كائن خرافى افتراضي لا يستطيع العيش إلا على أنقاض شباب لا يملك قوته ولا يفكر في الزواج ولا يجرؤ حتى على تناول طعام الإفطار قبل التفكير في كيفية تقديم نفسه قربانا لهذا الكائن الخرافي.
انأ افهم جيدا خطاب المشير الذي يشجع الشباب إلا يكون أنانيا وان يعلى قيمة الإيثار وان يفكر في أن ما يفعله ينعكس على البلد. كل ذلك جميل جدا. ولكنني أتساءل: إلى من يوجه المشير كلامه؟ هل يوجه المشير كلامه لشباب لا يستطيع الزواج أم يوجهه للعمال المطحونين والعواطلية الذين لا يملكون ترف تناول طعام الإفطار قبل التفكير في مصر؟
يتساءل المشير: «هل فكر واحد مننا أن يذهب مشيا إلى جامعته أو شغله حتى يوفر على البلد؟»
والحقيقة أن هذا حل عبقري لخفض نسبة التلوث المرعبة في القاهرة. ولكن عمليا هل يعرف المشير أن هناك من يسكن في البدرشين وقليوب وبشتيل ويعمل أو يدرس في وسط القاهرة؟ هل إذا استجاب الشعب لهذا المنطق النبيل هل سيقوم به الوزراء وضباط الجيش واللواءات، فنستغني كلنا عن السيارات والمواصلات العامة؟ آم أننا سنعتمد على الفقراء ليقوموا بممارسة الرياضة اليومية بالنيابة عننا بعد أن يتنازل عن إفطاره لأنه حاسس بعقدة ذنب لأنه لم يفعل شيئا لمصر؟
حديث التقشف ليس جديدا علينا، قبله كان مبارك «يسم بدنا» بمقولاته الشهيرة مثل: «اجيبلكم منين» ليأتي المشير السيسي ليقول لنا: «تأمين صحي؟ طب منين؟»، «شغل؟ طب ازاي». لذلك فيجب فعلا أن نظلم جيلا أو جيلين «على حد قوله» حتى يستمر الآخرون، ولكننا لا نعرف من هم الآخرون؟ هل هم ما تبقى من الشعب بعد ظلم تلاتين سنة جايين؟ (جيلين يعنى) أم الذي سوف يستمر هم من حول السلطة الذين يخربون ميزانية الدولة من مرتبات وعمولات وبدلات ضخمة ثم نيجي على العامل والطبيب ونقول له «مافيش؟»
هل البرنامج الاقتصادي للفريق السيسي يتمحور حول «استحملوا؟» «شدوا الحزام؟» «تقشفوا؟»
لو كان هذا هو برنامجه فيجب أن يتوجه به للمؤسسات الحكومية وليس الشباب أو المواطنين الذين إذا تقشفوا هم أيضا فبذلك أنت تقضى على القوة الشرائية في البلد وتقودها إلى الكساد.
ففي سنوات الكساد العظيم أيام الثلاثينيات بدلا من أن تشد أمريكا الحزام وتطالب مواطنيها أن يجوعوا أكثر مما هم جعانين، قام روكفلر واباء الصناعة الأمريكية بضخ كميات أموال ضخمة مستغلين تسهيلات الدولة للقيام بأكبر حركة إعمار في أمريكا الشمالية.
فالكساد والتضخم لا يتم علاجهما بمزيد من ربط الحزام، ولكن يتم علاجهما بتشجيع المواطنين والمستثمرين بتدوير أموالهم في السوق. أما التقشف فيتم تطبيقه على الإنفاق الحكومي الذي يتجاوز بمراحل قرار منع المياه المعدنية في مجلس الوزراء.
قبل ان يتوجه الينا المشير السيسي بقوله لنا «اديتم ايه لمصر» ربما كان من الأفضل ان يطرح هذا السؤال على المؤسسات الاقتصادية للجيش التي تسيطر على نسبة ضخمة من اقتصاد البلد بدون مساءلة حقيقية وبدون تعاملات ضريبية تأخذ به مصر حقها من هؤلاء الذين اخذوا ما يريدون فعلا.
التقشف «وخلاص» ليس حلا. وسياسة «شد الحزام» لا تبنى اقتصاد أمم. بل يبنيها مناخ صحي للاستثمار وخلق الوظائف وضرائب عادلة على الكل (اكرر على الكل) وبيئة مناسبة لجذب رؤوس الأموال تتضمن المكاشفة والشفافية حتى لمؤسسات الجيش الاقتصادية. اما مسميات مثل «خفض الإنفاق» و«التوفير» فهو يسرى فقط على مؤسسات المال العام، وإذا أردت أن تلغى الدعم فامنعه عن القادرين والأغنياء والمصانع التي تحاسب على الكهرباء مثل حساب الفقير. نحن نحتاج لكل ذلك قبل أن نفكر في مطالبة العاملين بالخارج بمرتب شهر أو لأن نسعى لفرض جباية عليهم سواء بالعافية عن طريق ضريبة أو بالكلام الحنين.
فأبناء مصر بالخارج سيدي المشير حاولوا باستماتة قبل ذلك أن يضيفوا للبلد من مشروعات تعليمية وتنموية والكثير منهم رجع لبلاد بره بسبب الفساد مرة وبسبب البيروقراطية مرة وبسبب تعنت سياسي مرات، فالإعلام سيدي المشير جعل كل من يحمل جنسية أخرى أو حتى عاش خارج مصر خائنا وعميلا حتى يثبت العكس.
الغريب أن الإعلام الذي صفق لعبارة «أد الدنيا» يتمايل رأسه بإعجاب وهو يستمع إلى دعاوى شد الحزام و«نستحمل» وظروف مصر الصعبة. فنفس هذا الإعلام كان يسخر من مرسى وهشام قنديل ورفاقهما حين تكلما عن الملبوسات القطنية وغلق المحال بالليل. أما الآن فالإعلام نفسه هو من يطالب الشعب بأن يستيقظ خمسة الصبح ليتوجه للشغل ولكن فاتتهم مقولة المشير السيسي «الناس عايزة شغل، طب منين؟»
الشعب ليس عالة على الوطن، بل هو طاقة بشرية يجب استثمارها.
مصر يا سادة ليست كيانا منفصلا عننا يحتاج أن يقتات علينا فنموت حتى يحيا هذا الكيان. مصر هي الشباب اللي عايز يتجوز ويعيش والعامل اللي عايز مرتب آدمي والطبيب اللي عايز عيشة كريمة ليخدم مرضى مصر الذين يستحقون رعاية صحية محترمة.
مصر هي «إحنا»، مصر ليست مؤسسات الدولة التي يتم حمايتها من المكاشفة والمحاسبة والتدقيق الضريبي تحت دعوى السرية والأمن القومي، في حين يتقشف البسطاء فيمشون إلى الجامعة والعمل (إن وجد) ولا يفكرون متى سيتزوجون وكيف سيعيشون.
هل هذا هو البرنامج الاقتصادي الذي ينتظر البلد؟ المزيد من: «اصبروا»، «اجيبلكم منين؟» «ما هو أصل انتم كتير وعمالين تزيدوا»
ربما ينجح، مين عارف. فلنسأل المواطن عن آثار هذا البرنامج بعد كام سنة، وأنا متأكد من انه سيجيب عليك بسعادة بالغة وهو يفكر في البلد قبل تناول طعام إفطاره غير موجود وسيبتسم لك في رضا وهو يشد الحزام على ما تبقى من هيكله العظمى.
- المصدر: الشروق