"بجمع الملصقات".. رجل ينقذ ذاكرة لبنان السينمائية من النسيان
١٥ ديسمبر ٢٠٢٥
في نهاية شارع جانبي صغير ومنحدر في حي "رأس بيروت"، يشير ملصق باهت إلى الطريق. من يتبع الإشارة، ينزل في نهاية الشارع إلى اليسار عبر ممر شديد الانحدار، يفتح الباب الثقيل - ويجد نفسه بين رفوف عالية للكتب. روايات مترجمة، تحليلات سياسية، طبعات نفدت عن ثقافة وتاريخ المنطقة.
على بعد خطوات قليلة، وعلى يسار الطريق، تنفتح فجأة غرفة ثانية. يبدو الهواء فيها أكثر كثافة، ومليئًا بالألوان. هنا تبدأ "جنة الملصقات". ألوان، وجوه، وتصاميم طباعة من قرن مضى تجذب الزبائن على الفور.
هناك، في الجزء الخلفي من المتجر، يجلس عبودي أبو جودة. شخص ودود، غير متكلف، ومستعد دائمًا ليروي قصة - ولكن ليس قبل أن تطرح عليه سؤالاً بنفسك. خلفه تتلألأ ملصقات أفلام لبنانية ومصرية من حقبتي الستينيات والسبعينيات، وإلى جانبها ملصقات من العراق وتونس والمغرب. وبينها بطاقات بريدية، وحوامل أكواب. إنه أرشيف، ولكنه أرشيف حي، يُتصفح، ويوقظ الذكريات.
يقول أبو جودة بهدوء: "هذا المتجر هو أرشيف للبنان، ولكنه أيضًا أرشيف للمنطقة بأسرها". وبالفعل: بأكثر من 20,000 ملصق، تُعد مجموعته واحدة من الأكبر من نوعها في المنطقة. الكثير من هذه التصاميم معلقة بالفعل في منازل خاصة - وكذلك في مقهى كاليه المجاور، حيث يحدق عشاق السينما أثناء احتساء الإسبريسو في وجوه المغنيتين اللبنانيتين البارزتين فيروز أو صباح خلال فترة شبابهما.
بداية هواية جمع الملصقات حياة
لم يكن أبو جودة يتوقع في وقت مبكر أن حياته ستدور يومًا ما حول ملصقات الأفلام - أو ربما توقع ذلك لاحقاً. يروي الرجل البالغ من العمر 66 عامًا: "كنت في السينما وأنا في السادسة من عمري".. "كان والدي يأخذني معه دائمًا، فقد كان مديرًا لدور سينما مختلفة في برج حمود، وهي ضاحية بيروتية ذات غالبية أرمنية". وبينما كان الأطفال الآخرون يلعبون كرة القدم، كان أبو جودة يجلس في الظلام، يشاهد ويستمع، ويتشبع بالسينما.
في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، بدأ يجمع الملصقات - دون قصد في البداية. يقول: "كنت أحصل على الملصقات دائمًا من دور السينما". كان ذلك في أوائل السبعينيات. يضحك قائلاً: "مثل العديد من المراهقين في ذلك الوقت، لم أكن مهتمًا بالأفلام العربية كثيرًا، كنت أكثر اهتمامًا بالأفلام الأجنبية. لكنني كنت أحب قراءة الكتب العربية".
احتفظ أبو جودة بما لم يحتفظ به أي شخص آخر. ما كان من المفترض أن ينتهي به المطاف في القمامة أو يتراكم عليه الغبار في الغرف الخلفية لدور السينما، كان يحمله إلى المنزل.
بيروت.. يوم كانت عاصمة السينما في المنطقة
لفهم سبب تفرد أرشيف أبو جودة، يجب معرفة الدور الذي لعبه لبنان ذات يوم في السينما العربية.
أُنتج أول فيلم لبناني عام 1929، لكن الإنتاج المحلي بقي لفترة طويلة في ظل هيمنة مصر. تغير هذا مع استقلال لبنان والازدهار الاقتصادي. كانت الستينيات هي العصر الذهبي: أصبحت بيروت المركز الإقليمي للأدب والسينما. أخرج الأخوان الرحباني أفلامهما الموسيقية الخالدة التي تبعث على الحنين. في عام 1965، افتتحت اليونسكو مركز السينما العربية في بيروت، وهو الأول من نوعه. وفي عام 1971، أُقيم هنا أول مهرجان سينمائي دولي في العالم العربي.
وأخيرًا وليس آخرًا، كان في بيروت أكثر من 300 دار سينما تُعرض فيها أفلام جديدة كل أسبوع. يقول أبو جودة: "كانت السينما هي الوجهة الأولى للكثيرين". "قبل الحرب الأهلية (1975- 1990)، كان الناس يذهبون إلى السينما أسبوعياً".
انتهى كل هذا فجأة مع الحرب الأهلية التي دمرت مشهد السينما بالكامل تقريبًا. حافظ أبو جودة على ما تبقى - فيلمًا تلو فيلم، وملصقًا تلو الآخر. بعد عقود، لخص هذه المعرفة في كتاب، وهو توثيق شامل للسينما اللبنانية من خلال الملصقات من عام 1929 إلى 1979، ليسد بذلك فجوة لم يغلقها أحد قبله.
أرشيف ملصقات من بلدان عربية عدة
لم يكن يتوقع أنه سيصبح يومًا ما أهم جامع للملصقات في المنطقة. يقول إنه لم يدرك قيمة هذه الصور إلا في تسعينيات القرن الماضي. "في بداية شغفي بالجمع، لم أكن أعي أبدًا ما أساهم به".
اليوم، يرى كل ملصق كشاهد على العصر ووثيقة تاريخية: "هذه الملصقات تعبر عما كان يريده المجتمع في ذلك الوقت، وما كان يهتم به، وما كان يرغب في مشاهدته في السينما، وما كان يحلم به". يقول إنه مولعٌ بشكل خاص بملصقات الستينيات وأوائل السبعينيات.
لكن أرشيفه يضم أكثر بكثير من مجرد ملصقات أفلام من لبنان. خلال عمله كناشر - حيث أسس دار "الفرات" للنشر في عام 2000 - كان يسافر بانتظام في جميع أنحاء المنطقة. إحدى مجموعاته الفرعية الأكثر قيمة جاءت من العراق - حوالي 4000 ملصق - جمعها خلال رحلاته في المنطقة. يقول: "كنت دائمًا أخصص يومين أو ثلاثة أيام إضافية للذهاب إلى دور السينما المحلية. وهناك كنت أسأل دائمًا عما إذا كان بإمكاني الحصول على ملصق".
تأتي بعض المقتنيات الأخرى من تونس والمغرب وليبيا - ومن أماكن مثل مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا. في الستينيات من القرن الماضي، وعندما كانت الأفلام المصرية محظورة في سوريا، كانت دور السينما الصغيرة تحتفظ بملصقاتها بعناية. "لكن الموظفين كانوا يبيعونها لي غالبًا مقابل بضعة ليرات".
في بعض الأحيان، كانت تظهر ملصقات ضاعت منذ فترة طويلة في بلدها الأصلي. ويقول إن التحولات السياسية شكلت مساراتها: ففي عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، حُظرت الأفلام المصرية في العراق لفترة من الوقت - "لذلك كانوا ببساطة يهربون علبة الفيلم إلى لبنان ليبدو الأمر وكأن الفيلم قادم من هناك".
بين الحنين والهوية
يقول أبو جودة إن الكثير من الزوار هم شباب لبنانيون يبحثون عن شيء يربطهم بماضٍ لا يعرفونه إلا من خلال القصص. وآخرون لم يعودوا يعيشون في البلاد: "الكثيرون هاجروا ويبحثون عن شيء يذكرهم بالوطن أو يكشف لهم شيئًا عن ماضي آبائهم أو أجدادهم".
كثيرًا ما يرى أثر الملصقات على وجوه من شاهدوا الأفلام في دور السينما أو سمعوا عنها من آبائهم وأجدادهم. "عندما يدخل الناس إلى هنا ويرون ملصقًا للمغنية والممثلة فيروز، فإنهم يتذكرون زمنًا حاول الكثيرون نسيانه أو حاولوا كبته. لقد نسي الناس الكثير بسبب الحرب".
الرجل الذي يحفظ الذاكرة البصرية
اليوم، يبدو عبودي أبو جودة وكأنه حارس أرشيف لم يكن ليُنشئه أحد سواه. بالنسبة له، لم يعد الأمر مجرد شغف، بل أصبح أيضًا نصباً تذكارياً.
عندما سُئل عما إذا كان لديه ملصق مفضل، ابتسم وكأنه يعتذر. "لا يمكنني أن أقرر، لكنني أحب بشكل خاص ملصقات الستينيات وأوائل السبعينيات". تبدو هذه كإجابة رجل يعرف كل فيلم، وكل لون، وكل ثنية في الملصق - ويريد أن يحافظ عليها جميعًا.
عندما يصعد المرء أخيرًا عائداًَ إلى أعلى الطريق المنحدر مرة أخرى ويخطو إلى الشارع الرئيسي في رأس بيروت، يبقى شيءٌ من هذا المكان عالقاً في ذهنك: الشعور بأن الماضي لا يختفي أو يزول، طالما أن هناك من يحميه. وهذا ما يفعله أبو جودة. بهدوء، وبتواضع، في مكان هو أقرب إلى الأرشيف منه إلى متجر - وأصبح بالنسبة للكثيرين قطعة من الوطن.
أعده للعربية: عماد حسن
تحرير: عبده جميل المخلافي