بريطانيا: حرب الكلمات حول الحرب العظمى
١٤ أبريل ٢٠١٤بريطانيا تحب النوستالجيا (الحنين إلى الماضي). بل يمكن القول إن هذا البلد مع تاريخه الكبير مبني على النوستالجيا. ولكن حتى وقت قريب خلا لم يعد هناك الكثير من النوستالجيا المتعلقة بالحرب العالمية الأولى ومعاركها ونهاية النظام الطبقي القديم. (يعتقد كثير من البريطانيين أن الحرب العالمية الأولى مزقت النظام الطبقي السابق، حيث كان كل شخص يعرف مكانه الاجتماعي فيه).
ومنذ بداية هذا العام يسود جدل واسع في الأوساط السياسية والعلمية حول كيفية إحياء الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. جدل أشبه بـ"حرب الكلمات"، أطلق شرارتها الأولى وزير التربية البريطاني مايكل غوف، عندما اشتكى في الأسابيع الأولى من هذا العام من بعض الباحثين والعلماء اليساريين الذين هاجموا الدور البريطاني في تلك الحرب. فقد صوروا الحرب، على حد تعبير غوف، على أنها "منصة ذبح بشعة"، وبهذا قللوا من شأن "وطنية وشرف وشجاعة" أولئك الناس الذين قاتلوا في الحرب "بدافع مشروع" وقتلوا دون ذلك، أي قاتلوا لصد الهجوم الألماني.
تريستان هانت، الأكاديمي اليساري الليبرالي والمتحدث الخاص بشؤون التعليم في حزب العمال المعارض، رد على كلمات الوزير غوف. هانت اتهم في مقال صحفي الوزير غوف، قائلا إنه يطلق تعليقات "قبيحة" وحادة، في وقت ينبغي أن يستغل بشكل أفضل من أجل التأمل في الروح الوطنية. كما اتهم هانت وزير التعليم بأنه يبحث عن انتصار همجي من خلال تأجيج الروح القومية وتصعيد المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي قبيل الانتخابات الحاسمة للبرلمان الأوروبي في مايو/ أيار المقبل.
احتفال "محترم"
وتصر الحكومة التي يقودها حزب المحافظين على أن ردها "كريم": فهي تنظم احتفالا رسميا يكرم ويحترم ضحايا الحرب. ومن المخطط تنفيذ برنامج كبير بفعاليات منوعة وبكلفة ملايين الجنيهات الإسترلينية، بما في ذلك الزيارات لساحات المعارك لتلاميذ المدارس، وحفلات موسيقية تذكارية، وإزاحة الستار عن لوحات وتماثيل خاصة لتكريم الملايين الذين لقوا حتفهم في "الحرب التي اندلعت لإنهاء كل الحروب". متحف الحرب الإمبراطوري في جنوب لندن خضع لتجديد شامل ووسع معارضه المخصصة للحرب العالمية الأولى. وخاصة تلك المعارض الفنية التي تصور جميع التغيرات في المجتمع البريطاني والأوروبي عموما، التي أدت إلى قيام الحرب.
ولكن وزير التعليم مايكل غوف يقول إنه سيكون من الخطأ تجاهل مسألة المذنب والمسبب لاندلاع الحرب، بقصر الاحتفال على انتصار بريطانيا وحلفائها. إذا اقتصر إحياء الذكرى على "التصور اليساري" فسيكون في ذلك إهانة لمن ضحوا بأرواحهم في الحرب. مثل أغنية "أوه .. يا لها من حرب جميلة" ( تتم حاليا إعادة تشغيلها في المسرح الملكي في لندن) والمسلسل الكوميدي التلفزيوني "Blackadder" الذي يصور أن الصراع كان غير مجديا تماما، وكان يمكن تجنبه من أجل حياة الإنسان، كما يقدم هذا المسلسل جميع الأطراف على أنها مسؤولة عن اندلاع الحرب. يشار هنا إلى أن العديد من المؤرخين العسكريين البريطانيين يتفقون مع غوف بأن هذا اعتقاد خاطئ.
"لم تكن بدون جدوى"
ماكس هاستينغز، مؤلف واحد من كتب عديدة صدرت مؤخرا عن الحرب؛ عنوانه "مأساة 1914"، وفيه يذهب أبعد من ذلك، إذ يقول إن هزيمة القيصر كان لابد منها ولا تقل أهمية عن إيقاف هتلر في الحرب العالمية الثانية.
"هدف ألمانيا القيصرية من الحرب لم يكن أقل بكثير من هدف ألمانيا في عهد هتلر في عام 1939. القيصر كان يريد الهيمنة على أوروبا"، كما يزعم هاستينغز "لو انتصر الألمان حينها لكان ذلك يوما سيئا للغاية للديمقراطية والحرية في أوروبا".
هاستينغز، صحفي سابق في صحيفة "ديلي تلغراف" المحافظة، يقول تم إعادة كتابة التاريخ وتحريفه لتجنب إغضاب ألمانيا اليوم. يصف هاستينغز ذلك بأنه إهانة لبريطانيا، إهانة لأمة تناست بالكامل ماضيها العسكري.
"علينا أن نحاول قول الحقيقة"
"ألمانيا الحديثة هي بلد عظيم جدا يمارس ديمقراطية رائعة جدا، تجعل كل واحد منا يحترمها"، يقول هاستينغز، ويضيف "لكن إذا كنا نسعى لتدريس التاريخ للأجيال اللاحقة فعلينا أن نحاول قول الحقيقة".
ولكن تحديد "الحقيقة" حول "الحرب العظمى" أصعب مما يتصور هاستينغز وغوف. وهكذا يدخل على خط النقاش مؤرخون بارزون، منهم مؤرخ بريطاني معروف لم يسبق أبدا أن صنف على أنه ذو توجه يساري. ويرى هذا المؤرخ أن تدخل بريطانيا في نزاع دائر داخل القارة الأوروبية هو أمر مشروع ومبرر تماما. وعلى الجانب الآخر، يرى نيال فيرغسون، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، أنه كان "يفترض ببريطانيا أن تنأى بنفسها عن ذلك النزاع. فالبلاد لم تكن تحت تهديد مباشر. لقد كان أكبر خطأ في التاريخ الحديث"، كما يدعي فيرغسون.
"أكبر خطأ في التاريخ الحديث؟"
ولكن تشبيه القيصر بهتلر هو أمر خاطئ، كما يرى فيرغسون. فأهداف القيصر فيلهلم لم تكن مجنونة مثل أهداف الزعيم النازي. وكان على بريطانيا أن تقف بداية على الحياد، وبعدها تختار اللحظة المناسبة للتدخل. لأن انضمامها المبكر إلى المعركة في البداية، بحسب فيرغسون، أدى إلى غوص بريطانيا في مستنقع عميق وحرب مدمرة طويلة الأمد استنزفت ليس موارد بريطانيا فحسب، بل ودمرت أوروبا وأدت إلى ولادة اثنين من أكبر الأنظمة الاستبدادية في القرن العشرين: النازية في ألمانيا والستالينية في الاتحاد السوفييتي.
ثم يضيف فيرغسون إلى تعليله نقطة أخرى: لقد فشلت بريطانيا في تحقيق الهدف الأساسي لدخولها الحرب، ألا وهو منع ألمانيا من الهيمنة على أوروبا. "والآن وبعد مرور مائة سنة، أي بلد يهيمن على أوروبا؟ فقط أسألوا اليونانيين"، يقول فيرغسون.
كل هذه الحرب الكلامية اندلعت في بريطانيا، قبل أشهر من بدء الاحتفال بالذكرى المئوية. ويبدو أنها ستحتدم أكثر، تماما كما كانت الحرب نفسها. ومن المؤكد أنه حتى بعد الاحتفالات الكبيرة في الصيف، فإن الجدل حول أفضل السبل لتذكر الحرب لن ينتهي أبدا.