بيروت.. هكذا هشّم الانفجار المساحات "الآمنة" لمجتمع الميم
٢١ نوفمبر ٢٠٢١يبعد مكتب جمعية "حلم" التي تعنى بـ"الحماية اللبنانية للمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية"، 600 متر فقط من موقع انفجار مرفأ بيروت، في منطقة مار مخايل. تدمّر المكتب بشكل شبه تام. كان داخل المكتب ولحظة الانفجار موظفون وزوّار من مجتمع الميم، فتطاير الزجاج والأثاث وتساقط الناس في كل أرجاء المكتب بين الزجاج والغبار والدم والصراخ المتعالي من الشارع ومن الداخل.
جرح كل من كان في المكتب، لكن جروحهم لم تكن بليغة، "الحمدلله لم يصب أحد بأذى كبير، كان كل من في المكتب يحاولون مساعدة الجرحى في الخارج لمحاولة نقلهم إلى المستشفيات"، يقول المدير التنفيذي للجمعية طارق زيدان لـDW عربية، ويتابع: "كان أمراً سوريالياً، السنتر دمر بالكامل، فقدنا جميع الأوراق والملفات، والأهم خسرنا مكاناً آمناً لمجتمع الميم".
مركز آمن لمجتمع الميم
في الصور التي زوّدنا بها طارق يبدو الدمار الكبير واضحاً بعد عملية رفع الركام التي قام بها متطوعون في الشارع. بعد أكثر من عام على الإنفجار الذي وقع في الرابع من آب/ أغسطس 2020، عادت الحياة إلى المكتب، وعاد إليه دوره الذي يصفه زيدان بأنه "غير تجاري، يمكن لأبناء مجتمع الميم أن يأتوا إليه ويمضون أوقاتهم فيه من دون أن يشعروا بالتمييز".
لأكثر من عام كان كثير ممن اعتادوا ارتياد المكتب يفتقدون إلى هذه المساحة التي تشعرهم بالأمان، بالحد الأدنى، في المنطقة الجغرافية التي يعتبرونها "إلى حدّ ما آمنة". أتى الانفجار ليدمّر الجميزة ومار مخايل. شارعان كانا يضمان روّاداً وعمالاً من مجتمع الميم وعمالاً "كويريين" (أحرار الجنس)، وكان هناك بحسب زيدان، "إنتاج ثقافي فني كويري لبناني في هذين الشارعين"، بالإضافة إلى تمكّن جزء من مجتمع الميم، ممن لديهم قدرة اقتصادية مرتفعة، على سكن هذه المنطقة، التي تصنّف كمنطقة باهظة لجهة تكاليف السكن والعيش، فجميع الأماكن الإجتماعية الموجودة فيها هي أماكن تجارية غير مجانية، كالـ"كلوبز"(الملاهي) والحانات والمقاهي والمطاعم، والمكان الوحيد غير التجاري الذي يتواجد فيه أفراد من مجتمع الميم في المنطقة هو مكتب "حلم".
تشرد السوريين من مجتمع الميم
لذا فإن الدمار الكبير الذي لحق بالشارعين، ترك أثراً بالغاً على نمط عيش أبناء مجتمع الميم. لكن الأثر الكبير للانفجار الذي يرصده زيدان، كان في الشوارع والأحياء المجاورة، أي في الكرنتينا والنبعة وبرج حمود، وهذه المناطق "بنيتها التحتية قديمة ومهترئة، ومتروكة من سنين من الدولة، وكثير من أفراد الطبقة العاملة من مجتمع الميم أو العمال الكويريين كانوا يعملون ويعيشون في هذه الأحياء، وبينهم أشخاص من اللاجئين السوريين من مجتمع الميم، وأشخاص آخرين من مكتومي القيد الكويريين"، كما يقول زيدان، وجاء الانفجار ليدمّر منازلهم ويشرّدهم، وأغلبهم من المستأجرين، "فاضطر عدد كبير منهم إلى العودة إلى منازل أهاليهم، أي الأمكنة التي هربوا منها في الأصل نظراً للعنف والتمييز والضغط النفسي والمعاملة السيئة من أفراد العائلة أو من الأقارب أو الجيران في كثير من الحالات".
تركوا الأهل ثم رجعوا إليهم
هذا ما حدث مع من جمانة (اسم مستعار)، لأنها تفضّل عدم استعمال اسمها الصريح. وهي مثلية الجنس كانت تعيش في منطقة مار مخايل، وكانت في المنزل، تحضّر لسهرة مع أصدقائها المثليين أيضاً، لحظة وقوع الإنفجار. لا تستطيع استجماع قواها للحديث عن تلك اللحظة. تغلبها الدموع كلما حاولت تذكّر الغبار والزجاج والحطام، ومحاولتها العثور على أصدقائها والاطمئنان عليهم، بعد أن رمى بها الإنفجار أمتاراً داخل بيتها. نجت جمانة ونجا أصدقاؤها مع جروح جسدية سرعان ما التأمت، لكن بقيت الجروح النفسية التي خلّفها الإنفجار، والذي هجّرها من منزلها، ورمى بها من جديد إلى عمق الماضي الذي لطالما حاولت الهرب منه.
اضطرت، كما باقي أصدقائها، بعد الإنفجار مباشرة إلى لململة أنفسهم والذهاب إلى بيوت الأهل. كان هذا الخيار الوحيد في ظلّ الدمار الذي لحق بغالبية المدينة. كانت جمانة قد تركت منزل ذويها قبل ثلاث سنوات من الانفجار بعد صدام معهم، وكان التواصل معهم شبه مقطوع. خسرت جمانة عملها بسبب الإنفجار، وخسرت معه استقلاليتها المادية التي تؤمن لها استقلالية اجتماعية تمكنها من استئجار منزل خاص والسكن فيه. عادت إلى منزل ذويها، ولحسن حظّها كانت أمها واختها أكثر تعاطفاً معها هذه المرة بسبب هول الإنفجار على الجميع، فيما تقول جمانة إن غيرها من المثليين لم يكونوا محظوظين مثلها.
لم يعد هناك مكان آمن للمثليين
يقول طارق زيدان، إن كثير من مجتمع الميم اضطروا بسبب الإنفجار للانتقال إلى مناطق بعيدة عن بيروت كطرابلس وبرمانا، أو أماكن أرخص في الأطراف والأرياف، والمشكلة بحسب زيدان، أن هؤلاء يخسرون ما يسميه "الفقاعة الصغيرة الآمنة التي بنوها حول أنفسهم ليعيشوا فيها بعد أن اعتاد المحيط على وجودهم وبات يتقبّلهم في الحد الأدنى". ومع اضطرارهم بفعل الانفجار إلى نقل سكنهم، سيكونون معرضين مجدداً لمواجهة المجتمع الذي قد يرفضهم ويضايقهم.
غربة المكان في مار مخايل
قطعت غوى أبي حيدر، وهي ناشطة وعاملة في مجال الإعلام الرقمي علاقتها بشارع مار مخايل الذي كانت ترتاده بشكل يومي بعد الانفجار: "وضع الانفجار حداً لعلاقتي بالمنطقة، مع أني أعيش هناك، على مقربة من ذكرياتي".
تقول غوى، وهي مثلية الجنس، لـDW عربية إن الانفجار غيّر شارع مار مخايل الذي نشط في العام 2010 وكان مشهوراً بتقبّله لمجتمع الميم. تشعر غوى أن المنطقة لم تعد تحتضنها كما في السابق، هي التي كانت حاضرة فيها لحظة الانفجار، لم تمت، نجت، لكن انتماءها إلى المكان مات: "عندما زرت مار مخايل للمرة الأولى بعد الانفجار شعرت بأسى، رأيت مكان الجثث المطبوعة في رأسي وتساءلت: ماذا افعل هنا في هذا المكان حيث مات كثيرون وكدت أنا أن أموت؟ حاولت إصلاح علاقتي بالمكان لكني فشلت، بعد ثلاثة أسابيع خاصمت مار مخايل، حاولت استرجاع مشاعري تجاه هذا الشارع الذي تقبلني وحضنني لكن دون جدوى".
تخبر غوى أنها في الأيام الأولى بعد الانفجار هرعت إلى الشارع لتكنس الغبار وتلملم الدمار والركام، لكنها اليوم تشعر بغربة: "لا أنتمي إلى هذا المكان الآن، لا أملك تفسيراً واضحاً في رأسي عن هذا الشعور لكنه حاضر ويمنعني من زيارة المكان.
تقول غوى إن روتين حياتها وحياة المجتمع الذي تنتمي إليه انكسر بعد الانفجار، رفاقها تشرّدوا وانتشروا في مناطق بعيدة عن العاصمة والبعض الاخر سافر إلى بلاد تتقبله: "لم تعد هناك صلة بالمكان، الجسور التي بنيناها بين بعضنا تهدمت، وصار من الصعب إعادة ترميمها في مجتمع يعاني أصلاً من التهميش والانطواء".
نسبة بطالة المثليين هي الضعف
في تقرير صدر قبل شهور عن "أوكسفام" (الاتحاد الدولي لـلمنظمات الخيرية التي تركز على تخفيف حدة الفقر في العالم) بالتعاون مع "حلم"، يظهر أن نسبة البطالة في لبنان بعد الإنفجار كانت 40%، وأن نسبة البطالة في مجتمع الميم تقترب من 80%، والأسباب مختلفة، بحسب طارق زيدان، بينها الإنفجار وتفشي جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي. وبسبب كل هذا يعاني من ينتمون إلى مجتمع الميم للحصول على الرعاية الصحية العامة وتلك المرتبطة بالأمراض المنتقلة جنسياً، بالإضافة إلى متطلبات الصحة النفسية، مع كل ما يحيط هذا الأمر من تمييز يمارسه حتى النظام الصحي اللبناني ضد الفئات المهمّشة وبينها المثليين والعابرين جنسياً.
إلى هذه المخاوف العامة التي يعاني منها أفراد مجتمع الميم، ثمة جانب تلفت إليه غوى أبي حيدر، وهو يتعلق بالعلاقات الشخصية، وهي حق لهذا المجتمع، وإن كانت تبدو ثانوية في ظل الأزمة الاقتصادية والوضع السياسي الضاغط: "الخطر الذي اشعره به يتعلّق بحياتي الشخصية، أعرف في قرارة نفسي أني لن أجد شريكةً أعيش معها وأتقاسم معها حلو هذه الحياة ومرها في لبنان، لسببين أساسيين، الأول يتعلق بصعوبة تقبّل مجتمع الميم هنا، يضاف إليه سبب جوهري يتمثل في صعوبة الحياة عامةً في لبنان، من النواحي الاقتصادية والصحية والنفسية التي تدهورت في السنتين الأخيرتين بسبب كورونا والأزمة الاقتصادية والإنفجار".
تقول غوى إنها تخشى من تمدّد البيئة المحافظة سياسياً واجتماعياً: "أعرف أن لا مكان لي في لبنان، يجب أن أهاجر الآن، لن أحظى بفرصة حب هنا". تحلم غوى أن تُحِبّ وتُحَب وأن تجد شريكة تتزوجها. وهو أمر تراه مستحيلاً بين الركام.
رامي الأمين