في عام 1995 كان المغرب على حافة "السكتة القلبية" وهي عبارة استخدمها الملك الراحل الحسن الثاني في خطاب رسمي أمام البرلمان المغربي، لتحذير شعبه من انهيار اقتصادي واجتماعي كبير، لكن البلد نجا إبانها من السيناريو الكارثي، وقد ظهرت آنذاك تحليلات اقتصادية وسياسية كثيرة للعوامل التي ساعدت المغرب على الخروج من النفق.
أتيحت لي بعد ذلك فرصة لقاء مع مسؤول كبير في البنك الدولي بمقره في واشنطن، المسؤول روى لي تفاصيل مثيرة عن محادثة جرت بين الملك الراحل وخبراء المؤسسة المالية الدولية عندما قدموا له التقرير الشهير الذي استند إلي مؤشرات خطيرة حول وضعية البلاد الاجتماعية والاقتصادية ليدق ناقوس الخطر ويحذر المغاربة من "السكتة القلبية". حيث شكرهم في البداية على جهودهم وتوصياتهم لإنقاذ اقتصاد البلاد، لكنه توقف في ختام المحادثة ليخبرهم بعامل خاص بالمجتمع المغربي مقارنة بمجتمعات أخرى كثيرة، واعتبره حاسما في نجاح خطة الإنقاذ أو فشلها.
توجد كلمة السر في "الأسرة" و"التآزر الاجتماعي"، باعتبارها صمام أمان يمكن الاعتماد عليه في تجاوز "الأزمة القلبية" للمجتمع، يتعلق الأمر بدور إستراتيجي لعبته الأسرة المغربية كنواة للنسق المجتمعي والثقافي في احتواء وتخفيف أزمة بطالة وعدم اندماج ملايين الشبان العاطلين في سوق العمل.
ومكانة الأسرة في حياة المجتمعات، لا تستمد مرجعيتها فقط من المنظومة الثقافية للمجتمعات المسلمة، بل تعتمد عليها أيضا مجتمعات غربية عديدة، مثل المجتمع الإسباني، الذي واجه الأزمات معتمدا على الأسرة والتضامن العائلي والاجتماعي المستمد من قيم الكنيسة الكاثوليكية، لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة التي عصفت بمجتمعات عديدة في العالم.
لكن ما تعيشه اليوم إسبانيا وإيطاليا المركز الروحي لكاثوليك العالم، من مشاهد قوافل الموت التي تزحف على أحياء بلداتها التاريخية وعلى دور المسنين والمستشفيات، تثير أسئلة حارقة حول حقيقة ما يحدث في ظل وباء كورونا وتبعاته المستقبلية على حياة الناس والعلاقات بين أفراد الأسرة وبين الأجيال، سواء المجتمعات المسلمة أو الغربية ذات الخلفية الدينية المسيحية واليهودية أو مجتمعات شرق آسيا ذات الخلفية الثقافية الكونفوشيوسية.
كبار السن الحلقة الأضعف!
تفيد إحصاءات عديدة سواء من منظمة الصحة العالمية أو منظمات أوروبية أن نسبة الوفيات بفيروس كورونا في البلدان الأوروبية هم من كبار السن، بمعدل يفوق 90 في المائة. ويقول بعض الخبراء، في تقرير علمي نشرته صحيفة "كوريرا دي لاسيرا" الإيطالية في عددها يوم 25 مارس آذار 2020، إن من أسباب ارتفاع أعداد الوفيات بسبب فيروس كورونا في إسبانيا وإيطاليا ( 8,6 في المائة) مقارنة بألمانيا(0,3%) وحتى قياسا للمعدل العالمي: 4 في المائة، ليس فقط التفاوت في أداء المنظومات الصحية، وهذا مؤكد أيضا، بل ايضا نظام رعاية المسنين.
ففي إيطاليا وإسبانيا تعيش نسبة هامة من المسنين مع عائلاتهم أو تعتمد عليهم في رعاية الأطفال ومرافقتهم إلى المدارس أو الأماكن العامة، الأمر الذي يرفع احتمالات تعرضهم للعدوى من الأبناء أو من الأحفاد.
وهذا يقود إلى الاستنتاج بأن المجتمعات التي تتوفق أكثر في تطبيق قاعدتي فصل كبار السن عن الصغار والتباعد الاجتماعي، ستكون لها مقومات نجاح أكبر في مواجهة تفشي الفيروس والحيلولة دون تشكل بؤر وبائية أفقية داخل البيوت والأحياء السكنية أو حتى داخل دور رعاية المسنين.
لكن ماذا سيعني ذلك من منظور دور الأسرة؟
إذا كان مواجهة الوباء القائمة أساسا على إجراءات الحجر الصحي العام، قد اعتمدت في الصين - مهد كورونا - على عنصري قيم الطاعة والانضباط الاجتماعي مع قوة الدولة وصرامة نظامها السياسي والأمني، فان أداء النظام بفروعه الصحية والإدارية والسياسية والاجتماعية في الدول الغربية متفاوت ويميل في معظمه إلى العجز في مواجهة الوباء، إذ أصبحت أوروبا بؤرته الأولى عالميا وتشارف الولايات المتحدة أيضا على اللحاق بها. والسبب الرئيسي هو تأرجح المجتمعات الغربية بين متطلبات الصرامة لفرض قواعد التباعد الاجتماعي وتقييد حرية التنقل والتجمع، واعتياد هذه المجتمعات على أنماط الحياة الليبرالية الحرة بعيدا عن القيود، ويضاف إليها النزعة الفردية ونظام تناسلي قائم على بنية أسرة صغيرة محدودة العدد.
وتحت وطأة انتشار الفيروس وتفشي رائحة الموت في ردهات المستشفيات الإيطالية والإسبانية، دفعت محدودية موارد المنظومات الصحية الأطباءَ إلى سحب تجهيزات التنفس الاصطناعي ممن هم أكبر سنا. والأدهى أن بعض الأصوات البراغماتية في المجتمعات الغربية ذهبت إلى الدعوة لاعتماد خيارات متطرفة لا تستبعد التخلي عن كبار السن من أجل حماية حياة من هم أصغر سنا.
الأسرة واختبار كورونا
لكن ما هو المآل في المجتمعات العربية والمسلمة، حيث يتجاوز وضع الأسرة كونها نواة لكيان المجتمع، لتلعب وظيفة التآزر والتكافل كأساس للنظام الاجتماعي والاقتصادي.
تثير دعوة السلطات العامة للناس إلى التزام البقاء في بيوتهم معادلة صعبة بالنسبة لوظيفة الأسرة حاليا في مواجهة تفشي الفيروس، ولمآلها في المستقبل.
ففي بلدان شمال أفريقيا ذات الكثافة السكانية (مصر: 100 مليون نسمة، الجزائر: 43 مليون نسمة، المغرب: 40 مليون نسمة، تونس قرابة 12 مليون نسمة) تتسم بنيتها الديمغرافية بهيمنة الشباب، بخلاف المجتمعات الأوروبية، يفترض أن يقلل هذا من نسبة مخاطر الوفيات بفيروس كورونا المسجلة في بلدان أوروبية.
بيد أن النظم الاجتماعية في البلدان العربية، تقوم على الترابط الواسع بين أفراد الأسرة، بأجيالها الثلاثة أحيانا، الأجداد والأبناء والأحفاد. وفي ظل وجود نسبة ضئيلة من المسنين الذين يستفيدون من أنظمة الرعاية الاجتماعية، فان أوضاعهم تظل مرتبطة بأسرهم، وهو ترابط لا تمليه فقط ميكانيزمات النظام الاجتماعي، بل تعززه منظومة قيم ثقافية ودينية.
ومن غير المرجح أن تؤدي إجراءات العزل الاجتماعي إلى نتائج ذات دلالة فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا، خصوصا في الأحياء السكنية الفقيرة التي تتسم بكثافة سكانية عالية. وتكمن المعضلة الكبيرة في ضعف التغطية الصحية لكبار السن.
وتُقارن أوضاع بعض البلدان العربية ببلد مثل كولومبيا الذي يعتبر من أكثر البلدان من حيث الفوارق الاجتماعية، ضمن الدول الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون. ويقول عنه الخبير الاجتماعي في جامعة خافيريانا في بوغوتا، لويس كارلوس رييس، في حوار مع فرانس بريس، إنه في ظل صعوبة التزام كبار السن بشروط الحجر الصحي، فان "فقراء كولومبيا المسنون أمام خيارين: الموت جوعا أو الإصابة بكورونا". وهنالك فئة واسعة من الكولومبيين ذوي الوضع الهش وضمنهم أكثر من مليون شخص في العاصمة بوغوتا.
وإدراكا منهم لمحدودية إمكانيات وقدرات منظوماتهم الصحية، يراهن مسؤولو قطاعات الصحة في البلدان المغاربية ومصر على تكثيف وسائل الوقاية من الفيروس، من أجل الإبقاء على معدل غير مرتفع من المصابين يتلاءم مع قدرات المنظومة الصحية، فيما يعرف بمخطط "تسطيح المنحنى"، كسبيل لتفادي سيناريو مشابه لإيطاليا أو إسبانيا.
ففي بلدان شمال أفريقيا لا تتجاوز أعداد الأسرّة المجهزة بوسائل التنفس الصناعي بضع مئات، مقارنة ببلدان أوروبا التي تتوفر على الآلاف، وتأتي ألمانيا في مقدمتها ب 28 ألف سرير للعناية المركزة منهم 25 ألف سرير مزود بأجهزة التنفس الصناعي.
ما بعد كورونا
لكن الأزمة الحالية، برأي محللين، لن تمر دون أن تترك بصماتها على مستقبل نظم الرعاية الاجتماعية في بلدان شمال أفريقيا، وفي صلبها دور الأسرة والعلاقة بين الأجيال.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار مؤشرات النمو في نسبة الذين تتجاوز أعمارهم ستين عاما في البلدان العربية، والتي تؤكدها تقارير صندوق الأمم المتحدة الإنمائي، فان البحث سيتوسع من أجل إيجاد بدائل إجتماعية لرعاية كبار السن، وعدم الاكتفاء بدور الأسرة.
وينطوي هذا المسار على أسئلة موازية تتعلق ببنية الأسرة وطبيعة العلاقة بين الأجيال، أسئلة لا يمكن فصلها عن السياقات الثقافية والدينية لتطور المجتمعات العربية، التي تجتاز أصلا مرحلة استقطاب حاد حول قضايا الدين والدولة والهوية.
منصف السليمي