تحليل: الاقتراض الخارجي للسعودية.. بين الضرورة والتحديات
١٠ مارس ٢٠٢٥
تلجأ السعودية إلى مزيد من الاقتراض رغم الأموال الكبيرة التي يتمتع بها صندوق الثروة السيادي والمقدرة بأكثر من 861 مليار دولار، فقد أفاد المركز الوطني السعودي لإدارة الديون أن المملكة جمعت مؤخرا أكثر من 2 مليار دولار من بيع سندات مقومة باليورو. وتتوقع الحكومة السعودية عجزا ماليا هو الأعلى بقيمة 27 مليار دولار لهذه السنة في الوقت الذي اضطرت فيه مؤخرا إلى تقليص الإنفاق على مشاريع كبيرة تدخل ضمن "رؤية 2030" الرامية إلى إصلاح الاقتصاد وتنويعه. ومن أبرزها المشاريع المتعلقة بمدينة "نيوم" الذي تم التخطيط لرصد 500 مليار دولار من أجل تنفيذها وتشغيلها.
مديونية خارجية ما تزال تحت السيطرة
خلال العام الماضي 2024 جمعت السعودية 12 مليار دولار من أسواق الدين العالمية عن طريق بيع سندات لأجل من أجل تغطية العجز وسداد أقساط الديون المتراكمة منذ عام 2014. وجاء ذلك حينها عندما انهارت أسعار النفط بنسبة قاربت 50 بالمائة، أي أقل من 40 دولار للبرميل في العام المذكور. ويعادل هذا السعر نحو 50 بالمائة من أسعار السنوات القليلة الماضية التي تراوحت بين 70 إلى 80 دولارا للبرميل الواحد.
وخلال السنوات العشر الماضية ارتفعت الديون السعودية من 12 إلى أكثر من 280 مليار دولار. ويشكل هذا المبلغ نحو 26 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 1100 مليار دولار في عام 2024. وتعد هذه النسبة تحت السيطرة قياسا إلى مديونية دول أخرى تتراوح نسبة ديونها بين 70 إلى 100 بالمائة أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي. ومن بينها دول مثل إيطاليا واليابان واليونان وفرنسا والولايات المتحدة وسنغافورة ولبنان. غير أن توجه المملكة إلى مزيد من الاقتراض قد يرفع النسبة ومعها أقساط الديون بشكل متسارع، لاسيما وأن هناك توقعات بتراجع أسعار النفط التي ما تزال تشكل أكثر من 60 بالمائة من الإيرادات الحكومية.
هل تتراجع أسعار النفط كما يريد ترامب؟
وتتزايد التوقعات بتراجع كهذا في ضوء الضغوط التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على المملكة ودول أخرى لزيادة الإنتاج والعرض في السوق العالمية. وهو الأمر الذي يحمل في طياته عجزا إضافيا على الموازنة الحكومية يمكن سده عن طريق الاقتراض. ومن أجل السيطرة على مزيد من العجز أو لجمه يُرجح أن تتم إعادة جدولة وتأخير تنفيذ العديد من المشاريع الحكومية بهدف تخفيض النفقات الحكومية، إلا إذا تمكنت المملكة من جذب استثمارات خاصة للقيام بهذه المشاريع.
وهو أمر لا يبدو سهلا في وقت يزداد فيه التنافس على الأموال الخاصة ليس بين دول الخليج وحسب، بل على مستوى العالم. ويدل على ذلك مثلا برامج الدعم المالي والضريبي الضخمة التي خصصتها الولايات المتحدة بقيمة 400 مليار دولار للشركات الأجنبية التي تريد الانتقال للعمل في الولايات المتحدة. وتنوي ألمانيا تخصيص مبلغ يزيد عن ذلك لتحديث بنيتها التحتية.
ويسعى الرئيس ترامب لتخفيض أسعار مصادر الطاقة من أجل تخفيض تكاليف الإنتاج على الشركات وتكاليف المعيشة على المواطنين، لاسيما وأن الغلاء وارتفاع أسعار المواد مرتبط بأسعار هذه المصادر. ومن شأن تخفيضها تعزيز النمو الاقتصادي الأمريكي وزيادة قدرة الشركات الأمريكية أو القادمة للعمل في الولايات المتحدة على المنافسة في الأسواق العالمية.
لماذا الاقتراض بدلا من أموال الصندوق السيادي
قد يقول قائل هنا لماذا يتوجه بلد غني كالسعودية إلى مزيد من الاقتراض وهي التي تتمتع بصندوق سيادي ضخم وإمكانيات كبيرة لبيع المزيد من النفط؟ بالنسبة للصندوق السيادي قد يحتاج تسييل أصوله الانتظار لوقت طويل، وهو أمر لا يتناسب مع هدف تحقيق أعلى العائدات من خلال استغلال فرص الاستثمار التي تتطلب تمويلا فوريا. كما أن توفر أموال كبيرة لدى الصندوق يضمن للمملكة تصنيفا ائتمانيا عالميا لا تريد التضحية به كونه يعطيه ميزة سهولة الحصول على القروض ودعم الاستقرار الاقتصادي والمالي وإبعاد خطر التضخم.
وفيما يتعلق بأسعار النفط فإن السعودية تبدو على غير سياستها التقليدية التي كانت تقوم على تخفيض أسعار الذهب الأسود لدوافع سياسية، ملتزمة منذ فترة ليس طويلة بالتنسيق مع دول أوبك وروسيا على صعيد تحديد كميات النفط التي ينبغي ضخها في السوق العالمية بهدف الحفاظ على حد أدنى من سعر مقبول للجميع على صعيدي التكاليف وهامش الربح.
وهكذا فإن الاقتراض ما يزال طريقا ميسرا وواقعيا لسد العجز وتنفيذ مشاريع طموحة طالما أن البلاد تتمتع بملاءة مالية جيدة من قبل مؤسسات التقييم الائتماني العالمية مثل وكالة موديز ووكالة ستاندرد آند بورز. وهذه الملاءمة تعني الثقة في قدرة المملكة على الوفاء بالتزاماتها المالية دون تعريض استقرارها الاقتصادي للمخاطر، لكن السؤال إلى متى؟
ضرورة الاعتماد على الديون الخارجية
تبدو السعودية متجهة إلى مزيد من الاقتراض الخارجي لأٍسباب عديدة من بينها ضعف مشاركة الاستثمارات الخاصة في تنفيذ المشاريع الطموحة المطروحة للبناء والتشغيل في قطاعات مختلفة كالصناعة والطاقة والسياحة. ولعل اللافت أن ذلك يحصل رغم الحوافز الكثيرة التي تقدمها الحكومة في مجال الضرائب واستخدام البنى التحتية وإجراءات التأسيس وغيرها.
وهناك حديث عن جذب 20 إلى 25 بالمائة فقط من الأموال الخاصة التي تم توقع قدومها للعمل والاستثمار. وهي نسبة متواضعة تدفع الحكومة إلى الرمي بثقلها أكثر من أجل دفع عملية تنويع الاقتصاد ومصادر الدخل التي تسير ببطء أكثر من المتوقع والمأمول به. ومن جملة ما يتطلبه ذلك مزيد من الاقتراض الخارجي.
ويمكن للمملكة الاستمرار في الاقتراض من الخارج طالما استطاعت الوفاء بالفوائد والاقساط، لاسيما في حال استثمار الديون في مشاريع تنموية تحقق عوائد مالية أعلى من نسبة الفوائد وتساهم في نمو الاقتصاد بمعدلات جيدة. كما أن الاقتراض الخارجي يعطي للقطاع الخاص فرصا أوسع للاقتراض من البنوك المحلية وزيادة استثماراته في مشاريع تنموية توفر فرص عمل تقلل من البطالة في صفوف الشباب السعودي.
فرملة الديون لتجنب الوقوع في فخها
غير أن المديونية الخارجية المتزايدة يجب أن تُفرمل عندما ترتفع تكاليف الفائدة والاقساط بشكل يهدد بتقليص الأموال المتاحة للخدمات والمشاريع التنموية. فمثل هذه الفرملة ضرورية للحد من العجز المالي والوقوع في دوامة الاقتراض التي تدفع المستثمرين للعزوف عن الاستثمار طويل الأجل. كما أنها تثير المخاوف من التضخم وتراجع القدرة الشرائية لغالبية أفراد المجتمع من أصحاب الدخل المحدود أو المتوسط.
إن السعودية ما تزال بعيدة عن الوقوع في خطر دوامة الاقتراض ومزيد من الاقتراض. غير أن تراجعا كبيرا ومفاجئا في أسعار النفط وبقاء جهود تنويع الاقتصاد بعيدة عن الطموحات يدفع هذا الخطر إلى الاقتراب بسرعة، لاسيما وأن اللجوء إليه أسهل على السلطات المعنية من القيام بمشاريع تنموية وتشغيلها بكفاءة عالية.