تحليل: الاقتصاد الألماني أمام تحديات الإفلاس وإعادة الهيكلة
٣ نوفمبر ٢٠٢٤للعام الثاني على التوالي يعاني الاقتصاد الألماني من ركود أدى إلى تراجع مخيف في مبيعات الشركات على رأسها شركة فولكسفاغن العملاقة لصناعة السيارات، كما أدى إلى انعدام النمو وتقلص الناتج المحلي الإجمالي. ولا تبدو آفاق تغير هذا المنحى قريبة، لاسيما إذ أن غالبية التوقعات وعلى رأسها الصادرة عن الحكومة الألمانية وصندوق النقد الدولي لا ترى فرصا تُذكر للنمو خلال العام القادم 2025.
الإفلاس يصيب أعرق الشركات
وتكمن المشكلة الأخطر حاليا في خطر الإفلاس والإغلاقات التي تتهدد آلاف الشركات أو فروع لها ومن بينها شركات كانت يوما تُعد من أفضل الشركات في العالم أمثال فولكسفاغن وبي ام دبليو وسيمنس وبوش. وهو الأمر الذي يعزز المخاوف من أن ألمانيا في الطريق إلى أن تفقد جزءا هاما من صناعاتها وإلى تراجع ترتيبها بين الدول الصناعية. ومن المؤشرات التي تعزز هذه المخاوف إعلان إفلاس نحو 11 ألف شركة خلال النصف الأول من العام الجاري 2024 حسب مركز الإحصاء الاتحادي في فيسبادن ونحو 4 آلاف شركة في الربع الثالث من هذا العام حسب معهد لايبنيتس للبحوث الاقتصادية في مدينة هالة/ IWH وهو أكبر رقم عرفته البلاد منذ الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008.
الفرق بين حكومتي ميركل وشولتس
ولا يأتي الخوف الأكبر في الأزمة الحالية من أن الإفلاس والإغلاقات تصيب شركات نوعية عملاقة وعريقة وحسب، بل في ما يصفه مراقبون تخبط حكومة التحالف الحالي بزعامة المستشار أولاف شولتس في مشاكلها الحالية وعجزها اتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة ذلك. وعلى العكس من ذلك سارعت حكومة المستشارة السابقة أنغيلا ميركل إلى تخصيص حزم ماليةبقيمة تزيد على 500 مليار دولار لتقديم الدعم للشركات والبنوك التي واجهت مخاطر الانهيار خلال الأزمة المالية العالمية 2008 وأزمة جائحة كورونا/ كوفيد 19.
وكان من بينها سيمنس، ولوفتهانزا، وفولكسفاغن، ودويتشه بنك وكوميرتس بنك. اما الحكومة الحالية التي لم تستطيع رغم أشهر من الجدل الملل الاتفاق على سد عجز في ميزانيتها بقيمة 50 مليار يورو، فتبدو عاجزة عن توفير حزم هامة لا لتقديم الدعم ولا لتمويل استثمارات حيوية في البنية التحتية والرقمنة وقطاعي الصحة والتعليم.
الأسباب الخارجية لوحدها لا تفسر الركود
منذ أشهر وبشكل ممل أحيانا يستمر الجدل والحديث والضجيج الإعلامي عن ركود الاقتصاد الألماني وإفلاس الشركات. وخلال هذا الحديث الذي أضحى موضوع الساعة يتم التركيز بشكل مبالغ فيه عن الأسباب الخارجية التي تقف وراء هذا الركود والإغلاقات.
ويأتي على رأسها بالطبع ارتفاع أسعار مصادر الطاقة والمواد الأولية وعلى رأسها الغاز والنفط وخاصة بعيد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وكانت ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي الرخيص بنسبة أكثر من 50 بالمائة قبل الحرب. غير أنها وبعد تفجير خطي السيل الشمالي وقطع الإمدادات الروسية لجأت إلى الشراء في السوق العالمية وخاصة من الولايات المتحدة والنرويج بأسعار مضاعفة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يكفي العوامل الخارجي لتفسير الركود الاقتصادي في ألمانيا؟
"النوم على النجاح" وغياب الإصلاحات الهيكلية
هناك شبه إجماع في أوساط المعاهد والخبراء مراكز البحوث الاقتصادية الألمانية وعلى رأسها معهد إيفو/ IFO بأن الاقتصاد الألماني يعاني من خلل هيكلي كبير لأسباب أبرزها تخلف ألمانيا وتأخرها عن تحديث البنية التحتية والقيام بعملية الرقمنة الشاملة وتطوير صناعة الطاقات المتجددة وصناعة الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات وغير ذلك من الصناعات العالية التقنية التي أضحت اليوم عنوان الريادة في الإنتاج والمنافسة. فالمشكلة إذا وكما يعتقد كثيرون ليست في نوع الصناعات القائمة كصناعة السيارات والصناعات الكيميائية والهندسية والثقيلة، بل في عدم مواكبة هذا الصناعات للتطور الذي حققه المنافسون في الصين والولايات المتحدة ودول أخرى. ويُقصد هنا التأخر في ربط هذه الصناعات بالأتمتة والرقمنة والإلكترونيات المحلية والطاقات البديلة وتقليص شراهتها لاستهلاك الطاقات الاحفورية.
ومن الأمثلة على تبعات عدم تحديث البنية التحتية أن الأمر وصل مؤخرا إلى حد انهيار جسر كارولا على نهر الألبه بمدينة دريسدن بسبب عدم الصيانة. ويبدو لنا ترقيع الكثير من الطرقات والحفر المنتشرة في عدد كبير منها وكأننا في بلد صناعي بطرقات من العالم الثالث. وما تزال نسبة التغطية بالكوابل الضوئية في ألمانيا بحدود 30 بالمائة فقط.
وتقول صحيفة الغارديان بتاريخ 1 سبتمبر/ أيلول 2024 أنه يوجد في الولايات المتحدة وبريطانيا أكثر من 5 شركات ناشئة لاستغلال الذكاء الاصطناعي لكل 100 ألف نسمة مقابل أقل من شركتين في ألمانيا. وحسب الصحيفة فإن ألمانيا كحكومة وشركات فوتت الاستثمار في القطاعات الحديثة ونامت على النجاح التي حققتها خلال العقدين الماضيين لدرجة أنها أصبحت ضحية لنجاحاتها. وفي الوقت الذي تُظهر فيه بلدان منطقة اليورو وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بوادر التعافي من صدمة الطاقة، فإن ألمانيا ما تزال تواجه الركود.
هل فقد النموذج الألماني صلاحياته؟
السؤال هنا، هل فقد نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي الألماني الذي كان مثالا يحتذى وحقق معجزات اقتصادية عديدة صلاحياته؟ في الواقع تمكنت ألمانيا في الماضي من تجاوز أزمة الطاقة في السبعينات بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وجنون أسعار النفط. كما تجاوزت أزمة التسعينات وأوائل الألفية الحالية التي أُطلق على ألمانيا خلالها "رجل أوروبا المريض"، وقد تمكنت من ذلك بفضل الإصلاحات المؤلمة التي قامت بها حكومة المستشار الأسبق غيرهارد شرودر. غير أن مشكلة الأزمة الحالية أنها أقسى من سابقاتها كونها تحصل في ظل توترات جيوسياسية عالمية تؤدي إلى مزيد من العقوبات الاقتصادية المتبادلة والنزاعات التجارية الحادة.
كما أنها تحصل في ظل حكومة تبدو عاجزة عن اتخاذ قرار اقتصادي موحد وعن القيام بإصلاحات اقتصادية عميقة بسبب الخلافات الحادة التي لا تبدو قابلة للحل بين أطرافها من جهة، ولكونها من جهة أخرى في السنة الأخيرة من دورتها الحالية في الحكم. ويضم الائتلاف الحاكم الذي يتزعمه المستشار أولاف شولتس إلى جانب حزبه، الاشتراكي الديمقراطي كل من حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر.
وتكمن الطامة الكبرى في أن كل من هذه الأحزاب يسعى إلى تنفيذ سياسة مختلفة عن تصور الآخر. ففي الوقت الذي يصر فيه الحزب الحر بزعامة كريستيان ليندنر الذي يتولى مسؤولية وزارة المالية على التقشف في الميزانية، يدعو الحرب الاشتراكي مدعوما من حزب الخضر إلى حد ما إلى التمويل بالعجز لضخ استثمارات ضرورية في البنى التحتية.
وقد وصل عمق الانقسامات بين أطراف التحالف مؤخرا إلى حد أن المستشار نظم قمة صناعية مع ممثلي الشركات الكبرى دون دعوة أهم وزيرين في الحكومة إليها، أي وزير المالية ليندنر ووزير الاقتصاد روبيرت هابيك عن حزب الخضر. وفي المقابل نظم وزير المالية وأعضاء من حزبه قمتهم المضادة بحضور ممثلي الشركات المتوسطة وجماعات ضغط صناعية قريبة منها.
هل تنعم ألمانيا بحكومة قادرة على مواجهة التحديات؟
في دراسة مشتركة قام بها معهد الاقتصاد الألماني في كولونيا/ IW ومعهد الاقتصاد الكلي التابع لمؤسسة هانز بوكلر/ IMK تحتاج ألمانيا إلى 600 مليار يورو للقيام بذلك خلال السنوات العشر القادمة، غير أن السؤال هنا، هل تنعم البلاد بحكومة قادمة قادرة على حشد الأموال الكافية والقوى اللازمة للاستثمارات المطلوبة؟
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الوقت لم يفت بعد للنهوض مجددا على ضوء الخبرات المتراكمة وطاقات الإبداع والاختراع التي تتمتع بها آلاف الشركات ومراكز البحوث الألمانية. غير أن ذلك يتطلب حكومة تستطيع اتخاذ القرارات التي من شأنها وقف الانهيارات الاقتصادية المستمرة. الجدير ذكره أن تشكيل مثل هذه الحكومة ليس بالأمر السهل مستقبلا على ضوء صعود حزب البديل اليميني الشعبوي على حساب الحزبين التقليديين الرئيسيين في البلاد، وهما الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي.