1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

تحليل: بوتين والعالم العربي.. قصة علاقة معقّدة

Moncef Slimi Kommentarbild App
منصف السليمي
٤ مارس ٢٠٢٢

من السابق لأوانه رصد تداعيات حرب بوتين على أوكرانيا، طالما أنه لا يمكن توقع فصولها الأكثر دراماتيكية. لكن كيف يُفسر التقلّب في مواقف حكومات الدول العربية وحذر الشارع فيها مما يجري؟ وإلى أي حد تلعب شخصية بوتين دورا بذلك؟

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والمصري عبد الفتاح السيسي قي لقاء سنة 2019صورة من: AFP/A. Nikolskyi

سيطرة الجيش الروسي على أوكرانيا مسألة قد تتم في غضون أيام أو حتى أسابيع. وإذا تمكن بوتين من ضم أوكرانيا بشكل أو بآخر، بفعل عدم التكافؤ الكبير بين قوة جيشه ونظيره الأوكراني وعدم تدخل قوات حلف الناتو، ومهما كانت التكلفة الإنسانية والمادية، فهل يعني ذلك أن أهداف بوتين قد تحققت؟

هل يكون ما حدث في سوريا والشيشان وجورجيا خادعا لبوتين، وأن ما سيواجهه في أوكرانيا أقرب لما حدث مع أسلافه الروس في أفغانستان ولمآلات الغزو الأمريكي في هذا البلد كما في العراق وقبلهما في فيتنام؟

الدرس الأهم من كل ما حدث في التاريخ هو أن القوة العسكرية الغاشمة ليست وحدها ما يحسم مآلات الصراع في المدى الزمني البعيد، بل الكلمة في نهاية المطاف لطالما عادت إلى ما تحمله شعوب تلك الدول من مشاعر وأفكار وإرادة ومقاومة، كما يقول المؤرخ والأستاذ بالجامعة العبرية في القدس، يوفال نوح هراري، في حوار أجرته معه مجلة ليكسبريس الفرنسية (2 مارس آذار 2022). مؤلف كتاب Sapiens"العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري، 21 درسا للقرن 21"، يتوقع بأن حرب أوكرانيا "ستكون حاسمة بالنسبة لمستقبل البشرية"، ويعتبر أن "الأمر الأكثر مأساوية أن هذه الحرب كانت بإرادة شخص واحد فقط".

وبالنسبة للكثيرين فانه من السابق لأوانه رصد تداعيات حرب بوتين على أوكرانيا، طالما أنه لا يمكن لحد الساعة توقع فصولها الأكثر دراماتيكية. لكن ما حدث لحد الآن يثير تساؤلات المحللين والخبراء الاستراتيجيين في برلين وباريس وبروكسيل، حول ما إذا كان قادة الإتحاد الأوروبي سُذّجا عندما راهنوا لسنوات عديدة على مفهوم مشترك مع روسيا بوتين للأمن الأوروبي، ليكتشفوا مع اقتحام الدبابات الروسية للأراضي الأوكرانية على إمتداد مئات الكيلومترات، بأن زاوية نظر بوتين لأمن روسيا تنطلق من رؤية لأوراسية جديدة تنطلق جذورها من بدايات القرن العشرين، وانبعثت من جديد مع إنهيار الإتحاد السوفيتي، وهي تقوم على فكرة جيوسياسية مفادها أن هوية روسيا ليست أوروبية ولا آسيوية، وإنما هي الإثنان معا. ويعد الروسي الكسندر وغين من أبرز منظريها في السنوات الأخيرة، ومن المثير أن أفكاره تجد تجاوبا ملفتا في أوساط اليمين المتطرف في أوروبا.

تظهر ملامح الأوراسية كرؤية جيوسياسية في توجهات وسياسات الرئيس بوتين، لكن هنالك من يرى بأن بوتين يمزج معها نظرية"روسيا العظمى" القائمة على القومية الروسية، وهي فكرة غذّت في العقدين الماضيين نزعة روسيا للتمدّد في المجالين الآسيوي(القوقاز: الشيشان، جورجيا، القرم) والأوروبي (شرق أوكرانيا)، وصولا إلى حملته الحالية على أوكرانيا بكاملها.

وإذا كانت توجهات بوتين بالتوسع خارج حدود الفيدرالية الروسية التي رسمت بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، لها تداعيات جيوسياسية مباشرة على الإتحاد الأوروبي ودول أوروبا الشرقية (غير الأعضاء في الإتحاد)، فيما يشبه تحريكا لصفائح الأرض من تحت الخريطة الأوروبية ومن ورائها نفوذ حلف الناتو وقيادته الأمريكية، فماذا يعني كل ذلك بالنسبة للعالم العربي؟

منصف السليمي، صحفي خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية

مصالح وحسابات

قد لا تكون اتجاهات تصويت الدول العربية على قرار الجمعية العام للأمم المتحدة الذي أدان الغزو الروسي لأوكرانيا، مؤشرات كافية لفهم حقيقة مواقف حكومات تلك الدول ولا شعوبها. لكن يمكن القول بأن معظم الدول العربية صوتت ضد الغزو الروسي، بما فيها بعض الدول التي كانت مترددة مثل مصر والإمارات والسعودية. وفيما امتنعت ثلاث دول عربية تربطها علاقات مصالح وثيقة بموسكو، هي الجزائر والعراق والسودان، كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي اصطفت مع موسكو إلى جانب بيلاروسيا وكوريا الشمالية وأرتيريا.

بعدما اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، لم يكن مفاجئا صمت بعض العواصم العربية التي تربطها علاقات وثيقة مع موسكو مثل الجزائر، لكن سُلطت الأضواء على عواصم عربية طالما صُنفت على أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء من خارج حلف الناتو، ويتعلق الأمر بمصر والإمارات العربية المتحدة والسعودية والمغرب وتونس. فهل يعني تصويتها تغييرا بوجهة نظرها من الصراع الحالي في أوكرانيا أو في تحالفاتها(الدول العربية المذكورة) الاستراتيجية؟

في العقد الماضي، ومنذ بدء إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما نهج سياسة الانسحاب الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط، ضاعفت موسكو جهودها باتجاه توثيق علاقاتها مع عدد من دول المنطقة معتمدة على قطاعات الطاقة والأمن وتجارة السلاح. فبالاضافة للجزائر التي ضاعفت روسيا صادراتها من السلاح له، وحافظت على وضعها كأول مزود للجيش الجزائري الذي يُخصص له سنويا ما يناهز 10 مليارات دولار يذهب معظمها إلى صانع السلاح الروسي. استعادت روسيا دورها في العراق كمزود بالسلاح رغم ما حدث من تحولات بعد الغزو الأمريكي للبلد وإعادة بناء الجيش وتسليحه من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

موسكو وأبوظبي ..تقارب في زمن تراجع الدور الأمريكي في الخليجصورة من: Mikhail Metzel/TASS/picture alliance

ومدت روسيا يدها إلى الحليفتين التقليديتين للولايات المتحدة مصر والسعودية، عبر فتح قنوات تعاون عسكري واقتصادي كبيرة. إذ سجلت المبادلات الروسية المصرية في العام الماضي نموا بمعدل 10 في المائة، واستعادت روسيا حضورها كمزود أساسي للسلاح إلى مصر، لأول مرة منذ حرب الشرق الأوسط سنة 1973. وكمؤشر على الأهمية التي باتت تكتسيها علاقاتها مع موسكو، لم تستجب السعودية لطلب أمريكي بضخ مزيد من انتاج النفط، للتحكم في أسعاره في الأسواق العالمية.

أما الإمارات العربية المتحدة فقد انضمت إلى الصين والهند في الإمتناع عن التصويت على مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يدين الهجوم الروسي على أوكرانيا. ورأى مراقبون في خطوة الإمارات بأنها تهدف لكسب موقف روسي من مشروع قرار يمدد حظر الأسلحة المفروض على الحوثيين في اليمن، الأمر الذي أثار إستياء عواصم غربية وذهب دبلوماسي أوروبي لوصفه بـ "صفقة قذرة" بين موسكو وأبوظبي.

كما يبدو تغيّب المندوب المغربي عن جلسة التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، تفاديا لإثارة غضب الطرفين الروسي والغربي معا، وبالأخص روسيا التي امتنعت في اكتوبر تشرين الماضي عن التصويت لصالح قرار تمديد مهمة بعثة مينورسو في الصحراء الغربية، ولم تستخدم حق النقض ضد القرار الذي عارضته حليفتها الجزائر بشدة. وسبق للرباط أن أعربت صراحة بأن سياستها الخارجية وشراكاتها ستكون خاضعة لمواقف الشركاء من ملف الصحراء.

القرم وحلب .. مختبر للنفوذ الروسي

وإذا كان تشابك المصالح بين موسكو وعواصم عربية عديدة، يفسر المواقف الحذرة التي تبديها تلك الدول إزاء الأزمة الأوكرانية، فإن المتغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قد تفسر أبعادا أخرى للتعقيدات التي باتت تطبع العلاقات الروسية العربية، وتأثيراتها من ناحية أخرى على علاقات روسيا مع أوروبا.

قد لا يكون من باب المصادفة أن التدخل الروسي في سوريا في سبتمبر أيلول 2015، حدث بعد عام من الهجوم على شرق أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم. ولم تكن الخطوة الروسية في سوريا مجرد تعزيز لنفوذها التقليدي هناك، بل كشفت عن ديناميكية جديدة في الدور الروسي عسكريا في مواجهة النفوذ الغربي.

جانب من مدينة حلب التي دمرتها الحرب صورة من: picture-alliance/dpa/S. Kremer

بل تبدو الطريقة التي تدخلت بها روسيا في جورجيا ثم شبه جزيرة القرم وصولا إلى سورياحيث سحق الجيش الروسي المعارضة السورية المسلحة في حلب وحمص، كاختبارات لتكريس النفوذ الروسي عبر القوة، وقد جرى تكريس لعبة النفوذ هذه مع الغرب على إمتداد أكثر من عقد من الزمن، دون أن يظهر الغرب مقاومة تذكر ضد الدب الروسي.

ومن هنا يمكن فهم صيرورة توسّع النفوذ الروسي في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل وجنوب الصحراء في أفريقيا، حيث نشرت موسكو الآلاف من عناصر فاغنر، لتصبح لاعبا رئيسيا في الأزمة الليبية وفي أوضاع عدد من دول غرب أفريقيا ووسطها، حيث يشهد النفوذ الفرنسي والأوروبي تراجعا ملحوظا.

وعندما نعكس الصورة على مرآة ما حدث بالأمس في القرم وجورجيا وسوريا، يبدو المشهد اليوم في أوكرانيا وكأنه نسخة مكثفة لكل تلك المشاهد التراجيدية مجتمعة في عنفها ومأساويتها وحجم ضحاياها، فقط تختلف في موقعها الجغرافي وتداعياتها المحتملة والمباشرة على أوروبا.

على مشارف أوروبا تمكنت روسيا على امتداد السنوات الماضية من إنشاء مراكز نفوذ أمنية وعسكرية تمتد من سواحل سوريا في شرق البحر الأبيض المتوسط إلى شرق ليبيا وجنوبها، عبر جماعات فاغنر أو عبر قواعد عسكرية روسية.

طوق نجاة للمستبدين

صفقات السلاح ومجموعات الفاغنر والقواعد العسكرية في شرق وجنوب المتوسط، التي تقيمها روسيا مع عدد من دول المنطقة أو جماعات النفوذ المحلية، لم تكن وحدها كأدوات نفوذ تستخدمها موسكو بل لعبت بموازاتها على وتر حسّاس لعدد من الحكام العرب، وفي مقدمتها شخصية الرئيس بوتين وخلفيته كرجل مخابرات.

في خضم موجة ثورات "الربيع العربي"، قدمت روسيا نفسها كطوق نجاة للحكام المستبدين وساعدت بعضهم بدءا من الرئيس السوري بشار الأسد، بالدعم الأمني والعسكري لتبيث حكمهم. وساعد في ذلك جماعات الإسلام السياسي التي حاولت الهيمنة على حركات الشارع الإحتجاجية وحولتها بعض تلك الجماعات إلى مسرح للعنف.

لكن الدور الروسي لم يكن وحده، فقد تظافرت معه أدوار دول عربية رأت في ديمقراطيات الربيع العربي خطرا على أنظمتها. وكما نشطت آلة الدعاية الروسية ضد الثورات البرتقالية في شرق أوروبا ووصمتها بالتبعية للغرب، تمت شيطنة ثورات الربيع العربي واعتبارها "مؤامرة أمريكية" على الدول العربية.

الأمر الذي ساعد في فشل محاولات الانتقال الديمقراطي وإحباط الحراك الشعبي في الشارع وعودة النخب العسكرية والأمنية إلى واجهة الحكم في دول مثل مصر والسودان والجزائر وليبيا. وبدورها آلت الديمقراطية الناشئة في تونس التي اعتبرت استثناء في "الربيع العربي"، إلى السقوط في مستنقع الفساد وصعود الشعبوية.

ولمواجهة ضغوط الدول الأوروبية والولايات الولايات المتحدة واشتراطها ربط المساعدات الإقتصادية باحترام حقوق الإنسان، وجد عدد من الحكام في دول المنطقة ضالتهم في الوصفة الروسية ومعها أيضا الصينية، التي تقول "عدم التدخل في الشؤون الداخلية".

صورة بوتين "المعادي للغرب"

بالنسبة لفئات واسعة من المجتمعات وخصوصا الشباب الذين يعيشون حالة تذمر اجتماعي، فان تداعيات جائحة كورونا وضعف اهتمام أوروبا والولايات المتحدة بدعم اقتصادياتهم المتدهورة، يساهم في تغذية النظرة السلبية للغرب، وخصوصا في مسائل مثل إزدواجية المعايير في قضايا حقوق الإنسان وعدم التكافؤ في السياسة الدولية. حيث تظهر المفارقة في نظر مدونين ونشطاء سوريين وعرب في مواقف الدول الغربية، بين ما تعرضت له مدينة حلب السورية ومدن أوكرانيا اليوم.

 وفي غضون ذلك تبرز شخصية الرئيس الروسي بوتين، وغزوه لأوكرانيا بمثابة هجوم على الغرب، من قبل "زعيم قومي قوي" كما يتردد في عدد من تعلقيات رواد مواقع التواصل الإجتماعي، وهي صورة تطابق "البطل القومي" التي طالما داعبت خيال أجيال من المواطنين العرب الذين عاشوا على إمتداد عقود خيبات دولهم، سواء في ميادين التنمية أو الديمقراطية أو السياسة الخارجية.

وإذا كانت بعض النخب العربية تراودها من منطلقات أيديولوجية وسياسية صورة الزعيم الكاريزمي القومي أو نوستالجيا من زعامات القومية العربية مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، فان ميكانيزمات تداول الرسائل القصيرة والمشاهد البصرية على منصات التواصل الاجتماعي، التي تتداول على نطاق واسع خطاب بوتين المعادي للغرب، لتغذي المشاعر والإثارة في مزاج الجمهور، حيث يقع إسقاط صورة بوتين "الزعيم القوي" لدى البعض على ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية، رغم إختلاف السياقات التاريخية والمجتمعية، وحتى في ظل تداعيات كبيرة لحرب بوتين في أوكرانيا، على رغيف الخبز في معظم الدول العربيةوعلى أسعار مصادر الطاقة.

منصف السليمي

منصف السليمي صحفي في مؤسسة DW الألمانية، خبير بالشؤون المغاربية
تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW