في دول المغرب الثلاثة، الجزائر والمغرب وتونس، بدأت الاستعدادات لمرحلة الخروج من الحجر الصحي، ورغم وجود مخاوف من حدوث انتكاسات، إلا أن خطاب حكومات دول المنطقة يحمل نبرة انتصار على جائحة كورونا، بل أن الدول الثلاث تتسابق في الحديث عن معجزات تحققت في مكافحتها للفيروس بأقل خسائر ممكنة في الأرواح.
ورغم أن روائح الموت ما تزال تفوح في المستشفيات بدول المنطقة وأجواء الحداد تخيم على كثير من البيوت، وإجراءات الطوارئ الصحية لم ترفع بعدُ، إضافة إلى شعور قطاعات واسعة من السكان بعدم اليقين بتجاوز مرحلة الوباء، فان الطبقة السياسية والنخب النافذة في السياسة والاقتصاد والإعلام، تبدو مندفعة في سجالات تكتسي أحيانا حدة غير مسبوقة، وتكشف خلافات عميقة حول رؤيتها لمستقبل دول المنطقة في مرحلة ما بعد كورونا.
خاسرون ورابحون من زمن الجائحة
تداعيات الجائحة على اقتصاديات دول المنطقة تلقي بظلالها على الأوضاع فيها. ففي المغرب أعلن محمد بنشعبون وزير المالية الثلاثاء (19 مايو أيار 2020) أن الحجر الصحي يكلف المغرب يوميا مليار درهم مغربي (اليورو يعادل 11 درهم مغربي). وهو ما يبدو تحذيرا من الصعوبات الاقتصادية التي ستواجهها البلاد، إذا ما طال أمد أزمة كورونا، بحكم العجز الهائل الذي يمكن أن يحدث جراء ارتفاع حجم الخسائر الاقتصادية مقارنة بالموارد التي تم رصدها لصندوق تدبير الأزمة الحالية والتي تبلغ قيمتها 32,7 مليار درهم.
ولم يكن المغاربة ينتظرون جائحة كورونا كي يطلقوا حوارا واسعا حول "النموذج التنموي" للبلاد، بعد عقود من الصعوبات الهيكلية التي اعترت الاقتصاد، بل إن الموضوع قفز في أوج أزمة كورونا إلى سلّم الأولويات في النقاشات الدائرة في الإعلام والمنتديات (الإلكترونية) السياسية والاقتصادية.
ورغم أن الخبراء سواء داخل المغرب أو خارجه، لا يملكون لحد الآن رؤية واضحة حول حجم ومدى تأثيرات الجائحة، فان صانعي القرار المغربي يبدو أنهم يقومون بعملية استباقية لتداعيات عالمية محتملة على مستوى واقع الاقتصاد والاستراتيجيات المعتمدة في التنمية. وقد دعا الوزير السابق شكيب بنموسى رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي إلى بلورة "مخطط تنموي يستند إلى آليات مبتكرة من أجل تحقيق الإقلاع الاقتصادي". وقد بدأ الحديث من الآن على أولويات مثل التجارة الرقمية والتكنولوجيا واقتصاد الصحة والزراعة والنقل، ومن شأن التغييرات المنتظرة أن تساهم في صعود نخب وطبقة اقتصادية جديدة على حساب الطبقة المتنفذة في قطاعات صناعية تقليدية ترتبط باستثمارات وأسواق عالمية.
ويبدو الاتجاه لتوسيع دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، استنتاجا بارزا لدى النخب السياسية والاقتصادية المغاربية، لكنه في المدى المنظور يتوقع أن يأخذ مسارات مختلفة في بلدان المغرب،
ففي تونس فإن الوضع الجديد سيجعل القوى المناوئة لإحداث إصلاحات في الاقتصاد وتحريره وتوسيع دور القطاع الخاص، وعلى رأسها مركزية الاتحاد العام التونسي للشغل، تكسب أوراق ضغط إضافية على حكومة إلياس الفخفاخ التي تشكلت أسابيع قليلة قبل ظهور أزمة كورونا، وكانت تضع في أولوياتها إعادة النظر في أوضاع عدد كبير من المؤسسات العمومية التي تعاني اختلالات أو إفلاس.
وفي حال عدم حدوث إصلاحات اقتصادية فمن شأنه أن يفتح الباب لسيناريو استمرار الحال على ما هو عليه وإدامة نفوذ ثلاثة فئات: أولها ما يطلق عليه في تونس "العائلات" المتنفذة في الاقتصاد، وثانيها فئة تستنفع من الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة والتي تهيمن على حوالي 50 في المائة من اقتصاد البلاد، وثالثها طبقة فاسدة تغلغلت في شرايين الاقتصاد والإدارة والإعلام والسياسية، ويصفها بعض الخبراء بـ"الدولة داخل الدولة".
وهو سيناريو سبق للاتحاد الأوروبي أن حذر من تداعياته على مستقبل الشراكة بين الطرفين.
أما في الجزائر، حيث ما تزال الدولة تحتفظ بدور اجتماعي أساسي موروث عن النظام الاشتراكي، فإن هذا الدور - على الأقل في طابعه الريعي - لا يمكنه أن يصمد في ظل تراجع الاعتماد على موارد الطاقة التي تعرضت لضربة كبيرة بسبب انهيار أسعار البترول في الأسواق العالمية، حيث يقدر خبراء اقتصاديون في الجزائر حجم الخسائر بأكثر من 2 مليار دولار، خلال ثلاثة أشهر فقط.
ورغم الصدمة الكبيرة التي خلفها الانهيار التاريخي لأسعار البترول في حياة الجزائريين، لا تبدو هناك مؤشرات واضحة في أداء النخب الحاكمة على استعدادات لتغيير نمط التسيير المركزي للاقتصاد والمعتمد بنسبة تبلغ 97 في المائة على عائدات الطاقة، بينما يتم التركيز على تصفية تركة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عبر محاكمات ماراثونية لرموز حكمه بتهم الفساد.
تغييرات في أنماط الحكم أم في الأدوار؟
جاءت الجائحة والجزائر في منعطف صعب، فقد نظمت انتخابات رئاسية على وقع احتجاجات غير مسبوقة في البلاد، واستفاد نظام الحكم من تحييد الحراك الشعبي بمنطق "القوة القاهرة للوباء". بيد أن المحاكمات والإجراءات المتعلقة بتصفية تركة حكم بوتفليقة استمرت على قدم وساق رغم الجائحة، كما أقدم الرئيس الجديد المنتخب عبد المجيد تبون على تقديم مشروع تعديلات للدستور تشمل مثلا تحديد العهدات الرئاسية والتشريعية لولايتين فقط، فيما يبدو ظاهريا استجابة لبعض مطالب الحراك.
لكن هذه الخطوة يرى فيها عدد من المراقبين، بأنها محاولة لتكريس إصلاحات في غياب المحاور المفترض، أي ممثلين عن "الحراك الشعبي" الملزم بعدم الخروج تحت طائلة مقتضيات الحجر الصحي.
وبرأي الدكتور محمد هناد أستاذ العلوم السياسية بالجزائر، فإن النخبة الحاكمة أقدمت على هذه الخطوة "من باب فرض الأمر الواقع" في ظل انشغال الناس بالوباء. وتساءل الخبير الجزائري في حوار مع صحيفة "الوطن" الصادرة باللغة الفرنسية في عددها ليوم 18 مايو أيار 2020، "هل هي من السينيقية (cynisme) ما يجعلها تستغل فرصة انشغال الناس بالوباء لتمرير مشروعها وإدامة عمر النظام المعهود بشكل ما ؟".
وفي المغرب وتونس، حيث تتصاعد حدة الانتقادات للحكومتين التي يهمين فيهما حزبا "العدالة والتنمية" و"النهضة" الإسلاميين، تأخذ المخاضات السياسية في البلدين سياقات متباينة.
ففي المغرب، حيث تلعب المؤسسة الملكية دورا محوريا في النظام السياسي، تلوح مؤشرات على تمهيد الأجواء إلى عودة التكنوقراط للحكومة. ويبدو أن هذا التوجه يطبخ على نار هادئة من خلال الدور الذي تقوم به اللجنة الخاصة للنموذج التنموي، والتي يهيمن فيها عنصر التكنوقراط.
ويتوسع المنحى التكنوقراطي على مستوى القيادات الحزبية نفسها، حتى أن حزبا عريقا مثل حزب الاستقلال ذو التوجه المحافظ والذي يعتبر منافسا رئيسا للإسلاميين في الانتخابات، اختار منذ أشهر على رأسه نزار بركة حفيد الزعيم التاريخي للحزب علال الفاسي، لكنه شخصية قادم من عالم التكنوقراط وكان يتولى منصب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
ويبدو أن تونس من ناحيتها تسابق الزمن كي تكون المختبر الأول للتغييرات السياسية، إذ لم تنتظر النخب السياسية ووسائل الإعلام خروج البلاد من الحجر الصحي، واندفعت في دوامة جدل ساخن، بدأت بحملة مجهولة المصدر عبر مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بحل البرلمان والحكومة. وفي مرحلة لاحقة ظهرت مطالب بتغيير النظام السياسي البرلماني برئاسي. ويرصد المراقبون التقاءًا غير مسبوق بين توجهات شعبوية ثورية وأخرى مؤيدة للنظام السابق، حول الدعوة إلى تنظيم استفتاء شعبي لتغيير نظام الحكم. ويرى أصحاب هذه الدعوات أن تغيير نظام الحكم يعد وسيلة ناجعة لحل أزمة الحكم القائمة بسبب صراع الرئاسات الثلاث: رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ.
ولا يُخفي الرئيس سعيّد نواياه في تغيير نظام الحكم إلى رئاسي، بل انه يدعو إلى تغيير بنية الحكم من تمثيل برلماني إلى نظام مجالسي قائم على قاعدة انتخاب فردية محلية، ينبثق منها مجلس تشريعي. ويشبه في ملامحه ما يطلق عليها "الديمقراطية الشعبية" في بعض الدول الأوروبية، بينما يصف منتقدو الرئيس سعيّد بأن فكرته تشبه نظام "اللجان الشعبية" للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي!
ويبدو أن بعض خصوم حزب "النهضة" يرون في هذا الاتجاه خطوة حاسمة لإضعاف دور الحزب الإسلامي، القوة الأولى في البرلمان ورئيسه راشد الغنوشي. ويعتقد عصام الشابي زعيم الحزب الجمهوري المعارض، وأحد أبرز منتقدي حزب النهضة، في حوار له مع إذاعة "شمس" التونسية، بأن حملة المطالبة بتغيير نظام الحكم في الوقت الراهن هي "محاولة من قوى فشلت في الانتخابات لتحقيق ما لم يمكنها تحقيقه عبر صناديق الاقتراع".
معادلات غير مكتملة
ورغم تباين السياقات والمسارات التي تأتي فيها المخاضات ببلدان المغرب الثلاثة، فانها تشترك في بعض الخصائص، ومنها عدم انتظار الخروج من أزمة كورونا، واعتمادها على خطط سبق إعدادها الأزمة الحالية. كما أن محاولات التغييرات التي تطفو على السطح حاليا، لا تأخذ ببعض الخلاصات الأساسية التي تتبلور عالميا بفعل التغيرات التي ظهرت في ظل الأزمة، منها مثلا الدور المتصاعد للرقمنة في الاقتصاد والاعلام والسياسة، ولا يجري الحوار حول البدائل المطروحة لحل المعضلات التي يعاني منها الشباب.
وهنالك عامل آخر يكتسي أهمية استراتيجية في أوضاع بلدان المغرب، ولا يبدو واضحا في معالم التحركات القائمة، ويتعلق الأمر بمستقبل علاقات أو تحالفات دول المنطقة مع التكتلات والقوى الكبرى أو الإقليمية في مرحلة ما بعد الجائحة، وهو عنصر ما يزال في طور المخاض على المستوى العالمي، سواء فيما يتعلق بمجريات الصراع الصيني الأمريكي أو دور الاتحاد الأوروبي وروسيا، وصولا إلى القوى الإقليمية.
ويشكك الخبير الاقتصادي المغربي العربي الجعيدي في متانة الخطط الاقتصادية والسياسية التي يجري الحديث عنها حاليا في المغرب وفي دول المنطقة. وقال في ندوة افتراضية Webinar نظمت مؤخرا حول مستقبل النموذج التنموي في المغرب: "لا نملك إجابات عن ما بعد الأزمةـ في ظل عدم قدرتنا على قياس آثار ما بعد الخروج".
ولذلك يمكن قراءة سياق السجالات والتحركات الجارية في بلدان المنطقة بأنها تكتسي أيضا طابعا استباقيا أو هروبا إلى الأمام، سواء للالتفاف على مطالب الحراكات الشعبية التي أخمدت أزمة كورونا قذوتها، أو خشية سيناريوهات وردت في بعض الدراسات ومراكز الخبرة الأوروبية والأمريكية، وضمنها سيناريو انهيار عدد من الأنظمة في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
منصف السليمي