لست من مدخني النرجيلة (الشيشة) ولا من المواظبين على ارتياد مقاهي أو حانات الشيشة، ولا أتجاهل النصائح الطبية المتعلقة بمضارِّ التدخين عموما على صحة الإنسان. لكن توجيه الوعظ وإطلاق فتاوى تحرّم الشيشة بتزامن مع استهداف مقاهيها من قبل اليمين المتطرف، مسألة تتطلب التوقف عندها أولا لإدراك خلفياتها، وثانيا لوضع النقاط على الحروف بشأنها.
درس من الإسكندرية
قبل بضع سنوات أطلقت مجموعة من الوعاظ الأزهريين الشبان مبادرة عبر مقاهي الشيشة في الإسكندرية، تقوم على تنظيم لقاءات مع مرتاديها والحوار معهم حول قضايا إجتماعية ودينية، أثارت المبادرة إبانها جدلا في مصر، بيد أن كثيرين وجدوا فيها انفتاحا من رجال الدين على حياة الشباب ومحاولة للاقتراب منهم ومن قضاياهم بدل وصم تلك المقاهي وتحريمها على النحو الذي يقوم به بعض الوُعّاظ عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو في المساجد، اليوم على إثر الاعتداء الذي وقع في ألمانيا.
لم تكن مسألة تحريم الشيشة أو نبذها مطروحة أصلا ضمن مناقشات أئمة الأزهر أصحاب المبادرة ورواد المقاهي التي يزورونها، بل إنهم كانوا يبادرونهم بمشاركتهم لعب الورق والدومينو وتبادل النكت والقصص الساخرة.
لقد كانت رسالة أصحاب المبادرة هي محاربة الفكر السلفي المتشدد الذي يحرم مجرد ارتياد مقاهي الشيشة ويصفها بـ "وكر للفساد والقمار وتعاطي المخدرات"، وهو وصم يتطابق تقريبا مع ما تطلقه أوساط يمينية شعبوية ومتطرفة في ألمانيا على حانات الشيشة، وتضيف عليه بأنه "وكر للمافيا والعصابات الإجرامية" مستغلة في ذلك، وفي صيغة تعميم ظالم، بعض الحوادث وحملات الشرطة في برلين ومدن بولاية فستفاليا شمال الراين.
سرّ جاذبية مقاهي الشيشة في المجتمعات الغربية
الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام في ألمانيا عن مقاهي وحانات الشيشة ليست كلها وردية، فبعضها ارتبط بمشاكل اجتماعية ومظاهر سلبية، وهذه مسألة تجد الحلول لها في مسالك القانون والمؤسسات الاجتماعية والصحية المختصة. لكن البعد الأكثر عمقا لدور مقاهي الشيشة في المجتمع الألماني وغيره من المجتمعات الأوروبية، هو ما يبرزه خبراء وعلماء الاجتماع.
بعد خمسة قرون من ظهورها في المجتمع الفارسي، كتقليد اجتماعي وثقافي، وانتشارها لاحقا في المجتمعات الشرقية، تشهد النرجيلة أو الشيشة ازدهارا غير مسبوق في التاريخ. وبحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، فان استهلاكها يتضاعف بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة ويبلغ معدلها اليومي مئات الملايين من المدخنين. وتنطلق المنظمة الأممية من هذه المؤشرات لوضع خطط تهدف إلى تقليص الاستهلاك بنسبة 30 في المائة خلال السنوات الخمس المقبلة.
ورغم المضار الصحية والتحذيرات من مخاطر الشيشة على صحة مستهلكيها وخصوصا اليافعين، فان الإقبال عليها في تزايد ملحوظ وخصوصا في المجتمعات الغربية، وهو ما يثير شغف الباحثين في علم الاجتماع. فبعد أن كانت مقاهي الشيشة ممارسة اجتماعية من خصائص المجتمعات الشرقية، باتت اليوم أحد المظاهر المعتادة في كبريات مدن وعواصم أوروبا.
فمثلا في ألمانيا لا يقتصر رواد مقاهي الشيشة على المهاجرين أو الألمان من أصول مهاجرة، بل إنها تستقطب فئات واسعة من الشباب الألماني. وتفيد دراسة أوروبية نشرتها حملة تابعة للاتحاد الأوروبي تحت شعار "مساعدة.. من أجل حياة خالية من التدخين"، بأن الاقبال على الشيشة ومقاهيها في بلدان أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، يزداد في أوساط الفئات الشابة وذوي المستوى التعليمي والاجتماعي الأعلى.
وتكمن جاذبية مقاهي الشيشة في كونها تحولت من مجال الحياة "الخاصة" لشخص ما أو مجموعة أشخاص، إلى فضاء اجتماعي تلتقي فيه فئات مختلفة من المجتمع، ويتميز في نفس الوقت بنوع من الحميمية أي الطابع الخاص للجلسة وبكونه فضاء للتواصل الاجتماعي والثقافي لفئات من الشباب والنساء. ويجسد هذا الفضاء في أحد مظاهره بالنسبة للشبان من أصول عربية نمط حياة منفتحة وليبرالية وتدغدغ نوستالجيا الارتباط بجذورهم الشرقية.
كما يتيح هذا الفضاء الاجتماعي المفتوح فرص لقاءات وتواصل إنساني دافئ بين فئات الشباب ذوي الأصول المهاجرة وأصدقائهم أو معارفهم في بلد الاستقبال. وفي بلد مثل ألمانيا يشكل هذا النوع من اللقاءات الاجتماعية ليس فقط مجالا للترفيه عن النفس والخروج عن إيقاع الروتين والانعزال الشخصي، بل يمنح فرصا لتعميق الاندماج وتوسيع فضاءات التفاهم والتعايش في المجتمع. ومن اللافت للنظر أن اليمينيين المتطرفين والإسلامويين في ألمانيا وأوروبا عموما يلتقون حول رفض هذا الهدف، لكونه يحبط خططهم في إحداث القطيعة النفسية والاجتماعية بين الألمان والمهاجرين بل حتى مع مواطنيهم من أصول مهاجرة.
رسائل الشباب في مواجهة الترهيب
إثر حادث الاعتداء على حانتي شيشة في هاناو وعلى وقع الصدمة والغضب في المجتمع الألماني، الذي خلفه مقتل تسعة أشخاص معظمهم من أصول مهاجرة، جنح حزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي، وعلى غير عادته، إلى أسلوب النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، في محاولة للهروب من مسؤوليته السياسية والأخلاقية عما ترتكبه عناصر وجماعات يمينية متطرفة.
وبصرف النظر عن مجريات التحقيق القضائي في ملابسات تنفيذ جريمة هاناو وخلفيات منفذ الهجوم، يرى محللون بأن اليمين المتطرف والشعبوي يلتقيان حول هدف جديد، وهو استهداف فضاءات التعايش بين الألمان والمهاجرين، بعد أن كان الهدف مركزا على المساجد وأماكن العبادة. إذ لم يعد الهدف فقط هو مهاجمة المساجد أو مظاهر التدين باعتبارها ترمز إلى "أسلمة المجتمع الألماني" كما يزعمون، بل بات الهدف أوسع وأخطر ويشمل فئات واسعة من المجتمع الألماني تريد تجسيد مظاهر التعايش والاندماج. وهو هدف يلتقي حوله المتطرفون اليمينيون موضوعيا مع المتشددين الإسلاميين والسلفيين عندما يطلق هؤلاء دعاويهم وفتاويهم ضد مظاهر الانفتاح الاجتماعي والعيش المشترك بين أبناء المجتمع الواحد ذوي الثقافات أو الأديان المتعددة.
ومن بوادر الوعي في المجتمع الألماني، بخطورة ما يرمي إليه المتطرفون، أن أصوات قطاع واسع من النخبة السياسية وصناع الرأي، ترتفع أكثر للمطالبة باتخاذ تدابير صارمة في الحياة العامة وفي المجال الإعلامي والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي، لتطويق خطر اليمين الذي يهدد نمط حياة التعايش وأسس الديمقراطية ويسعى لتقويضها عبر اكتساب مواقع انتخابية.
وعلى المستوى الشعبي أظهرت مبادرات عديدة واستطلاعات أجرتها مؤسسات إعلامية في الشارع ومع رواد مقاهي الشيشة أن الألمان وخصوصا الشباب لا ترهبهم تهديدات اليمين المتطرف. وإلى جانب المسيرات الشعبية التي خرجت في هاناو ومدن ألمانية عديدة لاستنكار الإرهاب اليميني المتطرف، ظهرت فعاليات ليبرالية وهيئات من المجتمع المدني في أوساط الجاليات المسلمة واليهودية، حيث سُجلت خلال احتفالات الكرنفال في دوسلدورف وكولونيا مبادرات عديدة لمناهضة معاداة السامية وكره الأجانب والإسلاموفوبيا وغيرها من موجات الكراهية التي يركبها اليمين المتطرف. وإذا لقيت هكذا مبادرات مزيدا من الزخم، يمكن أن تساعد في خلق تيار مجتمعي وشعبي واسع في المجتمع الألماني يدعم نمط حياة التعايش والاندماج ويحاصر التطرف بكل ضروبه وأشكاله.
منصف السليمي