1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

تحليل: كيف تؤثر حرب أوكرانيا على تحالفات دول عربية مع الغرب؟

Moncef Slimi Kommentarbild App
منصف السليمي
٢٤ فبراير ٢٠٢٣

يبدو أن الحرب في أوكرانيا شكلت اختبارا صعبا لعلاقات الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية بالحلفاء العرب، إذ كشفت ترددا وحذرا في مواقف دول عربية. فإلى أي حد يشكل ذلك تحوّلا في تحالفاتها الاستراتيجية؟

قرار السعودية في منظمة أوبك بلاس أحدث خيبة أمل كبيرة في البيت الأبيض، ماذا تبغي السعودية من ذلك؟صورة من: BANDAR ALGALOUD/REUTERS

حظيت القرارات الثلاثة المتعلقة بالغزو الروسي لأوكرانيا التي صوتت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال عام بتأييد واسع من قبل دول العالم، سواء في قرار الجمعية العامة الأول الصادر في بداية شهر مارس/ آذار 2022، أو في قرارها الثاني القاضي بإدانة الغزو واعتباره خرقا للقانون الدولي، ثم في قرارها الثالث حول رفض ضم روسيا لإقليمين في شرق أوكرانيا، وصولا إلى تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان.

وبدوره كان تصويت معظم الدول العربية لصالح الموقف الغربي المؤيد لأوكرانيا، إلا أن المراقبين يرصدون تفاوتا في مواقف الدول العربية في المسوغات التي قدمتها لتفسير مواقفها. فهنالك دول عربية أيدت أوكرانيا ودول أخرى تحفظت ودولة واحدة (سوريا) اعترضت.

بيد أن الدول العربية أظهرت تباينا في خطواتها ومواقفها وإشاراتها إزاء طرفي النزاع الروسي والأوكراني ومن ورائه الغربي. ويُطرح السؤال حول المدى الذي تساهم به حرب أوكرانيا في تقارب أو تباعد دول عربية حليفة للغرب من الولايات المتحدة وأوروبا أو في اتجاه معاكس من روسيا.

أزمة ثقة بين أمريكا وحلفائها العرب

يبدو أن حرب أوكرانيا شكلت اختبارا كبيرا لعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية بحلفائها العرب، إذ كشف ترددا وحذرا في مواقف دول عربية مثل السعودية ومصر والإمارات والجزائر والعراق والمغرب من الغزو الروسي لأوكرانيا.

وتعتبر المواقف الصريحة من الصراع، استثناءات، ويتعلق الأمر بسوريا حليفة روسيا، الدولة العربية الوحيدة التي صوتت ضد القرارات الثلاثة، وبالمقابل الكويت التي أيدت بقوة موقف أوكرانيا على خلفية تجربتها المريرة مع الغزو العراقي سنة 1990، كما أوضح الشيخ سالم الصباح وزير الخارجية الكويتي في لقاء بمؤتمر ميونخ للأمن العالمي.

ويلاحظ خميس الجهيناوي وزير الخارجية التونسي الأسبق ورئيس مجلس العلاقات الخارجية (هيئة غير حكومية تونسية للتفكير في القضايا الاستراتيجية) في حوار مع DW،  أن اعتبارات وحسابات خاصة بكل دولة عربية - على حدة - وجهت مواقفها من الأزمة الأوكرانية. ويضيف بأن المصالح المتبادلة بين روسيا وعدد من الدول العربية الحليفة للغرب، باتت تشكل ثقلا مؤثرا على مواقف هذه الأخيرة في قضايا دولية حسّاسة بالنسبة للغرب، على غرار غزو أوكرانيا.

وفي تحليله لأسباب التردد والحذر في مواقف دول عربية عديدة حليفة للغرب، من غزو أوكرانيا، يرى عمرو الحمزاوي أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، بأن أحد الأسباب الرئيسية لذلك يأتي من كونها واجهت "مأزقا في الموازنة" بين تحالفاتها مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وانتظاراته (الغرب) بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا من ناحية وحجم علاقاتها المتنامية مع روسيا.

تعرضت علاقات واشنطن بحلفائها العرب لأزمة ثقة، فهل يتم تجاوزها؟ صورة من: Mandel Ngan/Pool/REUTERS

وثمة سبب آخر، يتمثل في حدوث فراغ استراتيجي في علاقات الولايات المتحدة بحلفائها العرب، منذ إدارتي الرئيسين أوباما وترامب، اللتين وجهتا السياسة الخارجية الأمريكية نحو شرق آسيا، وكان ذلك على "حساب الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط التي بات يُنظر لها في واشنطن على أنها منطقة الحروب الخاسرة" كما يلاحظ الدكتور حمزاوي. ويضيف بأن هذا التحول تسبب في ارتباكات شديدة في قراءة الدول العربية للسياسة الأمريكية، وأثار بالتالي مخاوف لديها من تراجع واشنطن في تعهداتها الأمنية ناهيك عن ريبة الأطراف العربية وخصوصا الخليجية إزاء مسألة تطور المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي.

وجاءت الأزمة الأوكرانية باعتبارها تمظهرا للصراع بين روسيا والغرب، لتثير لدى الدول العربية تساؤلات حول جدوى انحيازها الكامل للغرب وخصوصا الولايات المتحدة التي يرون بأنها تخلت عن تعهداتها تجاههم.

كيف طوّرت روسيا علاقاتها العربية على حساب الغرب؟

في الوقت الذي تعرضت فيه علاقات واشنطن مع حلفائها العرب إلى اهتزاز الثقة، كانت العلاقات الروسية العربية تتوثق بشكل ملحوظ في الميادين الاقتصادية والعسكرية و قطاعات حساسة لشعوب المنطقة مثل الحبوب إذ تعتبر روسيا أول شريك عسكري وحليف تقليدي للجزائر منذ حقبة الحرب الباردة، وارتفعت صادرتها من السلاح بشكل ملحوظ لمصر وذلك لأول مرة منذ حرب 1973. و تلبي روسيا لدول حليفة للغرب  مثل السعودية ومصر مصالح لا تحصل عليها من الولايات المتحدة، وهنا يتعلق الأمر ببناء مفاعل نووي للسعودية وصفقات سلاح ضخمة مع مصر. وتعتمد السياحة في مصر وتونس والإمارات العربية المتحدة على ملايين الوافدين من سوق السياحة الروسية. وحتى المغرب الشريك الاستراتيجي للناتو من خارج الحلف، بات يقيم علاقات شراكة اقتصادية واسعة مع روسيا. وهنالك من يرى بأن روسيا بفضل علاقات استراتيجية متنامية باتت تستميل دول عربية حليفة للغرب وتؤثر بالتالي على مواقفها.

في مقال بعنوان "كيف يخسر الغرب الشرق الأوسط أمام بوتين" صدر بصحيفة "دي فيلت الألمانية" في عددها ليوم 12 يوليو تموز 2022، يرى الكاتب الصحفي الألماني دانييل- ديلان بويمر أن هنالك سببا آخر "للتفوق" الذي يحققه الروس على حساب الأمريكيين في الشرق الأوسط، ويتمثل في مجال الطاقة، حيث تنسق موسكو مع كل من الرياض وأبوظبي والجزائر في منظمة "أوبك بلاس"، وهو ما يجعل خطوات هذه الدول حذرة إزاء دعوات الغرب حلفائهم للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا.

وفي أوّج أزمة الطاقة التي سببتها حرب أوكرانيا، أثار قرار منظمة "أوبك بلاس" التي تقودها السعودية بخفض الإنتاج، أسابيع قليلة بعد زيارة الرئيس جو بايدن للرياض، غضبا في واشنطن. وجاء هذا الغضب على ضوء أرتفاع أسعار النفط نتيجة للقرار وما يمنحه لروسيا من أموال في السوق العالمية تفوق ما تخسره نتيجة العقوبات الأوروبية.

وفضلا عن فرضية الحسابات الظرفية المرتبطة إبانها بالانتخابات النصفية للكونغرس وفرضية مراهنة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على عودة الرئيس السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض، شكل القرار السعودي   خطوة غير مسبوقة في مسار العلاقات الأمريكية السعودية، التي تعتبر تاريخيا علاقات "غير قابلة للكسر" كما يصفها الكاتب الصحفي الكندي برانكو مارسيتيتش، في مقال نشره موقع مجلة السياسة الدولية والمجتمع "إي بي جي" IPG. ويرى بأن الموقف السعودي من حرب أوكرانيا، وضع العلاقات تحت وطأة ضغوط قصوى، تتجاوز ما شهدته إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وقضية مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي سنة 2018.

وفي الوقت الذي اعتمدت فيه أوروبا على واردات الغاز والنفط من الجزائر وليبيا، لسد جانب من العجز الذي سببه تراجع صادرات الطاقة الروسية، ظلت المخاوف في العواصم الأوروبية قائمة من مخاطر النفوذ الروسي في شمال أفريقيا على أمن الطاقة، وفق ما ورد في تقرير لحلف الناتو في نشرة "انسايدر" في مايو/ أيار 2022.

كما   يكتسي النشاط الروسي في المنطقة المغاربية طابعا مثيرا لأنظار المراقبين في الغرب، إذ أن روسيا التي تقيم علاقات تحالف تقليدي عسكري مع الجزائر، قامت في السنوات القليلة الأخيرة بتطوير شراكتها الاقتصادية مع المغرب، ما يمنحها أدوات تأثير وقدرات لجني مصالح أكبر من الجارين اللدودين. وقد كان لافتا للأنظار أن المغرب حليف واشنطن وأوروبا، لم يشارك في جلسة الأمم المتحدة للتصويت على القرار المتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا.

وكان المغرب وتونس البلدان الوحيدان من شمال أفريقيا، الذين شاركا في اجتماع التحالف الداعم لأوكرانيا الذي عقد في قاعدة رامشتاين الأمريكية جنوب ألمانيا، ونشرت تقارير متضاربة حول تسليم المغرب دبابات سوفيتية الصنع لأوكرانيا، وقد نفت مصادر اعلامية مغربية ذلك، بينما ذكرت مصادر اعلامية فرنسية بأن الأمر يتعلق بقطع غيار من الدبابات المذكورة.

كما أظهرت تطورات الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا والسودان ودول غرب ووسط أفريقيا، أبعاد نفوذ عسكري وأمني روسي متزايد عبر قواعد عسكرية أو مرتزقة الفاغنر، الأمر الذي أثّر على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، ففي عدد من دول جنوب الساحل والصحراء، حصلت انقلابات عسكرية وأقامت نخب عسكرية علاقات أوثق مع موسكو في الوقت الذي يتعرض فيه مثلا النفوذ التقليدي الفرنسي إلى تراجع ملحوظ. وتستعد موسكو لعقد قمة روسية أفريقية.

معارك أخلاقية وسياسية يخسرها الغرب؟

إبان انتفاضات الربيع العربي عندما تخلى الغرب عن حلفائه المقربين بالمنطقة مثل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك والرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، انتهج بوتين سياسة مغايرة حيث حشد قواته لحماية نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتم ذلك بتحالف مع النظام الإيراني وميلشيات شيعية لبنانية وعراقية موالية له. وهكذا تمكن هذا التحالف الروسي الإيراني السوري المناهض للولايات المتحدة وحلفائها السعوديين والإسرائيليين بالمنطقة، من سحق المعارضة السورية.

منصف السليمي، صحفي خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية

وفي ظل فشل انتفاضات "الربيع العربي" من مصر إلى سوريا إلى اليمن وصولا إلى مهده في تونس، تتشكل نظرة سلبية أخرى عن الغرب الذي تخلى هذه المرة عن الديمقراطيات الناشئة والقوى السياسية المشاركة فيها، لحساب حكام مستبدين جدد سيطروا من جديد على الحكم عبر انقلابات عسكرية أو عبر قوى الأمن وجماعات النظام القديم، وبدعم من قوى إقليمية وخصوصا خليجية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية.

ويعتقد الجهيناوي أن "الديمقراطية تعتبر من أهم ضحايا حرب أوكرانيا" بسبب انصراف اهتمامات الغرب لقضايا وأولويات أخرى ذات طابع أمني واستراتيجي، ليست بأية حال نشر قيم الحوكمة والديمقراطية وحقوق الإنسان. كما تساهم تداعيات حرب أوكرانيا في إضعاف ما تبقى من اهتمام الدول الأوروبية بدول الجنوب المتوسطي ودعم الديمقراطية فيها، لصالح اهتمامها بقضايا أمنية وملف الهجرة، ما يعني أولوية توجيه استراتيجيات سياسة الجوار الأوروبية نحو شرق أوروبا ومواجهة المخاطر والتهديد الروسي، إضافة لتخصيص اعتمادات مالية ضخمة لإعادة إعمار أوكرانيا. ويستنتج الجهيناوي بأن جوهر   الحوار الأوروبي المتوسطي "ضُرب في مقتل، وأن تداعيات ذلك سلبية على دول المنطقة العربية والأفريقية.

وفي ذات الوقت فإن الأوضاع الجديدة المترتبة عن حرب أوكرانيا، تكرس نفوذا متزايدا للدول المنتجة للطاقة في المنطقة، وهي في معظمها دول تهيمن فيها أنظمة استبدادية. كما يجد بعض الحكام العرب المستبدين في نظام بوتين أو الصين الشريك الذي يمكن إقامة علاقات اقتصادية أو عسكرية وثيقة معه دون "شروط معيارية" كحقوق الانسان والديمقراطية. ولكن معضلة الغرب لن تقف عند هذه الحدود، فقد أظهرت تداعيات حرب أوكرانيا، أن الدول الحليفة للغرب مثل مصر والسعودية والإمارات، باتت تتخذ مسافة من الولايات المتحدة الأمريكية في فترة صعبة من الصراع المتعدد الجبهات مع روسيا والصين.

خلال سنوات قليلة متّن الرئيس بوتنين علاقاته مع زعماء عرب على حساب الغرب، ما هو مقومات ذلك؟ صورة من: Mikhail Metzel/TASS/picture alliance

وتظهر هذه التطورات أن الثقة في الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة، لدى الحكم العرب والنخب المعارضة، تتبدد ليس فقط لاعتبارات المصالح مثل الأمن والتسلح والطاقة والمبادلات، بل أيضا على المستوى الأخلاقي. اذا لا تخفي نخب سياسية ومثقفين ونشطاء المجتمع المدني في الدول العربية استياءها مما يعتبرونه ازدواجية معايير عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان والشرعية الدولية.

يأتي ملف النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، في مقدمة المؤاخذات العربية و"الامتعاض" من السياسات الغربية وخصوصا الأمريكية، كما يقول خميس الجهيناوي وزير الخارجية التونسي الأسبق، موضحا أن عدم تحريك الولايات المتحدة، ساكنا عندما يتعلق الأمر بانتهاكات القانون الدولي في موضوع بناء المستوطنات الإسرائيلية، مقارنة بتحركها الحثيث والقوي في انتهاكات في قضايا أخرى لها فيها مصالح كبيرة، يضع مصداقيتها على المحك. ويضيف الجهيناوي: "لدى الدول العربية امتعاض من النظام الدولي سواء بسبب عدم احترام الشرعية الدولية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو في ملف مثل ليبيا حيث قام حلف الناتو بالهجوم عليها سنة 2011 دون العودة إلى مجلس الأمن الدولي".

وفي مقابل استناد الغرب في انتقاده للغزو الروسي لأوكرانيا، إلى كونه احتلالا وضمّا لأراضي دولة مستقلة وانتهاكا للقانون الدولي، تنظر الدول العربية إلى الأمر على أنه "ازدواجية معايير" في مقارنة الموقف الأمريكي من الوضع في منطقة الشرق الأوسط، حيث تحتل إسرائيل أراض عربية منذ عقود وتنتهك حقوق الشعب الفلسطيني على مستويات عديدة، كما يلاحظ حمزاوي، مشيرا بأن رد الفعل العربي حول هذه الازدواجية في المعايير والقيم لا تقتصر على المستوى الرسمي بل الشعبي بالخصوص.

وبالمقابل فإن الروس رغم علاقاتهم الوثيقة تاريخيا بإسرائيل، يبعثون منذ فترة طويلة إشارات "تفهم" لمواقف الدول العربية في هذا الملف، يلاحظ الجهيناوي الذي عمل سابقا سفيرا لبلاده في موسكو، موضحا أن روسيا "لديها تقاليد علاقات تقارب وتفهم مع الدول العربية، تعود إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، وقامت الفيدرالية الروسية منذ عقدين بتجديدها عبر إحداث آلية تشاور مع جامعة الدول العربية حول القضايا الإقليمية والدولية".

وفي الوقت الذي تسعى فيه موسكو لاستمالة مواقف العواصم العربية، تعرضت العلاقات الروسية الإسرائيلية منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا لاختبارات صعبة.

سياسة مستقلة عن الغرب أم هوامش مناورة محدودة؟

يرصد خبراء من تطورات الأزمة الأوكرانية، مؤشرات على وجود بداية تحوّل في ميزان القوى العالمي، رغم أن مخرجات الحرب ما تزال غير واضحة المعالم.

مؤشر أول: ظهور حالة شلل في مؤسسات النظام الدولي، مثل مجلس الأمن الدولي ومؤسسات التعاون متعددة الأطراف، نتيجة الاستقطاب الشديد واحتدام الصراع بين الغرب وروسيا، والتململ في مواقف الصين وأدوارها.

مؤشر ثان: توجه دول كانت تعتمد أساسا على القوة الناعمة المتمثلة في الاقتصاد للتأثير العالمي، مثل ألمانيا واليابان والصين، إلى إضافة أبعاد سياسية وعسكرية في قوتها، مما سيمنح أدوارها "توازنا أكثر" يستنتج مستشار الأمن القومي السابق في الهند، شيفشنكار مينون، في مقال له بمجلة فورين افيرز الأمريكية في عددها لشهر فبراير 2023.

مؤشر ثالث: أن عددا متزايدا من الدول العربية وعلى غرار دول عديدة في العالم، ينمو لديها شعور بالاستياء بسبب تركيز القوى الكبرى والمؤسسات الدولية أيضا اهتماماتها حول حرب أوكرانيا والمنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وبالمقابل فإن القوى الكبرى تصرف الانتباه عن قضايا ملحة وخطيرة مثل الديون وتداعيات جائحة كورونا والمناخ.

ألمانيا والهند.. تقارب في النظرة لحاجة العالم إلى نظام متعدد الأقطاب، اين موقع الدول العربية من ذلك؟ صورة من: Michael Kappeler/dpa/picture alliance

ويرصد خبراء بأن حرب أوكرانيا أيقظت نزعة عدم الانحياز لدى قوى غير غربية، وإن كانت بشكل مختلف. ففي ظل أزمة مديونية ثقيلة لدى أكثر من 50 دولة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في دول مثل سريلانكا وباكستان وتونس، يبدو البحث حثيثا عن بدائل.

لكن البحث عن الاستقلالية عن الغرب لا يعني، برأي خبراء، بالضرورة إحياء حركة عدم الانحياز التي قامت في السبعينيات كرد فعل على الثنائية القطبية في حقبة الحرب الباردة، بقدر ما تتجه الأمور نحو تعددية قطبية في النظام العالمي، وهي فكرة تجد أصداء واسعة في العالم، من ألمانيا كما عبر عن ذلك المستشار أولاف شولتس في مقال له صدر بمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في 5 ديسمبر/ كانون أول 2022 بعبارته الشهيرة "نقطة تحول عالمية" من أبرز سماتها اتجاه العالم نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب"، وبدورها ترى الهند في التحولات الجارية حاليا "فرصة تاريخية"، كما يقول مستشار الأمن القومي السابق شيفشنكار مينون.

في غضون ذلك تظهر حاليا نزعات لدى دول عديدة في العالم تبحث عن حلول لمشاكلها وبدائل جديدة ر لا تقوم على قواعد النظام العالمي السائد، لكن دون أن تتبلور إلى حد الآن، اتجاهاتها في شكل قوى جديدة منظمة. ففي العالم العربي، ورغم إقدام عدد من دول المنطقة مثل السعودية ومصر والإمارات والجزائر والمغرب، على اتخاذ قرارات سياسية تتسم بنوع من الاستقلالية عن الغرب: عن الولايات المتحدة بدرجة أولى ثم عن أوروبا، لا توجد مؤشرات واضحة على وجود نوع من التنسيق فيما بينها، بقدر ما تهيمن اعتبارات المصلحة الخاصة بكل دولة على حدة، كما يرى وزير الخارجية التونسي الأسبق.

وتتفاوت نظرة الخبراء حول اتجاهات سلوك الدول العربية في ظل متغيرات النظام العالمي، سواء فيما يتعلق بتحالفاتها مع الولايات المتحدة أو بشراكتها الاستراتيجية مع الدول الأوروبية.

إذ يرى حمزاوي أن بوادر تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب، يجعل الدول العربية تفكر في موازنة مصالحها وعلاقاتها مع القوى العالمية المختلفة مثل الصين وروسيا وأوروبا، وبالتالي خروجها من دائرة التحالف الأحادي الاتجاه مع الغرب، باتجاه البحث عن "مساحات حركة" بين القوى العالمية المتنافسة على النفوذ، ملاحظا بأن هذا النهج يشكل "استراتيجية جيدة" لجني مصالح ومكاسب أكبر من القوى المتنافسة على النفوذ.

وتعتبر الصين الشريك الاقتصادي الأول مع الدول الخليجية، ولكن رغم الخطوات التي أقدمت عليها السعودية باتجاه التقارب مع موسكو، وتنظيمها لمؤتمر قمة صينية عربية، إلا أن عمق ارتباط أمنها الإقليمي بالمظلة الأمريكية يجعل تلك الخطوات محدودة و"لا يمكن أن تذهب إلى مستوى التخلي عن تحالفها مع الولايات المتحدة واستبداله بحلف مع روسيا أو الصين"، يستنتج الجهيناوي، ويرى بأن الأمر يتعلق بهامش مناورة ورغبة من دول عربية كالسعودية ومصر في توجيه رسائل إلى الحليف الأمريكي ليأخذ بعين الاعتبارات انشغالاتها وقضايا ذات أهمية بالنسبة إليها.

بينما يذهب عالم السياسة والخبير في شؤون الشرق الأوسط مارك لينش من جامعة جورج واشنطن في تدوينة معلقا على القرار السعودي في "أوبك بلاس"، بأنه أصبح من الواضح الآن "أن المملكة العربية السعودية تقف بثبات على الجانب الآخر مما تعتبره واشنطن أهم خط فاصل في السياسة العالمية". والمقصود الجبهة بين روسيا من جهة وأوكرانيا وشركائها الغربيين وداعميها من جهة أخرى.

وتعتقد أولريك فرانك من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كما ورد في تغريدة لها على تويتر، أن إقدام السعودية ودول الخليج على تفادي إجراءات حلفائها الغربيين العقابية ضد روسيا، تكاد من خلاله (السعودية) تمكنت من إحداث "منعطف جيوسياسي" وفقًا للخبيرة.

وفي ظل الانقسامات وغياب مشاريع اندماج إقليمي للدول العربية وتعثر محاولات الاندماج في دوائر أقل نطاقا مثل النطاق المغاربي بالنسبة لدول شمال أفريقيا، باستثناء تجربة الاندماج بين دول الخليج العربية، من المرجح أن تستمر حاجة الدول العربية منفردة إلى تحالفات مع القوى الغربية لتأمين متطلبات استقرارها وأمنها الاستراتيجي، حتى وإن اكتست تلك التحالفات مفاهيم جديدة ومحاولات تأقلم مع التحولات التي يشهدها النظام العالمي.

منصف السليمي

 

منصف السليمي صحفي في مؤسسة DW الألمانية، خبير بالشؤون المغاربية
تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW