تحليل: ما أهداف إعادة النظر في الاستثمارات السعودية؟
٦ أغسطس ٢٠٢٤أعلن صندوق الاستثمارات السعودي، الذي يدير أموالا تقدر بأكثر من 900 مليار دولار، أنه وقع أوائل الشهر الجاري أغطس/ آب 2024 ست مذكرات تفاهم جديدة مع مؤسسات صينية رائدة للتعاون في مشاريع تصل قيمتها إلى 50 مليار دولار. وتشمل المشاريع قطاعات الزراعة والصناعة والإنشاءات والتجارة والتمويل والائتمان. وحسب الصندوق، الذي يُعتبر الأداة الرئيسية لتنفيذ خطط التنمية وتمويل مشاريعها الحيوية، فإن ذلك يأتي في إطار إعادة توجيه استثماراته كي تحقق أهداف "رؤية 2030" التي طرحها الأمير محمد بن سلمان لتنويع الاقتصاد السعودي المرتهن للنفط. ويتوافق ذلك أيضا مع كلام وزير المالية السعودي محمد الجدعان عندما قال خلال حضوره منتدى قطر الاقتصادي بالدوحة في شهر مايو/ أيار الماضي 2024 "إن الصدمات الاقتصادية من جائحة كورونا وصولا إلى الحرب في غزة تدفع السعودية إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية".
وأوضح الوزير بأن "منح الإصلاحات المزيد من الوقت يمكن أن يكون أفضل للاقتصاد السعودي"، على أساس السماح للقطاع الخاص بالنمو جنبا إلى جنب مع المشاريع الضخمة. وهنا أكد الجدعان على أهمية تمكين القطاع الخاص من بناء المصانع ومنشآت التصنيع ومقدمي الخدمات لدعم المشاريع التي تبينها الدولة، وفيما عدا ذلك ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الاستيراد والارتهان للخارج، حسب كلام المسؤول السعودي.
تقليص الاستثمار في بعض المشاريع
تدل المعطيات المتوفرة مؤخرا بأن من جملة ما تعنيه إعادة ترتيب الأولويات حتى الآن إعادة النظر في حجم وسرعة تمويل عدد من المشاريع المستقبلية الباهظة التكلفة والضعيفة الجدوى. ويبدو أن المسؤولين السعوديين لاحظوا صعوبة التمويل رغم ارتفاع عائدات النفط وخصخصة جزء من شركة أرامكو العملاقة وبيع سندات حكومية. وتقدر حصيلة الخصخصة وبيع السندات لوحدهما بنحو 50 مليار دولار. وحسب أكثر من مصدر، من بينها وكالة رويتر للأنباء، يجري العمل على إعادة هيكلة من شأنها التركيز على الاستثمارات التي تمنح فرصا أكبر للنجاح دون مزيد من التفاصيل حول ذلك. وربما يجد هذا الأمر تفسيره في تقليص الاستثمارات ببعض المشروعات وعلى رأسها مشروع "مدينة نيوم" العملاق لريادة الأعمال والصناعة والابتكار و مشروع "البحر الأحمر" للسياحة.
وتُعد "نيوم" المشروع الأكثر شهرة، والذي يتضمن بناء مدينة على امتداد 170 كيلومترا باسم "ذا لاين" تستوعب حسب الخطط مليون ساكن بحلول عام 2030 وتسعة ملايين بحلول عام 2045. غير أن وكالة "بلومبيرغ" للأنباء ذكرت في أبريل/ نيسان الماضي أنه في ظل التوقعات المعدلة سيعيش 300 ألف شخص فقط في المدينة بحلول نهاية العقد، وحتى ذلك الحين لن يتم تنفيذ سوى 2.5 كيلومترا من المشروع، هذا ولم تعلق المصادر السعودية المعنية على تقرير بلومبيرغ حتى الآن.
الاستفادة من تجارب الماضي
يعيد تقرير بلومبيرغ إلى الذاكرة مشروع مدينة الملك عبدالله الاقتصادية التي تم الإعلان عن إنشائها عام 2005 قرب مدينة جدة. فالمدينة التي كان من المفترض استيعابها لنحو مليوني ساكن بحلول عام 2035، لم يتجاوز عدد ساكنيها 7000 شخص حسب مصادر المدينة. كما أنها لم تجذب الاستثمارات المتوقعة. وترى صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في تقرير لها أن من أسباب الفشل في جذب الاستثمارات الخاصة عدم وجود بيئة استثمار "تشجع على المسائلة وتقاوم المحسوبية والفساد".
وعلى الرغم من التأكيد المتكرر من قبل السلطات السعودية المعنية على ضرورة تشجيع القطاع الخاص ليأخذ دوره الريادي في الاقتصاد فإن هذا الدور ما يزال دون التوقعات. ويدل على ذلك استمرار تركيز هذا القطاع على المشاريع السريعة الربح وضعيفة المخاطرة وتلك التي تعتمد على خدمات قطاع الدولة.
يبقى السؤال هنا ما الذي ستأتي به التوجهات الجديدة على صعيد تفعيل جهود جذب الاستثمارات الخاصة إلى المشاريع المطلوبة لتنويع الاقتصاد السعودي بعيدا عن هيمنة النفط؟
الصين وشمولية التعاون مع السعودية
على الصعيد الخارجي تعزز السعودية منذ بضع سنوات استثماراتها في دول شرق آسيوية وعلى رأسها الصين، كما توسع استثماراتها المشتركة مع الشركات الصينية في مختلف المجالات. وقد وقعت الشركات الصينية والسعودية خلال العامين الماضيين اتفاقيات استثمار بقيمة تزيد على 60 مليار دولار. وخلال زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية في ديسمبر 2022 وقع البلدان اتفاقية شراكة استراتيجية شامل تشمل التعاون في قطاعات الطاقة وتكنولوجيا المعلومات والخدمات السحابية والصناعات الطبية والإسكان والبناء.
وفي الوقت الذي لا تتوفر فيه معلومات دقيقة عن حجم الاستثمارات السعودية في الصين، فإن مصادر متطابقة تحدثت مؤخرا عن زيادة ملحوظة في هذه الاستثمارات وخاصة في مشاريع تشمل الطاقة والبنية التحتية والبتروكيماويات. ولعل أحد الأمثلة البارزة على ذلك مشروع "أرامكو" لبناء مجمع لتكرير النفط في مقاطعة لياونينغ الصينية بتكلفة تصل إلى نحو 10 مليارات دولار. ويدل حجم التبادل التجاري الذي تجاوز 100 مليار دولار خلال العام الماضي 2023 على شمولية وآفاق العلاقات الاقتصادية بين الطرفين. أما الصين فتستثمر في السعودية أكثر من أية دولة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ وصل حجم الاستثمارات الصينية في السعودية إلى 40 مليار دولار، أي نحو 20 بالمائة من مجمل استثمارات الصين في العالم العربي. وتُعد السعودية أكبر شريك تجاري للصين في العالم العربي وهي المصدر الأول للنفط إلى السوق الصينية.
الاستثمار السعودي في الغرب؟
في الوقت الذي تعيد فيه السعودية النظر في قائمة من استثماراتها وتتوجه نحو مزيد من الصفقات التجارية والاستثمارية مع الشركات الصينية، فإن المملكة لم توقع خلال الأعوام الثلاثة الماضية صفقات مع الولايات المتحدة أو مع دول غربية أخرى على غرار تلك التي وقعتها مع الصين. وفي الوقت الذي يركز فيه التعاون الصيني السعودي على المشاريع المشتركة التي تعزز فرص الإنتاج والصناعات التحويلية في كلا البلدين، فإن الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة على سبيل المثال يركز على الاستثمار في السندات الأمريكية وفي أسهم بنوك وشركات خدمية على رأسها بنك أوف أمريكا، سيتي كروب، ماريوت و ديزني. وذكرت وسائل إعلام مؤخرا أن المملكة قلصت استثماراتها في هذه السندات بنسبة 3 بالمائة أي ما يعادل 4 مليارات. وتعكس خطوة كهذه على ما يبدو التوجهات الجديدة لتنويع الاستثمارات وإعادة توجيهها في مسار جديد.