1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

تحليل: ملف الصحراء.. مناورات كيسنجر بين الحسن الثاني وبومدين

Moncef Slimi Kommentarbild App
منصف السليمي
٢٧ مايو ٢٠٢٣

أربع سنوات حاسمة في تاريخ المنطقة المغاربية، تصادف تولي هنري كيسنجر وزارة الخارجية الأمريكية. فكيف كان دوره في أحداث تاريخية شهدتها المنطقة وخصوصا نزاع الصحراء الغربية؟ محاولة للإجابة عن السؤال من خلال وثائق أمريكية.

الرباط كانت أول عاصمة عربية يزورها هنري كيسنجر بعد توليه وزارة الخارجية الأمريكية سنة 1973صورة من: /AP Photo/picture alliance

تبدو قصة هنري كيسنجر مع العالم العربي مثيرة فعلا، إذ جاء توليه لمنصبه كوزير للخارجية الأمريكية بأيام قليلة قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973 بين إسرائيل وجيرانها العرب. لكن علاقة الرجل بملفات المنطقة بدأت قبل سنوات، وعلى الأقل منذ توليه لمنصبه كمستشار للأمن القومي في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون سنة 1969.

وسيستهل كيسنجر أول جولة له بمنطقة الشرق الأوسط إثر حرب أكتوبر، من الرباط بحثا عن "مشورة" الملك الحسن الثاني حول نزاع الشرق الأوسط وسبل تسويته سلميا، ومن المفارقات أن كيسنجر سيجد في المنطقة المغاربية نُذر حرب أخرى على الأبواب.

إذ تكشف وثائق لوزارة الخارجية أو للمخابرات الأمريكية مصنفة سرية أو سرية للغاية، تم رفع السرية عنها بعد مرور 25 عاما أو أكثر، عن معلومات حسّاسة حول استراتيجية كيسنجر في إدارة أزمات المنطقة، وكيف يجري التعامل معها بشكل مواز.

فبعد ثلاثة أشهر من حرب اكتوبر، ستحتضن الرباط قمة عربية مهمة في مسار الصراع بين إسرائيل والدول العربية، وبموازاة ذلك كان النزاع حول إقليم الصحراء الغربية في عام 1974 قد بدأ يأخذ مداه، بداية بإعلان إسبانيا نيتها الانسحاب وصدور توصية من الأمم المتحدة في مايو/ أيار 1975 بشأن تقرير المصير في الإقليم، ثم بصدور قرار من محكمة العدل الدولية في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1975حول طبيعة العلاقة بين الإقليم والمملكة المغربية من جهة وموريتانيا من جهة ثانية، وصولا إلى تنظيم المغرب في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 المسيرة الخضراء التي ستشكل منعطفا في تاريخ النزاع حول الإقليم وخصوصا بين المغرب والجزائر.

فكيف كانت استراتيجية كيسنجر إزاء أزمة الصحراء إبان رئاسته للدبلوماسية الأمريكية (1973-1977)، وكيف كانت أدوار وتحركات اللاعبين الرئيسيين في هذا الملف إبانها، بدءا بملك المغرب الحسن الثاني و رئيس الجزائر هواري بومدين ووزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة ورئيس موريتانيا مختار ولد داده، وقادة إسبانيا -الفرنكوية والملكية- وفرنسا الدولتين الأوروبيتين الأكثر تأثيرا في مجريات هذا الصراع، وصولا إلى أدوار العقيد الليبي معمر القذافي ورئيسي تونس الحبيب بورقيبة والسنغال ليوبولد سيدار سنغور.

لعبة كيسنجر الدبلوماسية بين الحسن الثاني وبومدين

كيسنجر الحاصل لتوه على جائزة نوبل للسلام عن دوره في مفاوضات إنهاء الحرب بين بلاده وفيتنام، سيكون في اختبار صعب في مواجهة الحريق المشتعل في الشرق الأوسط.

مباشرة بعد أن وضعت حرب أكتوبر 1973 أوزارها، توجه كيسنجر في أول جولة له بالمنطقة بحثا عن تسوية سلمية للأزمة. وستكون الرباط المحطة الأولى في جولته، من أجل لقاء الملك الحسن الثاني وطلب مشورته حول سبل التوصل إلى تسوية شاملة بين إسرائيل وجيرانها العرب، كما يقول الملك الحسن الثاني في مذكراته "ذاكرة ملك"، مضيفا "وبقيت على اتصال دائم بكيسنجر".

طائرة مقاتلة إسرائيلية فوق سيناء يوم 13 اكتوبر 1973 بين إسرائيل وجيرانها العرب صورة من: picture alliance/AP Images

والحسن الثاني لم يكن فقط أحد اللاعبين الرئيسيين على رقعة الصراع الواسعة بين إسرائيل والدول العربية، فقد شارك جيشه في حرب 73 وكان في نفس الوقت صاحب مواقف ومبادرات مبكرة في الاتصالات بين الإسرائيليين وخصومهم من الفلسطينيين والقادة العرب، بل كان طرفا رئيسيا في تطورات ملف الصحراء الذي كان على صفيح ساخن.

في تقرير بيرنارد غويرتزمان موفد صحيفة "نيويورك تايمز" في جولة كيسنجر الشرق أوسطية، يقول في مقال له نشر بالصحيفة في عددها الصادر يوم السادس من نوفمير/ تشرين الأول 1973، أن كيسنجر أول وزير خارجية أمريكي يهودي يزور دولة عربية (المغرب) كان يبدو أثناء رحلته في الطائرة بمزاج هادئ، وعندما وصل إلى الرباط، التقى في البداية الملك الحسن الثاني وتناول معه العشاء في إقامة خاصة خارج العاصمة، ثم أقيم له حفل استقبال رسمي في يوم الغد بالقصر الملكي في الرباط.

وشملت جولة كيسنجر الأولى للمنطقة، دولا عربية "معتدلة" كما يصفها الأمريكيون، وهي تونس ومصر والأردن والسعودية، ولم تشمل الجزائر التي زارها بعد شهر، ليلتقي الرئيس هواري بومدين، الذي كان يوجد على الطرف الآخر في مشهد عربي منقسم بين دول "معتدلة" ودول "راديكالية" مصطفة مع الاتحاد السوفييتي ومناوئة للنفوذ الأمريكي والغربي.

وشاركت الجزائر في حرب 1973 بقوات٫ كما ساهمت في حملة حظر النفط التي نفذتها دول عربية لعدة أشهر ضد الولايات المتحدة ودول غربية داعمة لإسرائيل، بيد أن الجزائر كانت الدولة الوحيدة من بين الدول العربية المصنفة أمريكيا آنذاك بـ"راديكالية"، زارها كيسنجر وفي ثلاث مرات في أقل من عام واحد.

اتصالات كيسنجر ومحادثاته مع الحسن الثاني وهواري بومدين، كانت في بداياتها تركز على أزمة الشرق الأوسط، وكانت الرباط والجزائر في صلب جولات مكوكية قام بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق سنة 1974 إلى المنطقة، انصبت فيما يتعلق بالجزائر على إنهاء حظر البترول على الدول الغربية، وتمحورت في الرباط على ترتيب أجواء محادثات سرية بين إسرائيل ومصر.

لكن لقاءات كيسنجر واتصالاته مع القيادتين المغربية والجزائرية سيتزايد فيها منسوب الاهتمام بملف الصحراء الغربية، خصوصا عندما أعلنت إسبانيا سنة 1974 نيتها الانسحاب منها.

في أكثر من وثيقة للخارجية الأمريكية، ومنها مذكرة عن محادثات أجراها كيسنجر في ديسمبر/ كانون الأول 1974 مع عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائرية في نيويورك، يبدي كيسنجر "إعجابه" بكل من الرئيس الجزائري بومدين والسوري حافظ الأسد، "رغم أنها يسببان لي المتاعب" كما يقول كيسنجر.

ويُلاحظ أن إظهار الإعجاب بالشخصية المقابلة في المفاوضات أو الصراع، أسلوب خطابي يعتمده كيسنجر في مناسبات عديدة خصوصا عندما تكون محادثاته مع الطرف المقابل صعبة، سواء كان ذلك الطرف حليفا أم خصما.

ففي وثيقة للخارجية الأمريكية تتضمن بروتوكول اجتماع طارئ عقده كيسنجر في أكتوبر/ تشرين الأول 1975 بسفير المغرب في واشنطن عبد الهادي بوطالب، بناء على طلب هذا الأخير لتوضيح تطورات الوضع قبيل تنظيم المسيرة الخضراء، وكانت الاستخبارات الأمريكية قد أبلغت كيسنجر بأن المغرب يعد لعمل عسكري في الصحراء، يبدأ وزير الخارجية الأمريكي حديثه مع بوطالب بإطراء الملك الحسن الثاني والدور الذي يلعبه في الشرق الأوسط.

ويبدو أن اهتمام كيسنجر في محادثاته بالجوانب الشخصية مثل إطراء الزعماء العرب، كان أسلوبا يهدف من ورائه لاستمالة مخاطبه والتأثير عليه. كما كان كيسنجر يولي أهمية كبيرة للحالة الداخلية التي يمر بها الزعماء الذين يتفاوض معهم، معتمدا على تقارير الاستخبارات الأمريكية، مثلما تكشف وثيقة للخارجية الأمريكية، أشار فيها إلى وجود الرئيس بومدين تحت ضغوط داخلية لا تسمح له بقبول تنازلات أو هزيمة ضد الجيش المغربي، في حالة وقوع مواجهة عسكرية إثر انسحاب إسبانيا. كما كان كيسنجر مهتما بالظروف التي اتخذ فيها الملك الحسن الثاني قراره بتنظيم المسيرة الخضراء، وكيف كان قراره دون استشارة قادة الجيش أو قادة الأحزاب، إضافة لمزاج "عصبي" لدى الحسن الثاني كما دار في حديث بين كيسنجر ووزير خارجية إسبانيا، وفق مذكرة محادثات بينهما.

في 13 ديسمبر كانون أول 1973 الرئيس هواري بومدين في لقاء مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر بالجزائرصورة من: Michel Lipchitz/AP Photo/picture alliance

أما فيما يتعلق بالمضمون فقد كانت محادثاته في تلك الفترة مع القيادتين المغربية والجزائرية تتسم بصعوبة كبيرة، خصوصا ملف الصحراء، كما تفيد وثائق عديدة رُفعت عنها السرية.

كيسنجر و "المسيرة الخضراء"

عندما أعلنت اسبانيا نيتها الإنسحاب من مستعمرتها الصحراء الغربية وتنيظم استفتاء لتقرير مصير الإقليم، واجه كيسنجر صعوبات كبيرة في محادثاته مع كل من الرباط والجزائر ومدريد، حول مستقبل إدارة الإقليم. و مما زاد في تعقيدات الوضع بالنسبة للجانب الأمريكي التذبذب في موقف إسبانيا وتأرجحها بين المغرب والجزائر، ناهيك عن الحالة الانتقالية التي كانت تجتازها البلاد بسقوط نظام الجنرال فرانكو وتولي الملك خوان كارلوس للحكم.

وتفيد وثائق أمريكية، بأن مهندس الدبلوماسية الأمريكية واجه سنة 1975 صعوبات كبيرة في التعامل مع ملف الصحراء. في مرحلة أولى كان كيسنجر يأمل بأن تشكل توصية الأمم المتحدة في مايو/ أيار 1975 بشأن تقرير المصير في إقليم الصحراء، إطارا "ملائما" لتحديد مستقبل الإقليم، الذي احتدم النزاع حوله بين المغرب وجبهة البوليساريو التي تأسست في مايو/ أيار سنة 1973 بدعم في البداية من الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، ثم الجزائر، كما كانت موريتانيا معنية جغرافيا وقبليا بالنزاع.

وأبدى الرئيس بومدين على هامش القمة العربية التي انعقدت سنة 1974 في الرباط، بأن "الجزائر لا يمكن أن تتخلى عن مبادئها السياسية وحقها في إعلان مبدأ تقرير المصير، دون المساس بموقفها النهائي من مستقبل المنطقة، سواء أصبحت مغربية أو موريتانية، سواء ذهب جزء منها إلى المغرب وآخر إلى موريتانيا، الأمر المهم بالنسبة لنا هو أن تصبح الصحراء عربية ومسلمة مرة أخرى".

وفي تحليل لوثيقة للمخابرات الأمريكية بتاريخ 6 سبتمبر 1974، حول الموقف الجزائري من تطورات ملف الصحراء في تلك الفترة، تقول الوثيقة إنه "رغم إعلان وزير الخارجية بوتفليقة  في يوليو تموز 1974 عن تأييد بلاده لإتفاق مغربي إسباني بنقل السيادة على الصحراء من إسبانيا إلى الدولتين، فإن الموقف الجزائري غير واضح، رغم تأكيد الحسن الثاني بأنه لا توجد الآن مشاكل مع الجزائر".

نظم المغرب المسيرة الخضراء بتاريخ 6 نوفمبر تشرين ثاني 1975صورة من: picture alliance/UPI

ويُستنتج من قراءة وثائق أمريكية بأن رد فعل الجزائر كان متراوحا بين المناورة الدبلوماسية لانتزاع اعتراف مغربي بسيادة الجزائر على تيندوف والصحراء الشرقية عبر مصادقة نهائية على معاهدة افران الموقعة سنة 1969، وبين الرغبة في الانتقام من المغرب عن حرب الرمال 1963. والتوجهان كانا موجودين إبانها لدى جناحين في الحكم بالجزائر.

وتقول وثيقة للمخابرات الأمريكية رفعت لكسينجر في 8 نوفمبر تشرين ثاني 1975، بأن "الرئيس بومدين يتعرض الآن لبعض الضغوط الداخلية وقد وضع هيبته على المحك". وتضيف الوثيقة بأن بومدين "قد يعرض نفسه للنقد الداخلي إذا تراجع عسكريا أمام الحسن الثاني. ومن ناحية أخرى، من شأن تحقيق نتيجة ناجحة للجزائر أن يقوي بومدين في الداخل ويعزز أوراق الاعتماد الدولية للجزائر".

وسيكشف قرار المغرب بتنظيم المسيرة الخضراء، سيكشف أبعاد جديدة في الموقف الجزائري من النزاع.

وكان المغرب قد فاجأ حلفاءه الأمريكيين بطلب استشارة من محكمة العدل الدولية في لاهاي، حول ما إذا كان الإقليم قبل الحماية (1884) ثم الاحتلال الإسباني (1958)، قد كان "أرض خلاء"، وما طبيعة العلاقة التي كانت تربط سكان الإقليم بالمملكة المغربية؟ وأدى طلب المغرب الذي وجهته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1974 لمحكمة العدل الدولية إلى تأجيل الانسحاب الإسباني حتى صدور رأي استشاري من المحكمة، في منتصف أكتوبر/ تشرين أول 1975.

وفي غضون ذلك كانت الأوضاع الميدانية تتسم باحتقان كبير وبدايات الاشتباكات المسلحة على الأرض. ففي بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1975، توصل كيسنجر بتقرير من المخابرات الأمريكية يفيد بأن المغرب يستعد للقيام بتدخل عسكري، وكان ذلك يعني مواجهات عسكرية متعددة الجبهات، من جهة مع الجيش الإسباني الذي لم يكن قد انسحب بعد من الإقليم، ومن جهة أخرى مع مسلحي جبهة البوليساريو والجيش الجزائري الذي كان يتمركز في مواقع متاخمة للإقليم الصحراوي.

ففي الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول 1975، بعث كيسنجر عبر السفارة الأمريكية في الرباط، برقية عاجلة للملك الحسن الثاني يعرب فيها عن قلقه من تقارير توصل بها تفيد بأن المغرب يستعد لـ "عمل عسكري وشيك في الصحراء الإسبانية، يمكن أن يؤدي إلى أضرار عسكرية وسياسية شديدة للمغرب".

وفي برقيته يتوجه كيسنجر بـ"نصيحة قوية" للملك الحسن الثاني بالتراجع عن هكذا خطوة، مذكرا "بسعينا دائمًا إلى أن نكون مساعدين حيثما أمكننا دون أن نسعى لأن نصبح طرفًا في هذا النزاع. سنواصل القيام بذلك". مؤكدا أنه سيقابل وزير الخارجية الإسباني بيدرو كورتينا ويبحث معه عن "حل مرض للطرفين". وهو ما تؤكده وثيقة مؤرخة بنفس التاريخ في شكل مذكرة محادثات بين الوزيرين كيسنجر وكورتينا، يؤكد فيها كيسنجر: "لدينا بعض المعلومات بخصوص هجوم مغربي محتمل في الصحراء. أريدك أن تعرف أننا قد حثثنا ملك المغرب على عدم القيام بذلك، أي ألا يفعل أي شيء بتهور. لقد حذرناه منه وحثثناه على التفاوض كما أحثك على التفاوض".

وكان رد الوزير الإسباني "نحن مستعدون للقيام بذلك، وقلنا إننا سنفعل ذلك. ومع ذلك، من المهم الحفاظ على شكل الاستفتاء على تقرير المصير مع ضمانات للتفاوض وإرضاء الأطراف. تقرير المصير لا يعني الاستقلال، رغم أن ذلك أحد الخيارات المدرجة لمنحه المصداقية، لكن ما سيُطلب من سكان المنطقة القيام به هو إظهار تفضيلهم إما للمغرب أو لموريتانيا". ثم يؤكد كسينجر: "نحن مستعدون لاستخدام نفوذنا في المفاوضات".

ويبدي كورتينا قلقه قائلا: "حسب الأنباء لدينا فإن الهجوم المغربي لن يكون حصريا على أراضي الصحراء ولكن أيضا ضد الجزائر..". وتكشف الوثيقة أن كيسنجر وكورتينا كانا يتوقعان خسائر عسكرية كبيرة للجيش المغربي، لكنهما كانا متفقين على تفادي سيناريو وقوع مواجهة عسكرية بين الجيشين المغربي والإسباني، كما أشار الوزير الإسباني إلى أن ما يجعل الوضع معقد جدا في الإقليم سواء من ناحية عسكرية أو في حالة تنظيم إستفتاء، هو "تواجد سكان من الجزائر وموريتانيا في المنطقة وهذا يعقد المشكلة" كما يقول كورتينا.

منصف السليمي، صحفي خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية

ويبدو أن تقارير المخابرات الأمريكية والإسبانية التي كانت تحذر من هجوم عسكري مغربي "وشيك"، كانت مستندة إلى معلومات ميدانية عن استعدادات مغربية لتنظيم المسيرة الخضراء، رغم ما أحيط به قرار الملك الحسن الثاني من سرية في بدايات شهر أكتوبر. ويذكر الحسن الثاني في مذكراته "ذاكرة ملك" بأنه أحاط تنظيم المسيرة الخضراء بالسرية حتى على دوائر القرار المغربي، وأنه كلف الحكومة بإعداد المؤونة لشهر رمضان بشكل إضافي لمواجهة نقص المحاصيل الزراعية في ذلك العام. إذ أخبر الملك فقط ثلاثة من كبار قادة الجيش. وبقي الخبر في طي الكتمان لمدة أسبوعين، وقبل شهر من انطلاق المسيرة تم إخبار أعضاء الحكومة وعمال الأقاليم، وبدأ تسجيل المتطوعين.

ومباشرة بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1975، أعلن الملك قراره بتنظيم المسيرة، وتضمن قرار المحكمة إقرارها بوجود علاقة بيعة قانونية بين سكان الصحراء وملك المغرب قبل استعمار إسبانيا للإقليم وكذلك وجود علاقة مع موريتانيا، وأوصت المحكمة بتقرير المصير في الإقليم.

وفي السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني أعطى الملك إشارة إنطلاق المسيرة من أغادير باتجاه سيدي إفني وصولا إلى العيون، بمشاركة 350 ألف شخص حاملين للرايات المغربية ومصاحف القرآن، في شكل مسيرة سلمية و "دون حرب من أجل استرجاع المغرب أراضيه في الصحراء المغربية" كما ورد في خطاب الملك الحسن الثاني.

لكن مساعي كيسنجر لثني المغرب عن تنظيم المسيرة الخضراء ستسمر بشكل حثيث وتحت وطأة ضغوط إسبانية و"تهديد" جزائري، كما تكشف وثائق أمريكية.

في 19 اكتوبر عشية اجتماع لمجلس الأمن الدولي بشأن مستقبل الوضع بالصحراء الغربية، وجه كيسنجر رسالة للحسن الثاني يعرب فيها عن إرتياحه للرسالة التي بلغته عبر السفير عبد الهادي بوطالب بأن "المغرب لا يفكر في القيام بعمل عسكري". لكنه يشدد على ضرورة توخي نهج "الوسائل الدبلوماسية لتسوية النزاع في ضوء قرار محكمة العدل الدولية ولجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، وينصح كيسنجر الحسن الثاني "بإرجاء خطط تنظيم المسيرة ريثما يتم التوصل إلى تسوية من شأنها تجنب المواجهة العسكرية والسياسية".

وفي وثيقتين مؤرختين في 26 اكتوبر و6 نوفمبر، يظهر الضغط الذي مارسته الجزائر على واشنطن والدول الأعضاء في مجلس الأمن لثني المغرب عن تنظيم المسيرة، وكيف وصل ضغط الرئيس بومدين إلى مستوى "التهديد غير الصريح"، كما تكشف مذكرة من السفارة الأمريكية في الجزائر عن فحوى لقاء عقده الرئيس الجزائري مع سفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: "قدم بومدين ما يبدو إلى حد كبير وكأنه إنذار نهائي لمجلس الأمن لإخراج المغاربة من الصحراء. لا يوجه أي تهديدات صريحة ولكنه يشير إلى أن الجزائريين سوف يقومون بعمل عسكري إذا لم يتم فعل شيء ما". وبحسب الوثيقة: "كان بومدين مهذبًا ولكنه خطير.. وطلب من أعضاء مجلس الأمن دعوة الحسن إلى وقف المسيرة الخضراء.. وإلا فإن الوضع في المنطقة سيتدهور بسرعة". وخاطب بومدين السفير الأمريكي قائلا: "أريدك أن تسأل الدكتور أين هو. أين دكتور كيسنجر؟ لا شيء يمكنك قوله لي سيقنعني بأن الولايات المتحدة لا تستطيع إيقاف هذه القضية على الفور. كل ما عليك فعله هو إرسال رسالة إلى الحسن تقول فيها توقف وسيتوقف دون اقتباس".

وفي تعليق السفير الأمريكي على كلام بومدين: "بينما لم يوجه بومدين أي تهديدات صريحة، فإن ما قاله بدا إلى حد كبير وكأنه إنذار هادئ. قارنوا الملاحظات مع السفير الفرنسي ولدينا انطباع من تصريحات بومدين أنه إذا لم يكن هناك أي إجراء قريبًا لإخراج الحسن (الثاني) من الصحراء، فإن الجزائريين سيشركون أنفسهم بشكل مباشر، أي عسكريًا، في هذه القضية. وتشير الوثيقة إلى أن الجزائريين "نشروا قوات كبيرة في المناطق الحدودية وهم في وضع يسمح لهم بالتحرك ضد المغرب".

وفي وثيقة أخرى قال كيسنجر بأنه كان من الصعب عليه إقناع الجزائريين بأن تحرك المغرب لم يكن بناء على ضوء أخضر أمريكي، لاسيما وأن في المغرب قواعد عسكرية أمريكية ويربطه تحالف قوي مع واشنطن.

لاعبون أوروبيون في رمال الصحراء

وعل الجبهة الأخرى كانت اتصالات كيسنجر متواصلة مع الجانبين المغربي والإسباني، في ضوء تكليف مجلس الأمن الدولي لأمين عام الأمم المتحدة النمساوي كورت فالدهايم بإجراء اتصالات مع الأطراف المعنية بالنزاع من أجل إيجاد تسوية سلمية. بينما كانت مدريد ومراكش تشهد اجتماعات مكثفة بين حكومتي إسبانيا والمغرب.

وفي "ذاكرة ملك" يؤكد الملك الحسن الثاني أن كسينجر كان أول مبعوث يستقبله بمناسبة المسيرة الخضراء سنة 1975. ويضيف: "لقد كان الرئيس الأمريكي (نيكسون) يريد أن يعرف ماذا كان سيحدث بيننا وبين الإسبان".

وحسب الوثيقة المتعلقة باجتماع الرئيس الجزائري في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني مع سفراء الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فإن بومدين قال إنه: "لم يعول على البريطانيين كثيرًا". أما بالنسبة للفرنسيين، فقد كان "يعرف جيدًا دورهم. لقد مارسوا ضغوطًا كبيرة على إسبانيا للإستسلام للمغرب" وبأنه لم يكن يتوقع منهم الكثير.

فبعد أسبوع واحد من المسيرة الخضراء، وبينما كان الجنرال فرانكو على فراش الموت، وقعت إسبانيا مع المغرب ومورتيانيا في الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1975، اتفاق مدريد الذي أنهى الاستعمار الإسباني للصحراء الغربية، وبمقتضاه تقاسم المغرب وموريتانيا الإقليم.

في نهاية الثمانينات أنهى المغرب تشييد الجدار الرملي العازل في الصحراء الغربية صورة من: Getty Images/AFP/P. Hertzog

وقوبل اتفاق مدريد برفض جزائري، سيتطور سنة 1976 إلى مواجهات عسكرية مباشرة  في الصحراء بين المغرب ومسلحي جبهة البوليساريو مدعومين من الجزائر، كما تعرضت موريتانيا سنة 1977 لهجوم من قوات جبهة البوليساريو، وبعد عام واحد سيتعرض نظام الرئيس مختار ولد داده إلى انقلاب عسكري، وذلك بعد ثلاثة أعوام من توقيعه لاتفاق مدريد وتقاسم الصحراء مع المغرب.

كما تفيد وثيقة أمريكية بأن بوتفليقة أبدى لكسينجر غضبه من موقف الرئيسين التونسي الحبيب بورقيبة والسينغالي ليبولد سيدار سنغور لأنها لعبا دورا في حث الرئيس جيسكار ديستان على التدخل عسكريا لدعم موريتانيا.

وبموازاة الصراع المسلح احتدمت المواجهة الديبلوماسية بين الجزائر والمغرب على الأصعدة الإقليمية والدولية، وفي فيبراير 1976 أعلنت جبهة البوليساريو من جانبها عن تأسيس "الجمهورية العربية الصحراوية" واتخذت من مخيمات تيندوف في جنوب غرب الجزائر مقرا لها. وامتد الصراع المسلح في الصحراء من منتصف السبعينات لسنوات، حتى التوصل سنة 1991 إلى وقف لإطلاق النار وإعلان الأمم المتحدة خطتها بتنظيم استفتاء لتقرير المصير.

وبرأي وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة فإنه "في عام 1975 كان الرئيس الفرنسي، جيسكار ديستان، ووزير الخارجية الأمريكي، هنري كيسنجر، يريدان أن يعاقبا بومدين وخاصة بعد تأميمه للنفط، وديستان يكره الجزائر وكان يتحاشى أن يحتك بالشعب الجزائري وحكومتة. فإذا ربطنا كل تلك الأمور مع بعضها البعض عرفنا لماذا بدأت مشكلة الصحراء الغربية".

في حوار له نشر في صحيفة "القدس العربي" في عددها يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 يضيف لعمامرة: "كانت لديهم حسابات دقيقة. كيسنجر ظن أن الجزائر مدعومة من الاتحاد السوفييتي. حاولوا آنذاك تغيير النظام. بخلق حركات انفصالية، لكن هذه المحاولة لم تنجح فتم فتح ملف الصحراء الغربية قناعة منهم أن الجزائر انطلاقا من مبادئها لن تتخلى عن دعم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. كان يريد للصحراء أن تكون مستنقعا تقع فيه الجزائر ولا تستطيع الخروج منه، والهدف هو إضعاف الجزائر من جهة وتمتين علاقات فرنسا وأمريكا بالمغرب كي يصبح مطواعا لكل ما تريده فرنسا أو أمريكا".

"بيسماركية جزائرية" في مواجهة "حليف الغرب التقليدي"

منذ استقلالها، وخصوصا بعدما استقر الحكم بيد الرئيس الراحل هواري بومدين، سعت الجزائر إلى نهج سياسة خارجية مؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي، واتسع هذا التأثير في عقد السبعينيات على الصعيد الإفريقي وخصوصا في نطاق منظمة عدم الإنحياز، حيث كانت الجزائر من المبادرين بالدعوة لإقامة نظام إقتصادي عالمي جديد كبديل عن نظام القطبية الثنائية بين المعسكرين الشرقي والغربي. وتنامى دور الجزائر بالخصوص إثر أزمة النفط العالمية سنة 1973، كواحدة من أعمدة الدول المنتجة للبترول.

ويرى بعض المحللين بأن نشأة فكرة "الجزائر كقوة إقليمية" ترتبط تاريخيا بتوجهات الرئيس الراحل بومدين ذات النزعة البيسماركية (نسبة إلى بيسمارك الألماني)، وبأن الجزائر كانت تسعى لتكون قوة مستقلة حتى عن المعسكر الإشتراكي ورفضت في السبعينيات من القرن الماضي إقامة قواعد عسكرية سوفياتية على أراضيها. ولذلك كان بومدين يحاول إظهار تمايزه أيديولوجيا عن الاشتراكية السوفياتية عبر دعوته إلى "اشتراكية إسلامية". وعلى مستوى العلاقات الدولية حافظ القادة الجزائريون في كل مراحل تطور دولة الجزائر المستقلة على علاقات خلفية متينة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، سواء كمزود أساسي للشركاء الغربيين بالبترول والغاز أو اعتماد الاقتصاد على التكنولوجيا الغربية، إضافة للروابط السياسية والثقافية وخصوصا بفرنسا.

الرئيس ريتشارد نيكسون مستقبلا وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بحضور وزير الخارجية هنري كيسنجر في مقر الأمم المتحدة بنيويورك سنة 1974صورة من: Imago/ZUMA/Keystone

وفي بدايات السبعينيات وقبل أن تشهد العلاقات الجزائرية السوفياتية نموا كبيرا، تكشف وثائق لوزارة الخارجية الأمريكية للفترة 1974- 1976 رفعت عنها السرية بعد مرور 30 عاما، تتضمن فحوى محادثات بين كيسنجر مع الرئيس بومدين ووزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة، وتفيد بأن كيسنجر الذي لم يشجع الملك الحسن الثاني على المضي في قراره تنظيم المسيرة الخضراء في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1975، أقرّ لبومدين في اجتماعه معه في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1975 بأن الجزائر ستكون "القوة المهيمنة" في شمال أفريقيا، لكن هذا السيناريو اصطدم بمتغيرات جيوسياسية أجهضته، وتتمثل في ثلاث تطورات حاسمة:

التطور الأول: المسار الذي تطور به الصراع حول الصحراء الغربية وتكريس المغرب نفوذه على الإقليم معتمدا على تحالفاته مع القوى الغربية.

التطور الثاني: سقوط نظام الجنرال فرانكو وانتصار الديمقراطية في إسبانيا، والتي ستتحول بعد سنوات قليلة إلى أهم حليف استراتيجي للولايات المتحدة في غرب حوض البحر الأبيض المتوسط، وبها أكبر قواعد عسكرية لحلف الناتو في المنطقة.

التطور الثالث: شكلت نتائج حرب اكتوبر 1973 ودخول مصر في مفاوضات سرية مع إسرائيل عبر وساطة مغربية، منعطفا في تشكل تحالفات جديدة بالمنطقة بين أنظمة عربية معتدلة حليفة للغرب وتربطها علاقات مع إسرائيل. بينما ستتجه الجزائر التي لعبت دور داعم أساسي للجيش المصري في حرب 1973 في محور مضاد، وخصوصا إثر توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل سنة 1978، حيث أعقبها إعلان الزعيم الليبي الراحل العقيد معمر القذافي عن تشكيل ما يسمى بـ"جبهة الصمود والتصدي" التي ضمت سوريا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية واليمن الجنوبي إضافة للجزائر وليبيا.

لكن بالمقابل لا يبدو أن المغرب حصل على كل الدعم الذي كان ينتظره من الغرب. فمع تسليم كيسنجر مهامه لخلفه في إدارة الرئيس جيمي كارتر، بدأت علاقات واشنطن بالجزائر تشهد تحسنا، وأعلنت الولايات المتحدة إغلاق قواعدها العسكرية في المغرب بعد أكثر من ثلاثة عقود على الحرب العالمية الثانية.

وفي "ذاكرة ملك" يصف الملك الحسن الثاني طبيعة علاقة بلاده بحلفائها الغربيين إبان حقبة الحرب الباردة، بأن الغرب أشبه بناد يلتقي أعضاؤه بداخله دون التزامات مؤكدة مع حلفائهم، بينما يحصل حلفاء المعسكر الإشتراكي على الدعم العسكري والمالي الموثوق بحكم علاقتهم الوثيقة بالاتحاد السوفييتي.

ويُستفاد من المعلومات التي تكشف عنها الوثائق الأمريكية وسياقات الأحداث، بأن كيسنجر كان ذلك اللاعب الداهية الذي يحسن اللعب على تناقضات الخصوم والحلفاء من أجل تحقيق أهداف استراتيجيته من خلال ملفات ومجالات أوسع وصراعات ذات أبعاد أشمل، ومن أبرزها الصراع مع الاتحاد السوفييتي واحتواء الصين. ولم تكن العلاقة بين المغرب والجزائر ونزاع الصحراء الغربية، سوى قطعة صغيرة من رقعة شطرنج كبيرة تشمل الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية ودول عدم الانحياز.

منصف السليمي

 

منصف السليمي صحفي في مؤسسة DW الألمانية، خبير بالشؤون المغاربية
تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد
تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW