تكتيكات بوتين بين مماطلة الأمريكيين ومراوغة الأوروبيين
٢٤ مايو ٢٠٢٥
رغم زخم دبلوماسي غير مسبوق برعاية أمريكية، لا تزال المفاوضات الهادفة لإنهاء الحرب في أوكرانيا تراوح مكانها، يطبعها تمسّك كلّ طرف بخطوطه الحمراء غير المقبولة لدى الطرف الآخر. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوضح أن بلاده سوف "تقترح" على كييف العمل على "مذكّرة"، في خطوة مسبقة اعتبرها أساسية "لاتفاق سلام محتمل مستقبلا". فيما رد نظيره فولوديمير زيلينسكي بالقول إن موسكو تسعى لـ"كسب الوقت بغية مواصلة حربها واحتلالها" رغم مرور ثلاث سنوات من غزوها للأراضي الأوكرانية في حرب مدمرة أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين من كلا البلدين.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعد خلال حملته الانتخابية بإنهاء هذه الحرب "خلال 24 ساعة"، بل وذهب للقول في أكثر من مناسبة، إنه لو كان رئيسا حينها لما سمح أصلا باندلاعها.
وفي آخر فصل من فصول جهود البيت الأبيض الدبلوماسية (غير المجدية لحد الآن) أجرى ترامب وبوتين مكالمة هاتفية (19 مايو/ أيار 2025) بهدف "وقف حمام الدم" في أوكرانيا، على حد تعبير الرئيس الأمريكي، بعد محادثات غير مثمرة في اسطنبول بين كييف وموسكو. وعقب المكالمة أوضح دونالد ترامب أن موسكو وكييف "ستباشران فورا المفاوضات بهدف التوصّل إلى هدنة"، دون تقديم جدول زمني بهذا الشأن. وعُلقت آمال كبيرة على هذه المكالمة التي لم تسفر عن أي تقدم حاسم، ما دفع كييف وعواصم غربية أخرى لاتهام بوتين بالمماطلة.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "لا فانغوارديا" الإسبانية (21 أيار/مايو 2025) معلقة على هذه المكالمة "قال دونالد ترامب إنه سينهي حرب أوكرانيا في غضون 24 ساعة، لكن بعد أربعة أشهر ما زال الوضع كما كان. الرئيس الأمريكي اتصل بفلاديمير بوتين، ولكن هذه الخطوة لم تُسفر عن أي شيء. لم يتم التوصل حتى إلى هدنة 30 يومًا، كما اقترح زيلينسكي. بوتين لعب معه (ترامب) كما شاء ولم يتعهد بأي شيء، بينما استمر في قصف آخر المواقع في دونباس. كان ترامب مخيبًا للآمال، لأنه كان يعتقد أنه يسيطر على سير المحادثات. لكن عقل رئيس جهاز المخابرات السابق (بوتين) أكثر تعقيدًا بكثير من عقل مليونير يستمد إلهامه السياسي من برامج الواقع التلفزيونية. الرئيس الأمريكي هو مفاوض ماهر في عالم الأعمال، لا يتردد في تهديد الشركاء والأعداء للحصول على مكاسب. لكن في شخص فلادمير بوتين يواجه متلاعبًا يريد أن يقدم نفسه للعالم كـ "قيصر إمبريالي" جديد. يحاول ترامب إقناع بوتين بأن إعادة بناء أوكرانيا يمكن أن يكون صفقة كبيرة للجميع، لكن الزعيم الروسي لا يهتم بالمال كثيرًا. هو يريد استعادة الفخر الوطني، بعد الإهانة التي تعرض لها بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكيك البلاد. وبالتالي، سيكون من الصعب جدًا التوصل إلى تسوية متوازنة".
تصعيد ميداني متبادل للضغط على المفاوضات
تزامنا مع تواصل الجهود الدبلوماسية تشن روسيا وأوكرانيا هجمات متبادلة على طول خطوط جبهات القتال في الغالب بواسطة الطائرات المسيرة. ولا يمر يوم دون أن يعلن أحد الطرفين إسقاط العشرات من هذه المسيرات وأحيانا المئات. وتمكن الأوكرانيون أكثر من مرة من تعطيل حركة الطيران في العاصمة الروسية موسكو. وتضررت بشكل خاص أكبر مطارات روسيا، وهي مطار شيريميتيفو، إضافة إلى مطاري دوموديدوفو وجوكوفسكي. ويسعى الجيش الأوكراني من خلال محاولاته هذه إلى الضغط على القوّات الروسية بهدف دفع موسكو إلى تأمين حدودها بشكل أفضل وسحب جنودها من الجبهة. من جهته، أعلن الجيش الروسي الذي يحتلّ 20 % من الأراضي الأوكرانية عن تقدّم قوّاته في الأيام الأخيرة في منطقة دونيتسك (شرق) حيث تدور أكثر المعارك ضراوة وحيث يتراجع الجيش الأوكراني. إلا أن القوات لم تحرز مع ذلك إلا مكاسب قليلة على الأرض مقارنة بالعام الماضي. وتشير بيانات ساحة القتال أنه رغم القوة البشرية للجيش الروسي فإن بيانات جمعتها خدمة "ديب ستيت" للخرائط، كشفت أن وتيرة التقدم الروسي في شرقي أوكرانيا انخفضت للنصف منذ بدء العام الجاري مقارنة بنفس الفترة حتى نهاية 2024.
وبشأن الأضرار التي يسببها العدوان الروسي على أوكرانيا كتبت صحيفة "لاستامبا" الإيطالية (21 أيار/مايو 2025) معلقة "على أوروبا أن تتخذ قرارًا بالغ الأهمية: ألا يتعين علينا الآن استعمال نحو 200 مليار يورو من الأصول الروسية المجمّدة في أوروبا لمساعدة أوكرانيا؟ أم نعيدها إلى روسيا بعد بضعة أشهر، مما يعني مكافأتها على عدوانها؟ يجب أن نمتلك الإرادة السياسية لنقف على الجانب الصحيح من التاريخ، وأن نضع هذه الأموال في تصرف أوكرانيا لمساعدتها على تغيير مجريات هذه الحرب (..) ولكن قد يتساءل البعض: ماذا عن الإجراءات الانتقامية الروسية المحتملة؟ الحقيقة أن روسيا لم تكن يومًا بيئة آمنة أو مستقرة للأعمال، وكانت مخاطر الاستثمار فيها قائمة منذ زمن بعيد، بغض النظر عن إجراءات الاتحاد الأوروبي أو مجموعة السبع. فقد جمدت روسيا بالفعل أصول شركات غربية وصادرتها، واستولت على فروع الشركات الفرعية في روسيا مثل شركة الطاقة الألمانية "يونيبر"، وشركة الطاقة الفنلندية «فورتوم»، وشركة الألبان الفرنسية "دانون"، ومصنع الجعة الهولندي "كارلسبرغ" (..) لا شك أن مصادرة الأصول الحكومية الروسية ستُشكّل سابقة قانونية، ولكن هذا ما فعله أيضًا غزو روسيا الواسع النطاق في القرن الحادي والعشرين".
المستشار ميرتس: روسيا تهدد أمن أوروبا
دق المستشار الألماني فريدريش ميرتس ناقوس الخطر (22 أيار/مايو 2025) بالتحذير من أن روسيا تمثل تهديدا على أمن أوروبا برمته. تصريح ميرتس جاء خلال زيارته إلى ليتوانيا احتفالا بأول وحدة عسكرية دائمة ألمانية في الخارج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقال ميرتس "هناك تهديد لنا جميعا من روسيا... نحن نحمي أنفسنا من هذا التهديد، لهذا السبب نحن هنا اليوم". وتهدف هذه الوحدة العسكرية إلى تقوية وتعزيز الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي من التهديد الروسي. ويذكر أن برلين تعتبر أكبر داعم عسكري لأوكرانيا بعد واشنطن. واستطرد ميرتس موضحا "نقف بحزم إلى جانب أوكرانيا، ولكننا أيضا نقف معا كأوروبيين، ومتى كان ذلك ممكنا، نعمل كفريق مع الولايات المتحدة". وبشأن أوكرانيا أكد المستشار أن برلين تأمل في أن تكون هناك "فرصة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار ومن ثم الدخول في مفاوضات سلام" لكنه لفت إلى أن هذه العملية قد تستغرق أسابيع إن لم يكن أشهرا. وكان كتب في منشور على إكس أن الزعماء الأوروبيين قرروا زيادة الضغط على روسيا عبر العقوبات بعد أن أطلعهم ترامب على نتائج مكالمته مع بوتين.
وبهذا الشأن ذهبت صحيفة "فرانكفورته روندشاو" الألمانية (22 أيار/مايو 2025) إلى القول بأنه "بعد المكالمة الهاتفية التي لاقت اهتمامًا كبيرًا بين الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي، زاد الضغط على المستشار فريدريش ميرتس، ذلك أن استراتيجيته في زيادة الضغوط على روسيا بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين يُنظر إليها من قبل أطراف عديدة على أنها فاشلة. السخرية من دور ألمانيا في حرب أوكرانيا كبيرة، خصوصًا في صفوف المعارضة. رئيس حزب اليسار فان آكن تهكم في قناة "فيلت" التلفزيونية قائلاً "كل هذا كان مجرد كلام!" وأضاف "ميرتس بدأ بداية قوية ثم اصطدم بالحائط تمامًا. أعتقد أنه لن يُؤخذ على محمل الجد في الكرملين لأشهر. يمكنه أن يقول عقوبات خمس مرات ولن يصدقه أحد".
هل أخطأ ترامب في تقدير تأثيره على بوتين؟
في حوار مع إذاعة "دويتشلاند فونك" الألمانية (22 أيار/مايو 2025)، حذر "فرانك مانفريد فيبر رئيس كتلة "الشعب الأوروبي" في البرلمان الأوروبي وعضو الحزب المسيحي الاجتماعي الألماني من سوء تقدير نوايا روسيا. وقال "روسيا لا تريد السلام. هذه هي الحقيقة التي نواجهها". ومع ذلك، شدد على مدى أهمية إجراء المحادثات بين موسكو وكييف. وأوضح فيبر أن (دونالد) ترامب يرغب في استعادة روسيا كشريك "إنه يفكر في ذلك إلا أنني أرى ذلك وهما مطلقا. يعتقد أنه يمكن تحرير روسيا من قبضة الصين (..) لقد فشل ذلك بالفعل في عام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، عندما قامت ألمانيا ببناء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" بدلاً من فرض عقوبات صارمة". وأضاف فيبر "بوتين تحت ضغط كبير. لا يجب أن ننسى ذلك. العقوبات تؤثر بالفعل (..) لا يمكن لبوتين تحمّل ذلك على المدى الطويل. لذلك، يجب أن نواصل اتخاذ هذه الخطوات".
من جهته، أوضح وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس (22 مايو) أن الرئيس دونالد ترامب أخطأ إلى حد كبير في تقدير مدى تأثيره على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدما لم تسفر مكالمة هاتفية بين الزعيمين عن أي تقدم في محادثات السلام في أوكرانيا مما دفع أوروبا إلى إعلان عقوبات جديدة على روسيا. وقال بيستوريوس بدوره في حوار مع دويتشلاند فونك" "أشك أنه (ترامب) قيم موقفه التفاوضي بشكل غير صحيح". ويعمل الاتحاد الأوروبي حاليا على إعداد حزمة جديدة من العقوبات على موسكو. وقال بيستوريوس إنه لا يزال من غير الواضح هل ستنضم واشنطن إلى هذه الإجراءات بينما تستمر المحادثات عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة. لكن المراقبين يستبعدون انضمام واشنطن لعقوبات جديدة، فعند سؤاله عن عقوبات أمريكية محتملة ضد روسيا، قال ترامب إنه لا يعتقد أن هذه فكرة جيدة وأضاف أنه يعتقد أن بوتين يريد التوصل إلى اتفاق.