توظيف الثقافة أم وظيفة الثقافة
٢١ مارس ٢٠١٣الثقافة - بنظري - هي الموسوعية المنتجة ، بمعنى أن الإنسان يكون محيطا بما حوله ، ومطلعا على واقعه وواقع الآخرين ، بنحو المعرفة والوعي ، ويسخر هذه المعرفة الواعية في تحريك الواقع باتجاه الأفضل .
لذلك لا أجد معنى لثقافة النوادي والمقاهي و ( الحانات ) ، اذا لم تكن موجودة على الأرض ، يلمس المجتمع تأثيراتها .
نجد بعض من يرتدي القميص الفارغ للثقافة يحصرها في مقهى وكوب من الشاي ، فيما نرى الجيل الشاب يرى الثقافة هي ان يعيش بشخصية ليست له ، ويرتدي ( الكاسكيتة ) ، او يلف ( اليشماغ ) حول رقبته . بالإضافة لمجموعة من السلوكيات التي يعرفها أبناء الوسط الثقافي ، اتركها لصعوبة نقلها للقارئ ، وهي متممة اليوم للثقافة الشكلية السائدة .
وأحيانا نجد مجموعة من المثقفين النهمين للقراءة والكتابة ، لكنهم يعيشون واقعا من الجهل العملي ، بمعنى أنهم يكتبون عن الحرية فيما هم أخس أنواع العبيد .
اعرف شخصيا أحد المتصدين في المشهد الثقافي ، هو في ذات الوقت مسؤول عن أحد الأقسام القانونية المهمة لأحد الشركات الكبرى ، يعاني العاملون معه وزملاءه من قيود الاستغلال وسرقة الحقوق ، ومعالجة هذه المشكلة يعتمد على جهود هذا ( المثقف ) ، لكنه يعيش واقع ( حشرا مع الناس عيد ) ، ويساير التيار الاستغلالي - رغم ضعف هذا التيار - ، وينشغل بالخدر الثقافي .
"مثقفون لصوص"
وفي أحيان كثيرة نرى نوعا آخر من المثقفين - اصطلاحا - ، لكن حقيقة وجودهم ووظيفتهم لا تتعدى ( اللصوصية ) ، فهم يشكلون مجموعة (مافيات ) ذات نفوذ واسع ، سلاحها المال والإعلام ، ولغتها الضرب تحت الحزام ، تعيش على سرقة جهود الآخرين ، وتستمر في الوجود عن طريق قتل الناجحين ، وتغطي جرائمها بتصفيق ثقافي بعد كل جريمة وكتاب شكر ، فيما توزع أدوار المديح للذات بين أعضائها او عبيدها ، ويساير تحركها بعض المتملقين او الخائفين .
وقد يشاهد بعضنا مثقفين همهم لا يتعدى ( الكأس ) ونظرة للوجه الحسن، أما إذا رأى قواما حسنا فسينتج مشهدا ثقافيا بامتياز .
اما الحركة الثقافية النسائية فتعاني وحدها تعقيدات ، أجد من الصعب والمحزن الحديث فيها ، وكيف يتم التعامل مع النصوص والنتاجات النسائية ، وكذلك الطريق الذين تسلكه بعض المدعيات للانتماء الثقافي ، لذلك اترك الخوض فيها ، احتراما للكثير من مثقفات هذا البلد المعطاءات ، والبعيدات عن اللعب بالأوراق الثقافية .
ولعل البعض يستغرب ما اطرح هنا ، او يسيئه ذلك ، فأقول ما عليه إلا أن يفتح ملفات التحقيق في الجهود الأدبية والثقافية المسروقة ، والشخصيات الثقافية الحقيقية الإبداع والمغيبة عن المشهد الإعلامي الثقافي ، وكذلك مجموعة الأسماء التي نالت جوائز عالمية أو عربية ، فيما نالت الإهمال وطنيا ومحليا .
يرافق هذه الصور مشهدان آخران ، أكثر خزيا ، واسوا وقعا ، يتمثل الأول في مرض ( انفصام الشخصية الثقافية ) ، حيث يعيش الكثير جدا من مثقفينا - الاصطلاحيين - تحت وطأة التأثير الثقافي الأجنبي ، وغياب الشخصية الوطنية ، وربما معاداة النموذج الوطني للثقافة . فنرى بعض الشباب - بالإضافة لبعض رواد جيل السفر - يظن ان الثقافة هي التخلي عن الهوية واللغة والجذور ، وهنا نراهم يتحدثون بغير لغتهم وبغير وعيهم ، ويفتقدون للمعرف الثقافي ، وصاروا لا يعرفون من هم ، فكيف سيعرفهم الآخرون ؟
"رؤية ثقافية في ليلة حمراء وكأس وعود"
اما المشهد الآخر يختزل رؤيته الثقافية في ليلة حمراء وكأس وعود ، ليفقد الوعي عند وصوله لوقت الفجر الثقافي ، فيصل الى منزله مجهدا ، لينام ، ويستيقظ في نهار اليوم التالي ، وبعد جهد يستعيد وعيه للطعام ، ليكرر المشهد ليلا .
وبالطبع فان جميع هؤلاء قتلة محترفون للواقع الاجتماعي ، ومدمرون للهوية الثقافية العراقية ، ورأيي الشخصي ان يتم حجزهم إداريا ، حتى ينتهي مهرجان بغداد عاصمة للثقافة العربية .
ولكن في المقابل هناك طيف واسع جدا من ألمع وأنبل المثقفين على أرض العراق ، رفدوا ويرفدون المشهد الثقافي العربي بالإبداعات تلو الإبداعات ، بل ان بعض مثقفينا أصبح يشكل أصلا من أصول الثقافة العربية ، فيما صار آخرون ركيزة في الأدب والفكر عالميا .
ان السلبيات أعلاه لا تشكل حاجزا أمام حقيقة ان الثقافة في العراق هي الأكثر عمقا على الساحة العربية ، لان المشهد العربي أكثر قتامة ، واسوا عطاء . كما أن الشكل ظل هو المسيطر بدل المضمون عربيا .
إن العقل الجدلي العراقي منتج ، لكنه تعرض لتأثير عوامل تعدد الثقافات والأهداف والرؤى ، كما تأثر بخطط مراكز المال والأعمال ، ولعبت السياسة دورها في توريطه . لكنه ظل فاعلا ، ولا يحتاج إلا إلى الاحترام والواقعية والإنصاف .
وحقيقة وجود الواقع السيء لا تعني ان هذا الواقع غير مشخص ، والأكيد اننا جميعا ندرك من هو المثقف المنتج ، ومن هو المثقف الصوري .
الثقافة للثقافة مصطلح لا أستسيغه، واراه تعبيرا لغويا لحالة عبثية.
فالمثقف هو ذلك الإنسان المنتج اجتماعيا، والذي يشعر انه ساهم بتقدم المجتمع عمليا . ولعل إنسانا ريفيا لا يقرأ ولا يكتب هو اكثر ثقافة من اكبر الأسماء على الساحة الإعلامية الثقافية ، لان الأول يعيش حالة من الحكمة الإنتاجية في مجتمعه ، بينما يعيش الثاني حالة من الخدر ، وينام على فراش الترف الفكري .