على وقع صدور أحكام بالإعدام مؤخرا في تونس لأول مرة منذ تسعينات القرن الماضي وفي ظل اعتقالات لمعارضين، تصاعدت الانتقادات للحكومة وسط اتهامات بتسييس الأحكام وتشكيك في استقلالية القضاء "المُكَبَّل" من قبل السلطة التنفيذية.
تعيش تونس على وقع الأحداث المتتالية المتعلفة بالأحكام القضائية ضد العديد من الوجوه المعارضة، إضافة لمحاكمة المتورطين في قضايا قتل سياسيين.صورة من: Anis Mili/AP/picture alliance
إعلان
قضت محكمة تونسية الثلاثاء (25 فبراير/ شباط 2025) بإعدام ثمانية متهمين باغتيال المعارض والنائب السابق بالمجلس التأسيسي عن محافظة سيدي بوزيد وأمين عام حزب "التيار الشعبي" محمد البراهمي، الذي راح ضحية الاعتداء المميت يوم 25 يوليو/تموز 2013.
وقال المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب أيمن شطيبة في تصريحات لوكالة الأنباء التونسية "إن الدائرة الجنائيّة الخامسة المختصة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس، أصدرت أحكاما تراوحت بين الإعدام والسجن لمدة 5 سنوات في حق المتهمين".
وأوضح المتحدث أن إصدار عقوبة الإعدام بحق المتهمين الثمانية جاء من أجل "جريمة الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على قتل بعضهم البعض بالسلاح وإثارة الهرج والقتل بالتراب التونسي، وأيضا من أجل "جريمة المشاركة في قتل نفس بشرية عمدا مع سابقية القصد".
كان الرئيس التونسي قيس سعيد مؤيدا لتنفيذ حكم الإعدام، لكن الأمر لم يحصل في البلد منذ 1991صورة من: FETHI BELAID/AFP/Getty Images
مخاوف حقوقية!
الإعدام كما يشرح الكاتب والمحلل حاتم النفطي في حواره مع DW عربية، لا تٌنفذ في تونس منذ 1991، لكن مازال حكما قانونيا ضمن سلم العقوبات بالبلد. ويضيف المتحدث "أن قيس السعيد ردد أكثر من مرة أنه مع تنفيذ الحكم، وكانت هناك تخوفات حقوقية كبيرة من هذا الموضوع، لكن إلى الآن لم يتم الأمر في عهده".
إعلان
من الجانب الحقوقي، كان "الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام"، وهي منظمة حقوقية مستقلة، قد عبر عن رفضه للأحكام القضائية الابتدائية في قضية اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد المشابهة في مارس 2024، التي قضت بإعدام أربعة متهمين.
وأوضح الائتلاف معارضته لقانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال في الصيغة التي تمت المصادقة عليها سنة 2015، وعلى وجه الخصوص تنصيصه على عقوبة الإعدام التي يسعى إلى إلغائها من القوانين التونسية.
واعتبر شكري لطيف، رئيس الائتلاف على موقعه الرسمي حينها، أن محاولة التوظيف السياسي لمثل هذه القضايا، قد يؤدي إلى التطبيع مع عقوبة الإعدام، والسعي لتفعيلها بعد سنوات طويلة من وقف تنفيذها.
من جانبه، يرى صلاح الدين الجورشي، المحلل والناشط في المجال الحقوقي، أن الأحكام الصادرة في هذه القضية، "كانت بسبب الأدلة التي أثبثت تورط المتهمين، لكن لا ندري إن كانت الحيثيات تجعل الحكم يصل للإعدام. لكني مبدئيا ضد الحكم بالإعدام".
منظمات حقوقية تونسية تعبر عن رفضها لأحكام الإعدام صورة من: Hasan Mrad/Zumapress/picture alliance
وأشار المتحدث في حوار مع DW عربية، أنه "قد طالت هذه القضية إضافة لقضية شكري بلعيد وأثارتا جدلا في الساحة السياسية، لأن هناك محاولات لتأكيد تورط قيادات حركة النهضة، رغم عدم توفر دلائل تؤكد ذلك".
انتقادات حقوقية داخلية وتنديد أممي
جرت قضايا حقوقية عديدة على تونس في الآونة الأخيرة إدانات دولية بسبب "اضطهاد المعارضين" منها الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، التي دعت السلطات التونسية إلى وضع حد لموجة الاعتقالات، لا سيما ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين والمحامين.
وأضافت المفوضية "على السلطات التونسية أن تضع حدا لأنماط الاعتقال والاحتجاز التعسفي والسجن التي يتعرّض لها العشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحافيين والنشطاء والسياسيين".
تزايدت الضغوط على النظام التونسي تزامنا مع انطلاق الدورة 58 لمجلس حقوق الإنسان في مقرّ الأمم المتّحدة بمدينة جنيف السويسرية، حيث أطلقت أكثر من 50 منظمة حقوقية حملة دوليّة للمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين والصّحفيين والمدوّنين داخل السجون التونسيّة.
بعد يوم واحد على هذا التنديد، أُطلق سراح سهام بن سدرين (74 عاما)، إحدى أشهر الناشطات في مجال حقوق الإنسان في البلاد والتي كانت محتجزة منذ آب/أغسطس من العام الماضي، وظلت ممنوعة من السفر.
كثر من 50 منظمة حقوقية حملة دوليّة للمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين والصّحفيين والمدوّنين داخل السجون التونسيّةصورة من: Chedly Ben Ibrahim/NurPhoto via AP Photo
كما أفرجت السلطات عن وزير البيئة السابق رياض المؤخر، والصحفي محمد بوغلاب، الذين كانا يقبعان في السجن بتهم مختلفة، إلى جانب العشرات من المعتقلين السياسيين والحقوقيين والصحفيين.
وقد رفضت تونس انتقادات المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وأصدرت وزارة الخارجية التونسية في وقت متأخر من مساء الاثنين بيانا، أعلنت فيه "استغرابها" مما جاء في تقرير المفوض السامي لحقوق الإنسان. وقالت إنه يتضمن "مغالطات".
بالنسبة للجورشي، فإن السلطة التونسية "ورطت نفسها في قضايا لا أدلة لها عليها لتقنع الرأي العام داخليا ودوليا بأن التهم صائبة".
ويرى المتحدث أن "الأطراف الدولية كما هو الشأن بالنسبة للأصوات الحقوقية داخليا لم تعد مؤثرة، إذ أن هناك إصرار من السلطة على أن ما يجري في تونس هو أمر داخلي، ولا يجوز لأي جانب خارجي أن يعطي رأيا حوله".
ويرى الحقوقي أن "مجال الحرية في تونس يضيق أكثر فأكثر، وهو ما خلق حالة تصادم مستمر بين الحقوقيين والسلطة. ولا توجد مؤشرات على أن الأطراف الدولية سيكون لها تأثير مستقبلا".
من جهته، اعتبر المحلل حاتم النفطي، أن "القضاء في تونس مكبل، حتى أننا لم نعد نتحدث عن السلطة القضائية بل عن الوظيفة القضائية، فالرئيس قيس سعيّد منح نفسه صلاحيات كبيرة، وبدأ في عزل قضاة، كما حل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي المنتخب، وعوضه بآخر، فاليوم القضاة في تونس يواجهون السلطة التنفيذية مباشرة".
وربطا بالقضايا الحالية في تونس، يرى النفطي أنه "وإن تمت المحاكمة بوجود قرائن مهمة، فالقضاء يبقى رهن التشكيك في أحكامه، هذا هو مشكل النيل من القضاء في أي بلد، فعبر ضربه تضرب حتى القضايا العادلة مثل قضايا بلعيد والبراهمي، مما قد يستعمله المتهمون في هذه القضية لصالحهم لاحقا".
يرى محللون وحقوقيون تونسيون أن اللقضاء في تونس مكبل وأن الرئيس جمع كل الصلاحيات في يدهصورة من: FETHI BELAID/AFP/Getty Images
"إخراس أصوات المعارضة"
في ظل تشديد الأحكام على المنتمين للتيار الإسلامي، مقابل الإفراج مؤخرا على وجوه بارزة من المعارضين في التيار العلماني، فإن الكثير يسترجعون بعضا من مظاهر سياسات نظام زين العابدين بنعلي، ومنهم المحلل النفطي، الذي اعتبر أن "هذه الاستراتيجية استعملها النظام في التسعينيات وبداية الألفية الحالية، وهذا ليس بغريب بما أن الكثير من الوجوه في مناصب السلطة اليوم تنبع من النظام القديم".
لكن الواضح في رأي المتحدث، هو أن "السلطة لا تبتغي من ذلك سوى إخراس أصوات المعارضة بغض النظر عن انتمائهم للتيار العلماني أو الإسلامي".
أما بالنسبة للحقوقي الجورشي، فالنظام التونسي "وجد نفسه أمام معارضة واسعة من مختلف الأطراف السياسية والحقوقية في البلد، وهو ما يدفع هذه الأطراف للتكاثف وتوحيد الموقف رغم تناقضاتها".
وأنهى المتحدث كلامه قائلا "في تونس اليوم، حتى بعض الأشخاص والأطراف التي كانت قريبة من الرئيس سعيّد، وجدت نفسها في موقف صعب وهي تواجه هذا الطيف الواسع من السياسيين والمثقفين".
من بورقيبة إلى سعيّد.. رؤساء تعاقبوا على حكم تونس
تُجرى في تونس الأحد (السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024) انتخابات رئاسية، تُعد الثالثة منذ اندلاع "الربيع العربي" عام 2011. ومنذ استقلالها عن فرنسا، تعاقب على حكم تونس سبعة رؤساء، كان أولهم زعيمها التاريخي بورقيبة.
صورة من: Moncef Slimi/DW
الحبيب بورقيبة ..الزعيم المصلح (1957 ـ1987)
بعد قيادته للحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال عن فرنسا، ثم توليه رئاسة الوزراء في الحكومة المؤقتة بعد الاستقلال، أصبح الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية في عام 1957. وحكم بورقيبة تونس ثلاثين سنة عمل خلالها على تحديث المجتمع التونسي ومنح المرأة هامشا من الحقوق لم تكن تتمتع به من قبل، كما شهد حكمه مبادرات نهضت بالمجتمع والاقتصاد التونسيين.
صورة من: picture-alliance/dpa
الحبيب بورقيبة .."رئيس مدى الحياة !" (1957 ـ1987)
لكن بورقيبة الذي يشبهه البعض بالزعيم التركي كمال أتاتورك تعرض لانتقادات بسبب إزاحته لعدد من معارضيه وإعدام العديد منهم، وإصداره قانونا في 1974 يسمح له بالرئاسة مدى الحياة. وبعد كبر سنه وتردي وضعه الصحي، انقلب عليه رئيس وزرائه زين العابدين بن علي، الذي أعلن نفسه في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 رئيسا جديدا للجمهورية التونسية.
صورة من: picture alliance/United Archives
زين العابدين بن علي (1987 ـ 2011)
حكم زين العابدين بن علي بقبضة من حديد لمدة 23 عاما، ولم يتوقع هو أيضا أن تهب رياح ثورة تجبره على مغادرة البلاد، إلى منفاه الأخير بالسعودية، حيث ظل فيها إلى أن وافته المنية عن عمر ناهز 83 عاما. كرس بن علي خلال فترة رئاسته حكم الحزب الواحد، وخاض حربا ضد الإسلاميين، ثم ضد كل المطالبين بالديمقراطية وإرساء حقوق الإنسان وحرية التعبير.
صورة من: Ammar Abd Rabbo/picture alliance/abaca
فؤاد المبزغ .. "الرئيس المؤقت" (من يناير/ كانون الثاني إلى ديسمبر/ كانون الأول 2011)
شغل فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية بالإنابة بعد إعلان المجلس الدستوري التونسي شغور منصب الرئيس بشكل نهائي، بسبب "هرب" الرئيس زين العابدين بن علي من البلاد يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وشغل المبزع مناصب مهمة، من بينها إدارة الأمن الوطني، وتولى وزارة الشباب والرياضة والصحة والشؤون الثقافية والإعلام، خلال فترة حكم كل من بورقيبة وبن علي.
صورة من: Hassene Dridi/picture alliance/AP
الدكتور منصف المرزوقي ..أول رئيس يُختار ديمقراطيا بعد الثورة (2011 ـ 2014)
جرى انتخاب الدكتور منصف المرزوقي رئيسا لتونس في المرحلة الانتقالية أواخر عام 2011. وكان المرزوقي الذي عاش سنوات في المنفى بفرنسا من أبرز المعارضين لنظام زين العابدين بن علي وهو من مؤسسي الرابطة التونسية لحقوق الإنسان أعرق المنظمات الحقوقية بالعالم العربي. وعمل المرزوقي خلال فترة حكمه على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وسعى لتأسيس نظام سياسي جديد يعتمد على التعددية الحزبية وحرية التعبير.
صورة من: picture alliance/Mustafa Yalcin/AA
الدكتور منصف المرزوقي ..حقوقي في قصر قرطاج (2011 ـ 2014)
شهدت فترة حكم المرزوقي كتابة واعتماد دستور جديد لتونس في يناير/ كانون الثاني 2014، والذي يعد من أبرز إنجازاته. ودامت فترة حكم المرزوقي ثلاث سنوات كان فيها أول رئيس في العالم العربي يأتي إلى سدة الحكم ديمقراطيا ويسلم السلطة ديمقراطيا بعد انتهاء حكمه إلى الباجي قائد السبسي الذي تنافس معه في الظفر بكرسي الرئاسة.
صورة من: Yassine Gaidi/picture alliance / AA
الباجي قايد السبسي ..الرئيس المخضرم (2014 ـ 2019)
بعد سقوط نظام بن علي مطلع عام 2011 تم تعيينه وزيرا أول في الحكومة الانتقالية بهدف قيادة تونس نحو الديمقراطية. تصدر حزبه "نداء تونس" نتائج أول انتخابات تشريعية تفضي إلى برلمان دائم بالبلاد بعد سقوط نظام بن علي، كما تمكّن من الفوز في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية في 21 ديسمبر/كانون الأول 2014 بحصوله على 55.68% مقابل 44.32% لمنافسه منصف المرزوقي.
صورة من: Julien Mattia/picture alliance / NurPhoto
الباجي قايد السبسي..سياسة الانفتاح على الخارج (2014 ـ 2019)
توفي السبسي، السياسي التونسي المخضرم، الذي شغل أيضا مناصب بعهديْ الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، في 25 يوليو/ تموز الماضي وتسلم رئيس البرلمان محمد الناصر منصب الرئاسة بشكل مؤقت كقائم بمهام الرئيس. وكان الباجي قايد السبسي خلال توليه رئاسة الديبلوماسية التونسية في ثمانينيات القرن الماضي أو توليه لرئاسة تونس (2014-2019) ينتهج سياسة منفتحة على الخارج.
صورة من: picture alliance / Kay Nietfeld/dpa
محمد الناصر..رئيس مؤقت (يوليو/ تموز 2019 ـ أكتوبر/ تشرين الأول 2019)
في 25 يوليو/ تموز 2019 أدى محمد الناصر اليمين الدستورية رئيسا مؤقتا للبلاد، وذلك بعد اجتماع لمكتب البرلمان، عقب إقرار الشغور النهائي في منصب رئيس الجمهورية بعد وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي. ويعتبر الناصر سياسيا تونسيا مخضرما، تولى عددا كبيرا من الوظائف السامية في كافة العهود السياسية منذ الاستقلال، وأصبح رئيسا للبرلمان التونسي في 2014.
صورة من: Nicolas Fauque/Images de Tunisiepicture alliance/abaca
قيس سعيّد .. إجراءات مثيرة للجدل(منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)
انتخب قيس سعيد في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في الجولة الثانية بأغلبية كاسحة على منافسه نبيل القروي. وبدأ سعيد فترة رئاسته في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، ليكون بذلك الرئيس السابع لتونسي. في يوليو/ تموز 2021 اتخذ سعيد قرارات أثارت جدلا داخل وخارج تونس بعدما قام بتجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة ثم تغيير الدستور المصادق عليه بإجماع سنة 2014 من طرف المجلس التأسيسي الذي انتخب بعد الثورة.
صورة من: Tunisian Presidency/APA Images/ZUMA/picture alliance
قيس سعيد .."مهمّة إلهية لإنقاذ تونس" (منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)
الرئيس التونسي المنتهية ولايته قيس سعيّد يحتكر السلطة منذ 3 سنوات وهو مرشح لولاية ثانية في الانتخابات المقررة الأحد (السادس من أكتوبر/ تشرين الأول)، مقتنع بأنه مؤتمن على "مهمّة إلهية" لإنقاذ تونس من "المؤامرات الخارجية". وتندّد منظمة العفو الدولية "بتراجع مقلق في الحقوق الأساسية في مهد "الربيع العربي" و"بالانحراف الاستبدادي"، مع تراجع على مستوى إنجازات الثورة التي أطاحت ببن علي عام 2011. إعداد ع.ش