1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

جنة تونس تختنق.. التلوث يفتك بأهالي قابس فمن ينقذهم؟

سمية المرزوقي تونس
٢٠ أكتوبر ٢٠٢٥

الاحتجاجات الشعبية في مدينة قابس جنوب تونس، سلطت الضوء على مأساة صحية يعيشها سكان المدينة والبلدات المجاورة. كيف تحولت المنطقة الجميلة التي تقع على ساحل البحر المتوسط وتحيطها واحات غناء، إلى بؤرة للتلوث والمآسي الصحية؟

اجتجاج في قابس نظمته حملة أوققوا التلوث 17.10.2024
قابس التي تصنفها اليونسكو كمدينة ذات قيمة عالمية استثنائية، باعتبارها من بين آخر الواحات البحرية في العالم، حولها التلوث إلى كابوس لأهاليها صورة من: Hedi Radaoui/DW

مع بزوغ شمس كل صباح وعند فتح الشبابيك، يعود طارق البشراوي لمواجهة طبقات الغبار الأصفر وهي تسد شقوق النوافذ، في مشهد يتكرر يوميا في حي محمد علي الذي يبعد بضعة كيلومترات عنالمجمع الكيميائي بقابس الواقعة جنوب شرقي تونس وتبعد 400 كيلومتر من العاصمة.

يستحضر طارق، أصيل الجهة، لـDW عربية معاناته بصوت تمتزج فيه مشاعر الحزن والألم: "كنا نفتح الشبابيك فنجد الغبارالأصفر يغطي كل شيء… كانت رائحة الاختناق ترافقنا حتى أثناء النوم. أغلب أفراد عائلتي أصيبوا بالسرطان. رحلت كل من أمي وعمتي وخالتي جراء المرض، وغادر من تبقى من أشقائي المدينة إلى أنحاء أخرى من البلاد وخارجها بحثًا عن هواء نظيف".

هاجر طارق منذ عدة سنوات إلى باريس، ومن تبقى من أسرته وجد الحل في الانتقال من المدينة "الملوثة" إلى ولايات أخرى. بينما ظل أغلب الأهالي حبيسا لما يشبه المستشفى المفتوح طوال عقود، جراء الانبعاثات السامة للمجمع الكيميائي في قابس. 

فما هي المواد المنبعثة من المجمع وما تأثيرها على الصحة؟ وما هي الحلول المقترحة للحد من هذه الانبعاثات؟ وهل حددت السلطات استراتيجيا واضحة لحل الأزمة؟

بحر يحتضر وهواء سام

تصنف اليونسكو قابس كمدينة ذات قيمة عالمية استثنائية، باعتبارها من بين آخر الواحات البحرية في العالم. لكن هذا كان أيام الزمن الجميل الذي يحن إليه طارق وباقي الأهالي المخضرمين. فخلف هذا الجمال والتنوع البيئي المذهل، باتت قابس منذ سبعينيات القرن الماضي في مواجهة تلوث خطر يفتك بالصحة ويهدد التوازن البيئي.

منذ إنشاء المجمع الكيميائي عام 1972، تحول "خليج قابس" إلى واحد من أكثر المواقع تلوثا في البحر الأبيض المتوسط، حيث يمكن ملاحظة سواد المواد السامة وهي طافية على سطح مياه الخليج.

يحول المجمع الكيميائي الفوسفات القادم من مناجم ولاية قفصة إلى حمض فوسفوري ومواد كيميائية مثل "الأمونيتر" و"فوسفات الأمونيوم"، ثم يصب نفاياته الصناعية في البحر دون معالجة، بمعدل يصل إلى 14 ألف طن من مادة "الفوسفوجيبس" يوميا، وهي كميات كفيلة بتحويل البحر إلى مقبرة للثروة السمكية التي كانت تتباهى بها الولاية قبل عقود.

وينتج المجمع أيضا سماد DAP 18-46 المعروف بسمية تصنيعه، وهو نفس السماد الذي أوقفت فرنسا تصنيعه وظلت تستورده من تونس، غير آبهة بمطالبات داخلية بوقف استيراده بسبب كلفته البيئية والصحية.

وبالنتيجة يمكن تخيل آثار ذلك على طبيعة الهواء في ولاية قابس. وعلى سبيل المثال تظهر التحاليل الواردة على منصة "أكيو ويذر" العالمية لاختبار جودة الهواء في قابس بتاريخ يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، ارتفاعا خطيرا في ثاني أكسيد النيتروجين (NO₂) والجسيمات الدقيقة، وهي ملوثات دقيقة تخترق الرئتين وتصل إلى الدم، مسببة أمراض القلب والربو وسرطانات الرئة والمثانة.

وكأن التلوث والأمراض التي يسببها لا تكفي، تعاني قابس من تفشي البطالة وتأخر التنمية أيضاصورة من: Hedi Radaoui/DW

أمراض تفتك بالبشر

مع تواتر حالات الاختناق الجماعية لأطفال المدارس، نتيجة التسربات الغازية عبر الأجهزة المتقادمة لوحدات التصنيع بالمجمع الكيميائي إلى المحيط القريب، أصبح اليوم تفكيك هذه الوحدات مطلبا شعبيا لأهالي قابس. ويرفع المحتجون في الشوارع نداء رمزيا للسلطة: نريد أن نعيش!

وبصوت يائس وغاضب، عبرت الأربعينية دليلة لـDW عربية عن سخطها من تكرار اختناق ابنتها في معهد غنوش "هل علي أن أتعود على خبر نقل طفلتي إلى المستشفى مع كل عودة من المدرسة؟ ألا يكفي أننا صرنا نخرج من البيت مصطحبين بخاخا؟".

كانت ابنة دليلة واحدة من بين عشرات الأطفال الذين سارعت أطقم الإسعاف إلى نقلهم خلال شهري أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر الجاري، للمستشفى بعد تعرضهم لنوبات ضيق تنفس وهم على مقاعد الدراسة.

ويحذر الدكتور بولبابة عبد الله من قسم الأطفال بمستشفى قابس في تصريح لوسائل إعلام محلية من أن "تكرار حالات الاختناق الناتجة عن تسرب الغازات يسبب هشاشة دائمة في الجهاز التنفسي ومشاكل عصبية مزمنة."

وتشير نتائج دراسة علمية أُنجزت عام 2024 بمشاركة باحثين من معهد علوم الأرض والبيئة في تولوز الى روابط بين رواسب خليج قابس الملوثة وتفشي أمراض السرطان والشلل وأمراض القلب والأوعية الدموية والوفاة المبكرة والعيوب الخلقية والإجهاض المتكرر والضعف الجنسي والأمراض المزمنة.

تنتشر الأمراض التنفسية والسرطانات وأمراض القلب بشكل متفاوت بين أهالي منطقتي "غنوش" و"شط السلام" القريبتين من المجمع الكيميائي. ورغم غياب إحصائيات رسمية لأعداد المصابين، فقد رصدت بعض الدراسات ارتفاعا ملحوظا في انتشار أمراض بعينها في المنطقة.

"نموت ببطء.. السرطان في كل مكان"

وقد رصدت "الجمعية التونسية لمكافحة السرطان" إجمالاإصابة 18 ألف شخص بأمراض السرطان في تونس سنويا، مع تصدر ولاية قابس لائحة الولايات الأكثر تضررا تليها ولاية صفاقس العاصمة الاقتصادية.

بموازاة الحقائق العلمية والأمراض المزمنة والقاتلة، قدمت قابس التي يصنفها اتحاد الشغل في الجهة كـ"منطقة منكوبة"، قصصا نضالية لإنقاذ الانسان والبيئة في الجهة.

فقبل عام ودعت المدينة عازف القيثار الملتزم الراحل الياس جرادي، الذي غنى للمدينة والبيئة وعاش لسنوات "كلاجئ بيئي" في العاصمة، كما ودعت عائلته الموسعة قبله، والداه وثلاثة من أخواله بسبب أمراض السرطان وأمراض أخرى خطيرة.

ومع تأخر تحرك السلطات، فإن السرطان ما زال يكسب مساحات إضافية في قابس. ويوضح الدكتور عبد الله من مستشفى قابس أن "نسبة سرطان الرئة مرتفعة جدا في الولاية، مع ظهور إصابات مبكرة في صفوف شباب لا تتجاوز أعمارهم 35 عاما".

وتقول عبير عبد الملك وهي أستاذة جامعية وصانعة محتوى أصيلة معتمدية "بوشمة" إحدى المناطق المتضررة من التلوث البيئي بولاية قابس "نحن نموت ببطء. أصبحنا نرى السرطان في كل مكان، حتى أصبح جزءا من حياتنا. لقد قضى المرض على خالي وعم والدتي وزميلين لي لم يتجاوزا سن الـ35، حتى والدي وابن عمه يعانيان اليوم من تضخم في عضلة القلب".

تعاني عبير اليوم من أمراض الصدفية وحساسية بفروة الرأس. وقد باتت كل أمانيها أن تواصل الكفاح في الحياة من أجل ابنتها.

يعاني السكان في قابس من التلوث وخاصة الأطفال الذين يصابون بحالات اختناق وأمراض تنفسية عديدةصورة من: Hedi Radaoui/DW

 

حلول مؤجلة ومصير غامض

يعترف أحد المهندسين في المجمع الكيميائي لـDW عربية، طالبا عدم ذكر اسمه لدواعٍ مهنية وأمنية، أن المجمع يعاني من قدم المعدات وتهالكها وقلة التمويلات المخصصة للصيانة، مضيفا "لا توجد صيانة حقيقية. الكارثة قادمة".

وفي حديثه مع DW عربية طالب الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل في قابس، صلاح الدين بن حامد، الحكومة بإيقاف جميع الوحدات الصناعية المتهالكة بشكل عاجل. محذرا في نفس الوقت من أنه "لا يمكن ان نبقى شهود زور في ظل ما يحصل امام أعيننا من نقل يومي للمصابين إلى المستشفى عبر سيارات الإسعاف وحالات اختناق جماعية خطيرة".

يشارك اتحاد الشغل مع المجتمع المدني وحملة "أوقفوا التلوث" في الحراك السلمي بالشوارع، للضغط على الحكومة المركزية ودفعها الى تطبيق قرار حكومي سابق يعود إلى عام 2017 بترحيل المجمع الكيميائي بعيدا عن التجمعات السكنية.

ويقول صابر عمار، عضو حملة "أوقفوا التلوث" لـDW عربية: "إذا استمرت الدولة في تجاهل المطالب الشعبية والشرعية بتفكيك الوحدات الصناعية والتحقيق في أسباب الاختناقات الجماعية الأخيرة في قابس فإننا سنتجه الى التصعيد".

لم تكشف السلطة عن استراتيجية واضحة للتعامل مع الأزمة الحالية بخلاف اجتماعات طارئة قادها الرئيس قيس سعيد مع ممثلي البرلمان ومجلس الأقاليم والجهات (الغرفة الثانية) والحكومة في القصر الرئاسي، وتعهده بالنظر في حلول تخص قابس ومناطق أخرى في البلاد.

بطالة عالية وتنمية متأخرة

في الأثناء ينصح الخبير الدولي في البيئة، عادل الهنتاتي، في تصريح لإذاعة "موزاييك"، باعتماد حلول نظيفة ومستدامة للتعامل مع مادة "الفوسفوجيبس" الملوثة، عبر تكديسه واستغلاله في البناء والبنية التحتية بدل تسريبه للبحر، وهو حل في تقديره يجنب الدولة خسائر اقتصادية مع خسارة جزء من الأسواق العالمية في حال اللجوء إلى تفكيك الوحدات الصناعية.

واقترحت "الجامعة العامة للنفط والمواد الكيميائية"، وفق بيان لها، إلى "تحديث الوحدات الصناعية وزيادة نجاعتها البيئية عبر إدخال تقنيات نظيفة وتطوير منظومات المراقبة والتحكم في الانبعاثات ووضع خطة وطنية لمعالجة الفوسفوجبس وتثمينه بطرق تكنولوجية حديثة ومستدامة، بما يحد من الأثر البيئي ويحافظ على ديمومة النشاط الصناعي".

لكن مثل هذه المقترحات ليست أكثر من مجرد حلول "ترقيعية" في نظر الغالبية العظمى من أهالي قابس، الذين يطالبون بنهاية كابوس "المجمع الكيميائي". وفي مسيرة ضخمة وسط المدينة رفع محتجون لافتة عملاقة تحمل كلمة إيطالية رمزية متداولة في تونس: "باستا"، وتعني كفاية.

وفي حديثهما مع DW عربية ينفي طارق البشراوي وصابر عمار، أي تداعيات اقتصادية مؤثرة على الولاية سواء في سوق الشغل أو التنمية، في حال تفكيك الوحدات الصناعية. بدليل أن قابس تعد من بين الولايات الأكثر تفشيا للبطالة، كما تعاني من تأخر التنمية في عدة قطاعات من بينها المستشفى العاجز عن تقديم خدمات لمرضى السرطان.

ويقول طارق "ليت عقارب الزمن تعود إلى الوراء. نريد أن يعيدوا لنا قابس التي نعرفها، البحر والواحات والسياحة والثروة السمكية. لقد كنا في جنة".

تحرير: عارف جابو

تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW

المزيد من الموضوعات من DW