حرب الهويات والعقد الطائفي الجديد
١٢ أبريل ٢٠١٢ يشهد العالم متغيرات جوهرية في أشكال الصراع الدولي والإقليمي، وتبرز ملامح الحرب الباردة ، ونشهد تنافس الدول المتمركزة ألصاعده لتحقيق الهيمنة الدولية وشغل الرقع الحيوية في العالم العربي وعلى حساب الأمن القومي العربي ، ويتجسد حربيا بسباق تسليح الصاروخي والنووي وغزو الفضاء وحرب المعلومات وحرب الموارد والطاقة وتجارة الأمن القومي، ويلاحظ استخدام استراتيجيات مركبة البعض منها تقليدي مثل : توازن الرعب ، الردع الشامل ، توازن القدرات،حرب الوكالة والأخرى غير تقليدية مثل القضم الجيوبوليتيكي والهندسة الديموغرافية المعكوسة باستخدام حرب الهويات،وعسكرة الإسلام، وصناعة الفوضى التي تسهم في تفكك المحاور الجيوسياسية العربية، وفي مطلع العقد الحالي برزت إيران كلاعب متسلق يؤسس إلى العقد الطائفي الجديد وحروب المائة عام عبر حرب الهويات.
يلاحظ اليوم شياع ظواهر الحروب المعاصرة التي أسميتها منظرا "إستراتيجية البركان" وابرز عناصرها: حرب العقائد والأفكار - حرب الدبلوماسية المخادعة - الحرب الديموغرافية - حرب الأشباح - حرب استنزاف الموارد - الحرب الايدولوجية والإعلامية - الدعاية والحرب النفسية- حرب المعلومات – حرب القضم الجيوبوليتيكي، ولعل الدول العربية أصبحت مسرحا لتلك الحروب المركبة والنزاعات المختلقة ، والتي أضحت تستنزف القدرات العربية والموارد البشرية، دون مكسب عربي وتعويض بالقدرة العربية لإدامة التوازن العربي الإقليمي.
حرب الهويات
ينزلق العالم العربي تدريجيا من نظرية الدولة إلى مظاهر الفوضى الزاحفة وتعد تلك سمات "العالم الرابع"، وأبرزها اندثار الهوية الوطنية واستبدالها بالهويات الفرعية ، وشياع الاضطراب السياسي والأمني ، وتفاقم الإرهاب الطائفي المسلح ، وازدياد ظواهر الفساد ومظاهر الفوضى وكذلك تجهيل مؤسسات الدولة وإزاحة كيانها، وتعاني المنطقة اليوم من تداعيات حروب المغامرة والتي أضحت متعددة ومركبة سيالة، وباتت تستنزف الاستثمار ألقيمي والحضاري، وتنحر النظريات السياسية وتتخطى المحظورات الإستراتيجية، وتؤسس لحروب القرن القادم وباستخدام السلاح الفتاك "حرب الهويات الفرعية"، ويقف النظام الرسمي العربي والمجتمع الدولي متماهيا في معالجتها ، ويبدوا أن انفراط النسق الدولي والانفلات القانوني وسوق الحرب كان السبب الرئيسي في حرب الهويات والتمدد الإقليمي، ناهيك عن الملامح الواضحة لعودة الحرب الباردة عبر منصات الصراع المنفلتة التي توظف الأحداث لتحقيق أطماعها التوسعية ومنهجياتها الطائفية الراديكالية الهدامة للدول والشعوب.
العراق مسرحا للصراع
دخل العراق في شبكة أنفاق مهلكة تستهدف كيانه وهويته ومكانته في ظل الطوئفة السياسية، وارهبة القانون الذي يتمترس خلفه الطائفيون الجدد، وهم يشكلون خارطة العنف والإرهاب الملتهبة ، وتؤكد الواقعية السياسية أن الديمقراطية في العراق لفظية دعائية فقط بلا سلوكيات ومسالك تؤسس لدولة المؤسسات ، ونشهد نحر نظرية الدولة والإجماع الوطني والتحول إلى التسلط الطائفي وتطويع القانون والتسويق لاحتكار السلطة ، ونلاحظ طوئفة القوة داخل السلطة وخارجها ، ونشهد تعاظم مظاهر عسكرة الإسلام والمجتمع معا، بالتزامن مع شياع ظواهر سياسات الإلهاء المجتمعي وافتعال الأزمات ، وكذلك المناورات الإعلامية السوداء لصرف الأنظار عن التمدد الإيراني في العراق بعد الانسحاب الأمريكي ، ويجري ذلك باستخدام الدعاية السوداء المبعثرة عبر زعانف منتشرة داخل وخارج العراق تعمل لصالح إيران لغرض خلق واقع افتراضي وهمي وفرض عدو طائفي مزمن كي يستقطب الشارع العراقي طائفيا ويعزز الانقسام المجتمعي وفق أجندات إقليمية لخلق مفاصل لينة يجري توظيفها لإبقاء النفوذ الإقليمي شاخصا في العراق العربي ومسيطرا على ثرواته وأمواله.
منظومة الاختراق الأيديولوجي
برزت إيران بشكل لافت في ساحة الأحداث العربية، وسرعان ما انتهزت فرصة الفوضى السياسية الدولية والصدمات الحربية لتشغل رقع نفوذ تفوق قدراتها، لتحقق بذلك تأثيرا أيديولوجيا مباشرا وباستخدام منظومة الاختراق الأيديولوجي الأصلية والمكتسبة ، وتتجسد على شكل تنظيمات سياسية ومسلحة ومنابر دينية من الطرفين وكذلك وسائل اتصال مختلفة بلغت 200 وسيلة اتصال، وكذلك من خلال رشوة كتاب مغمورين وتمويل مراكز دراسات مشبوهة لشرعنه نفوذها في العراق والمنطقة ، وبذلك حققت أهدافا سياسية واقتصادية وعسكرية تفوق قدراتها ومواردها ، وبنفس الوقت تخطت محظورات إستراتيجية دولية ذات طابع سياسي وعسكري وامني ، وكان أبرزها التوازن العربي الإقليمي الذي أسس وفق مبدأ "توازن التوافق والأضداد" ويفترض أن تتجه المنطقة إلى توازن بالإكراه وليس التوازن الهش المرن كما نشهده اليوم، وكان غزو العراق هو السبب الرئيسي في ملئ الفراغ الإقليمي.
قوة تبحث عن هدف
شكلت إيران على مدى عقود منصة متقدمة في الصراع الدولي ، وقد غيرت بوصلتها التحالفية إلى جهة الشرق صوب روسيا والصين "المعسكر الشرقي" ومغازلة الولايات المتحدة، وتتميز بتكامل قدرتها الحربية، وخصوصا القدرة العسكرية والشبحية، وتمتلك اليوم أقوى جيش بالمنطقة من حيث العدة والعدد والاحتراف ومؤدلج طائفيا، وتحتكم على موارد مكتسبة ذات طابع أيديولوجي طائفي ،وتستغل حاجة روسيا والصين لموقعها ودورها في تحقيق التأثير الأيديولوجي والمسلح لتغير الخارطة السياسية في المنطقة والسعي لدور فوق الإقليمي.
يلاحظ التطور المتعاظم في قدرة إيران العسكرية وتطوير الأسلحة الإستراتيجية وخصوصا القدرة الصاروخية،بالتزامن مع الاحتكام على الذراع الطويل الضارب "الحرس الإيراني" واتساع مؤسساته السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية وترهل مفاصل القدرة مما يجعلها قوة باحثة عن عدو دائم، وأضحت تسير النزاعات والحروب الخاصة عن بعد ، ويمكن وصفه بالتوغل الذكي عبر شبكة الأحزاب والمليشيات الطائفية المسلحة في سدة السلطة كما في لبنان والعراق ، وأخرى مهيأة كخلايا نائمة تنشط عند الضرورة الحربية وافتعال الأزمات السياسية، وتنتشر غالبية تلك الخلايا في خط الصدع العربي الإيراني ، وكذلك في أوربا وأمريكا وأفريقيا لتؤمن الاستقاء ألمعلوماتي والاختراق المجتمعي والدعم الإعلامي واللوجستي للخلايا العاملة والنائمة معا ، وبذلك أصبحت إيران قوة منفلتة تبحث عن رقع حرب في العالم العربي وتؤسس للعقد الطائفي الجديد.
المحظورات الإستراتيجية
اغفل المجتمع الدولي ومجلس الأمن المحظورات الإستراتيجية والتداعيات الخطيرة الناتجة عن غزو العراق ، وقد نسف معادلة التوازن العربي الإقليمي وأسهم في غياب الاستقرار في المنطقة، وأدى إلى انهيار البعد الرباعي المتوازن واستبداله بالبعد الثلاثي المبعثر الفوضوي ، وقد ادخل المنطقة في حزمة الاضطرابات السياسية والأمنية ، وبنفس الوقت يلاحظ تتنافس القوى الإقليمية الثلاث لملئ الفراغ بالعراق ، وتجسد على شكل نفوذ سياسي ومخابراتي مليشياوي ، ولعل التمدد الإيراني هو الأكثر وقد اذكي صراعات ونزاعات أهلية ذات طابع طائفي عبر شبكة المليشيات والتنظيمات المسلحة، وأضحت تلك التنظيمات الإرهابية تنتشر بشكل هلامي في العالم العربي كسلطة مسلحة سائبة وأداة وخز لخلق بيئة الاضطراب السياسي والأمني لصالح إيران، الساعية لتفكيك النظم السياسية العربية وترحيلها من "النظرية الدولاتية" إلى الدويلات الطائفية التابعة لها، وعند متابعة سلوكياتها سنلاحظ أنها تعمل على قضم الحدود السياسية العربية، وتفكك الديموغرافية العربية الموحدة إلى هويات أفقية طائفية متحاربة تنخر مفاهيم المواطنة.
المحظورات الإستراتيجية
قد تكون ابرز المحظورات الإستراتيجية الحالية هي:-
التمدد السياسي واتساع خارطة النفوذ والتأثير الإقليمي.
تخطي خطوط الأمن والسلم والتوازن ضمن النسق العربي الإقليمي.
اتساع نطاق الحروب الأيديولوجية عبر منافذها الاتصالية الواسعة لتهديم المنظومات القيمية الإسلامية والعربية والوطنية واستبدالها بأساطير وهمية تذكي الاحتراب الطائفي وتفكك التلاحم الشعبي .
الإسهام المباشر في حرب الإزاحة للمحاور الجيوسياسية العربية.
التمدد المليشياوي خارج الحدود المتاخمة لها لفرض الإحاطة في حروب المشاطئة وخلق مناخ الاضطراب السياسي والأمني وتوظيفه لعرض خدماتها على الدول المتمركزة للحصول على دور فوق الإقليمي .
خطورة تطور الدرع الصاروخي الإيراني دون ردع عربي
تؤكد نظريات توازن القوى الدولية "أن كل دولة يجب أن لا تكتفي فقط بالتصرف لإحباط تفوق الآخرين الذي يتم التهديد به ، بل عليها أيضا أن تقدر مسئوليتها في عدم أخلالها هي بالتوازن، وينطوي ردع الآخرين حتما على علاقة تضاد بينما يفترض ضبط النفس المتبادل بوجود علاقات توافق، ويشدد على ديناميكية التضاد على أن "ابسط أشكال توازن القوى المقصود هو توازن بين قوتين تتبع فيه أحدى القوتين سياسة لمنع القوى الأخرى من إحراز التفوق العسكري" وهذا ما لم يجسد في التوازن والردع بين العرب وإيران، وتتفوق إيران بقدراتها الحربية التي تكاملت ( مكننة الحرب - النووي - المعلومات - الفضاء ) ناهيك عن احتكامها على وسائل الاضطراب السياسي والأمني عبر توظيف القوة اللامتماثلة ( المليشيات الطائفية)، وبذلك لا رادع لإيران وهي تتخطى المحظورات الإستراتيجية وتملئ الفراغ هنا وهناك، وتعمل بقوة على تغيير ديموغرافية المنطقة واندثار المحاور الجيوسياسية العربية، لتنفرد بالمنطقة وتهيمن على مصادر الطاقة، وبذلك تدخل المنطقة في آتون حرب الهويات الفرعية والعقد الطائفي الجديد الساعي لتفكيك الدول العربية والمجتمعات ، خصوصا بعد نجاح السيناريوهات الدامية في لبنان والعراق والسعي لنقلها إلى دول عربية أخرى .
مهند العزاوي
مراجعة ملهم الملائكة