ذكريات عن سقوط جدار برلين وتوحيد اليمنين
٢ أكتوبر ٢٠١٠لا زلت أتذكر جيدا ليلة سقوط جدار برلين، حينما كانت الصور التلفزيونية تنقل لنا كيف كان "الستار الحديدي" يتهاوى تحت أقدام الألمان، الذين تسلقوا الجدار واصطفوا عليه ثم أخذوا يهدمونه بالمعاول والأيدي. كان الحدث مدهشا إلى حد أن المرء لم يكن يصدق ما كان يحصل. تابع العالم ذلك الحدث باهتمام كبير، لكن اليمنيين – وأنا كنت أحدهم- كانوا يتابعونه بإعجاب أكبر، وبعيون أخرى وربما بشيء من الحسد! فقد كان اليمن يعيش حينها حالة تقسيم مفروضة عليه بشكل شبيه بالحالة الألمانية. كان اليمنيون في جنوب بلادهم وشماله تواقون للوحدة، لكنهم ورغم كل وسائل النضال من أجلها، لم يتجرأوا للاندفاع نحو الحدود بشكل جماعي كما فعل الألمان، لأنهم كانوا يعون الثمن الباهظ لمغامرة كهذه.
انهيار جدار برلين ـ درس لليمنيين
أحيا سقوط الجدار الأمل في نفسي ونفوس اليمنيين بإمكانية تحقيق وحدتهم، كما ولّد رأيا عاما ضاغطا نحوها. وقد استشعرت القيادة السياسية في شطري اليمن آنذاك هذا التوجه ، لكنها أيضا ـ وذلك ربما كان الأمر الأهم ـ فهمت الرسالة التي وصلتها من برلين، والتي مفادها أن القوتين العظميين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) أعطتا "الضوء الأخضر" للوحدة، وأنها قد تخلت عن الطرفين لمواجهة مصيرهما. النظامان السياسيان في جنوب اليمن وشماله حاولا الهرب إلى الأمام حينها من أجل تجنب السقوط شعبيا، لم يكن أيا منهما مقتنعا بالوحدة مع نقيضه، لكنه كان مضطرا للقبول بها. وكان كل طرف يراهن على قدرته في المستقبل على إقصاء الطرف الأخر، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد.
يوم تعانق اليمنيون في الشوارع
بعد نحو ثلاثة أسابيع فقط من انهيار جدار برلين كانت "الجدران الوهمية" بين شطري اليمن تتهاوى بشكل متسارع، ففي 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 تم التوقيع بين قيادتي الشطرين على اتفاقية الوحدة، التي نصت على توحيد اليمن خلال سنتين، لكن لم تمر سوى خمسة أشهر حتى كان علم الدولة اليمنية الواحدة (والمُوحدة نظرياً) يرفرف في ربوع الوطن الواحد. وبمجرد رفع علم الوحدة في 22 مايو/ آيار1990 انطلق اليمنيون في شوارع صنعاء والمدن الأخرى للاحتفال بهذه المناسبة. كان الفرح يغمر الجميع، وكان الناس يعانقون ويهنئون بعضهم البعض دون سابق معرفة، وكانت الأناشيد الوطنية الحماسية تلهب المشاعر والأحاسيس المتأججة أصلا.
في تلك اللحظات عادت بي الذاكرة قليلا إلى الوراء، إذ تذكرت لحظة سقوط جدار برلين وأخذت أقارن بين حماسة الألمان وغبطة اليمنيين، لكني كنت ـ في لحظة نشوة ـ أعتبر أن ما تحقق في اليمن أكبر من أن يقارن بسقوط جدار برلين، فقد تحققت الوحدة بين اليمنيين، بينما ما تزال ألمانيا تفاوض على وحدتها. هذا "الغرور الوطني" دفع أيضا بالرئيس اليمني على عبدا لله صالح إلى إعلان استعداد بلاده "لمساعدة" ألمانيا على تحقيق وحدتها!
دولة بقيادتين وجيشين
على عكس ألمانيا، ألغت الوحدة اليمنية كل من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، وقامت على أنقاضهما دولة جديدة، هي الجمهورية اليمنية، بينما في الحالة الألمانية أُلغيت دولة جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقا وانضمت في كنف جمهورية ألمانيا الاتحادية، وأعقب ذلك انتخابات ديمقراطية لبرلمان وحكومة دولة الوحدة. ومن خلال انتخابات ديمقراطية أيضا غادر "مستشار الوحدة" هيلموت كول الحكم، ولم يقل ـ بل إنه لم يكن ليستطيع أن يزعم ـ أنه "بطل الوحدة" ومن حقه الحكم مدى الحياة مستعينا بالجيش والشرطة كما هو عليه الحال في اليمن.
وفي اليمن لم تقم الوحدة على أسس ديمقراطية، إذ تقاسم المناصب في الدولة الجديدة نظامان غير ديمقراطين، أحتفظ كل منهما بنفوذه وجيشه في مناطق تواجده، الأمر الذي لم تتحقق معه الوحدة الاندماجية الفعلية والكاملة، فنشأت دولة بقيادتين ذات توجهات أيديولوجية مختلفة، ما لبثت أن لجأت إلى السلاح. كما أن قرار الوحدة اليمنية ـ ورغم التأييد الشعبي الواسع له ـ جاء من أعلى وباركه اليمنيون، بينما "صنع" الألمان الحدث بنفسهم وواكبه سياسيوهم. تلك المعطيات كانت من الأسباب الرئيسية لما عانت منه الوحدة اليمنية فيما بعد من مصاعب.
الحرب التي "قصمت" ظهر الوحدة
بعد الوحدة الالمانية سارعت برلين إلى ضخ المليارات لاعمار الولايات الشرقية، وأشركت الحكومة المواطنين في تحمل نفقات تنمية تلك الولايات من خلال فرض ضريبة "تضامن" لهذا الغرض. أما في اليمن فاتسعت رقعة الفقر الذي عم في كلا الشطرين، بينما تكونت فئة نافذة في السلطة جعلت من الوحدة مشروعا استثماريا على حساب السواد الاعظم من الشعب. فأخذ بريقها يخفت شيئا فشيئا، وبدأ الناس يعانون من المصاعب الاقتصادية التي خلفتها الأزمات السياسية المتكررة في قيادة الدولة، واصيبت البلاد بحالة شلل شبه كامل. ولأن طرفي الوحدة كانا غير مقتنعتين بالطريقة التي تمت بها، فقد حاول كل منهما بأثر رجعي إقصاء الأخر، الأمر الذي أوصل البلاد في نهاية المطاف إلى الحرب في عام 1994، تلك الحرب التي أثارت المخاوف من بداية النهاية للوحدة اليمنية.
وعندما شنت صنعاء الحرب على القيادات الجنوبية التي كانت عمليا قد عادت إلى عاصمة الجنوب سابقا عدن، رد هؤلاء بقصف العاصمة صنعاء وإعلان قيام "جمهورية اليمن الديمقراطية". ولازالت أتذكر تلك الليلة المشؤمة عند ما مر صاروخ سكود، قادما من عدن، من فوق رأسي وكاد أن يسقط على منزلي، حينها صرخت مصعوقا "لا نريد وحدة تزهق أرواح البشر"، رغم أني كنت من اشد المتحمسين بها. لكن علي عبدا لله صالح أعلن بصراحة "الوحدة أو الموت". لقد كسب صاالح الحرب، لكنه خسر قلوب الجنوبيين. إن "انتصار" قوات صنعاء واكتساحها عدن على طريقة الفاتحين تحت شعار "الله أكبر، لقد سقط هُبل"، وكذلك طريقة تعامل النظام فيما بعد مع الجنوبيين كمهزومين، خلق جرحا عميقا ما يزال ينزف في ذاكرة أبناء الجنوب الذين ترتفع أصواتهم ضد الوحدة التي تواجه اليوم خطر الفشل.
عبده جميل المخلافي
مراجعة: ابراهيم محمد
الدكتور عبده جميل المخلافي، صحفي ألماني من أصل يمني، يعمل لدى مؤسسة دويتشه فيله، وقد عايش قيام الوحدة اليمنية خطوة بخطوة عن كثيب. يعيش في ألمانيا منذ أكثر من خمسة عشر عاما.