عمره أكثر من ألف عام، توالت عليه مصائب أولها كانت في غزو المغول، وآخرها انفجار إرهابي قتل العشرات ودمر نصفه. شارع المتنبي في بغداد، ملتقى المثقفين وأمل العراقيين في مستقبل أفضل بعيداً عن الفساد والتعصب.
إعلان
عند شارع المتنبي في بغداد يلتقي المثقف والمسافر والباحث عن كتاب والمشتاق إلى بغداد القديمة، الكتب تفترش الدرب باحثة عن قراء، كتب لم يكن لها أن تظهر إلى العلن خلال أكثر من ثلاثين عاماً من حكم صدام حسين، حين كانت الثقافة لعقود "تحت السيطرة". كل هذا تغير وبات شارع سوق الكتب وسط بغداد يتنفس الصعداء بعد عام 2003 وأصبح مرآة للحرية والكلمة، لكن طالته أيضاً يد الإرهاب باستهدافه في مارس/ آذار 2007، في انفجار أدى إلى مقتل العشرات ودمار الكثير من المكتبات والمطابع في الشارع.
شارع المتنبي من أقدم شوارع بغداد، إذ شُيّد في نهاية العصر العباسي، أي قبل أكثر من ألف عام، حيث ظهرت محال الوراقين وبائعي الكتب أولاً. البداية كانت كما يقول مؤرخون، مع أكشاك الكتب، ثم شُيّدت المباني والمساكن، وفي العهد العثماني بُنيت المنازل من الطابوق. في عام 1932 أطلق عليه الملك فيصل الأول اسم المتنبي بسبب كثرة مكاتب بيع الكتب فيه والمقاهي التي يرتادها الشعراء والأدباء.
هنا كان يُصنع الرأي وتدور الحوارات بين المثقفين وتطبع الكتب وتنصت العقول حين كان يتحدث عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، أو يلقي الجواهري قصيدة في مقهى بالشارع.
مع سقوط نظام صدام بدأ المتجول في ربوع شارع المتنبي يشاهد كُتباً، مُنعت من التداول لعقود من الزمن، سواء كانت دينية أم سياسية، فقد اختفت "خطابات القائد "، لتحل محلها كتب تعنى بتاريخ العراق وحاضره. وتباع اليوم كتب مثل "العراق الأمريكي" للمفكر حسن العلوي وكتب المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو وكتب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، وهذه الكتب كانت تُباع حتى عام 2003 في الخفاء خوفاً من بطش السلطة التي لم تكن تتفق مع ما فيها.
يقول عبد الرزاق، وهو من مرتادي الشارع الدائمين بحثاً عن عن هواء مختلف عن هواء الفضائيات: "شارع المتنبي جنة بغداد". هذه "الجنة" وثّقت تاريخ عاصمة العراق منذ أكثر من ألف عام، من يوم ظهوره مروراً بتدميره على يد المغول يوم سقوط الدولة العباسية، وخلال حكم العثمانيين الذي امتد على مدى خمسمئة عام تقريباً وحتى تأسيس الملكية في العراق مطلع القرن العشرين، ثم سقوطها على يد الجيش في الخمسينات، ثم الانقلابات المتتالية مع ظهور الجمهورية وحتى سقوط نظام صدام حسين مع دخول الجيش الأمريكي عام 2003، ثم الهجمات الإرهابية المتتالية وحتى اليوم.
شارع المتنبي نبض الرأي العام
المعروض من الكتب تغير مع كل نظام، من ماركسي إلى عربي قومي إلى إيديولوجي بعثي يمجد شخصاً واحداً، إذ طالما حاولت الأنظمة التي مرت على العراق منذ مئة عام كبح جماح عقل المثقف في العراق ولا مكان أفضل لفعل ذلك من شارع المتنبي. يضيف عبد الرزاق في حوار مع مراسل القناة الألمانية الأولى ARD: "هنا يلتقي المثقفون والباحثون عن العلم والفضاء الحر". لكن كثيراً من الكتب المعروضة اليوم لا تلائم ذوق عبد الرزاق، الذي كان يرى الكتب الماركسية تُعرض في خمسينات القرن الماضي في الشارع، واليوم دخلت كتب دينية متطرفة من كل حدب وصوب، إلا أن النقاش مفتوح ولا ممنوع إلا الإرهاب.
بعض من يلتقي للنقاش حول الكتب يجلس قرب تمثال أبي الطيب المتنبي. كأصيل، وهي شابة ترتدي نظارة شمسية واسعة تحميها من شمس بغداد القوية. تقول أصيل: "المكان هنا ثقافي وحضاري. يذكرنا بتراثنا العراقي وبأجدادنا، وفي نفس الوقت فهو حديث. هنا الكثير من الكتب. تمكننا من رؤية المستقبل من خلال تجارب الكتاب والشعراء".
مقهى الشابندر
في انفجار عام 2007 الذي تسبب بمقتل العشرات، وتدمير مبان تاريخية قديمة ومكاتب، طال الانفجار أيضا مقهى الشابندر الشهير، نقطة لقاء المثقفين وأصحاب الرأي. المقهى افتتح في عام 1917. في السبعينات أصبح المقهى ملكاً للحاج محمد الخشالي، رجل يرتدي "عرقجينة" سوداء على رأسه، حين يتحدث تظهر ابتسامة من خلف شاربه رغم الحزن الذي يعانيه، يروي بحزن: "الشابندر والمتنبي عانى من انفجار عام 2007، في المتنبي سقط 68 قتيلاً، وفي المقهى قتل أربعة من أبنائي والخامس حفيدي".
بعد الانفجار بدأت عمليات ترميم للشارع لكنها تأخرت بسبب الاقتتال الداخلي ثم هجمات تنظيم "داعش". ومن خلال إدارة بلدية العاصمة وتبرع جهات بنكية وتجار أعيد ترميم الشارع من دون المساس بمعماريته وتراثه، وافتتح من جديد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ولادة جديدة للشارع العريق، لكنها لا تنسي الناس وخصوصاً الحاج محمد أولاده وحفيده الذين سقطوا ضحايا.
في المقهى صورهم معلقة على جدار خلف كرسيه. وفي باقي زوايا الجدران معلقة صور ملونة أو بالأبيض والأسود، لساسة وشعراء وأدباء ومشاهير زاروا المقهى خلال عقود من عمره. يضيف الحاج محمد الخشالي: "المقهى رمز الثقافة والمثقفين في بغداد. كل سائح يزور بغداد يأتي إلى هنا".
الفساد والأحزاب والمتنبي
في الفترة الأخيرة بدأ بعض السياح بزيارة بغداد والعراق، لكن كثيرين ممن يتمنون زيارة العاصمة يخشون من الصواريخ التي تطلق بين الحين والآخر على المنطقة الخضراء . ولذا فإن أكثر مرتادي المقهى عراقيون وعراقيات. ندى سيدة عراقية وربة بيت ومحبة للثقافة، ترى أن الأمور مازالت "غير طبيعية في العراق"، خصوصاً لأن المجتمع العراقي منقسم أثنياً ودينياً ولم يلتأم بعد عشرين عاماً من سقوط نظام صدام حسين. توضح بالقول :"بسبب الأحزاب! بسبب الوضع السياسي والأحزاب (والتي كلها أحزاب دينية أو أثنية) هناك خلافات عميقة بينها، هذه الخلافات تنعكس على الناس والشعب هو الضحية".
أحزاب تسببت في فساد عميق طال مؤسسات الدولة والاقتصاد، وممثلوها يجنون الأموال من ريع بيع النفط والصفقات المشبوهة، فيما يعاني الشباب من عدم الحصول على عمل والفقر. زينب، ابنة ندى تحلم بالعيش خارج العراق، حيث الحياة أكثر عصرية ولا يفرض عليها ارتداء الحجاب، ولا يقود المجتمع نظام أبوي متسلط. تقول زينب (18 عاماً): "يتحكم الرجال فينا نحن النساء. الحياة صعبة حقاً بالنسبة لنا هنا. لا تعيش كل امرأة بأمان هنا ولديها حقوقها. أعني، نحاول البقاء كما لو كنا في حرب".
في الشابندر تجد زينب وأمها ندى أشخاصاً يفكرون معهم بنفس المستوى وبصوت عال. يتناقشون حول ما يجري في العراق والعالم. يتحاورون حول الأدب العالمي والعراقي، وحول كتب سياسية وأدبية ودوواين الشعر. يقول أحد أصحاب المكاتب، اسمه ماهر: "شارع المتنبي هو الأمل الوحيد المتبقي. إعادة إعماره وبنائه تمنحنا الثقة. نتمنى أن تطال يد الإعمار شوارع أخرى. والبداية هنا مهمة جداً".
بيورن بلاشكه/ عباس الخشالي
العراق - قصة النخيل المحارب في "أرض السواد"
طالما افتخر العراقيون بأنّ بلدهم يضم ثلاثين مليون نخلة، رغم عدم وجود إحصاء رسمي بذلك، لكنهم يذكرون من يسمعهم بعبارة "أرض السواد" التي تصف غطاء النخيل الذي يسود العراق. ولكن ماذا حل بالنخل اليوم؟ الجواب في ملف صور التالي.
صورة من: Wisam
نخيل ديالى.. "فوق النخل فوق"
احتفظ نخيل ديالى في أغلب الأماكن برونقه، وبقي باسقاً يانع الخضرة يظلل بساتين الحمضيات التي تميّز هذا الجزء من أرض الرافدين. معارك الحرب العراقية الإيرانية في هذه المنطقة أهلكت بالخصوص بساتين منطقة مندلي، فيما احتفظت البساتين الأخرى البعيدة عن خط التماس بيناعها. الصورة من بساتين منطقة شهربان، حيث حافظ توفر المياه على بساتين النخيل.
صورة من: Muhsin
بساتين النخيل مظلات للحمضيات
يزرع فلاحو ديالى النخيل ليوفر مظلة لأشجار الحمضيات التي تنتشر بكثافة في هذه المنطقة المجاورة للعاصمة بغداد. تضم بساتين الحمضيات أشجار البرتقال، والليمون الحلو، والليمون الحامض، وغريب فروت (السندي بلهجة أهل العراق)، واليوسفي (لالنكي). وهي أشجار تحتاج الحرارة، ولكنها تحتاج الرطوبة أيضاً، ولا تحب مساقط الشمس العمودية عليها، لذا توفر لها بساتين النخيل الظلال، ولا يهتم المزارع هنا بجني النخيل.
صورة من: Muhsin
النجاة من الحروب
منطقة ديالى في العراق من المناطق التي شهدت عمليات قتالية فيها كر وفر مع تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، حتى أنّ الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي قُتل في بساتين النخيل بمنطقة هبهب من محافظة ديالى متخفياً في كثافة البستان. لكنّ المعارك الموزعة هنا وهناك لم تدمر بساتين النخيل، كما جرى في مناطق أخرى من العراق. الصورة لبستان نخيل في ناحية ضباب، وسط ديالى.
صورة من: Muhsin
اليناعة رغم الإهمال
يحتاج النخل إلى الماء والسقي الصيفي خاصة، لكنّ عمليات إعداد النخلة للإثمار معقدة، وتتطلب رعاية وزيارات متكررة من الفلاحين المختصين بتسلقها وتقليمها وتلقيحها وحفظ اللقاحات ثم جني المحصول مرات عدة. روح النخلة في رأسها كما يقول العراقيون. الصورة لنخيل من منطقة السعدية شمال شرق ديالى، حيث لم يقم الفلاح برعاية النخل وحافظ على بقائها يانعة فحسب.
صورة من: Muhsin
نخيل البصرة المُحارب!
يصدق الوصف على هذا النخيل بالمحارب، لأنّ مصيره تشابك مع الحروب، الحرب العراقية الإيرانية، غزو الكويت وتحريرها، وحرب إسقاط صدام حسين عام 2003. أوسع عمليات تخريب طالت هذه الغابات الشاسعة في سنوات الحرب الثمان مع ايران، حين أمر صدام بحرق وتجريف بساتين النخيل خوفاً من تسلل قوات إيرانية إلى داخلها، وإمعاناً في حرب سكان مناطق الأهوار المتمردين. الصورة على ضفة شط العرب المواجهة لإيران.
صورة من: Wisam
نخيل الأهوار المنسي
أدت عمليات تجفيف الأهوار، في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين إلى تدمير ألوف الهكتارات من غابات النخيل في المنطقة الممتدة من هور الحمار إلى هور الصحين والجبايش اتصالاً بغابات نخيل البصرة. التجفيف جاء لتجريد عشائر الهور المتمردة على سلطة صدام حسين عن محيطها الطبيعي. الصورة لأطراف غابات النخيل الهالكة على نهايات هور الجبايش.
صورة من: Wisam
تدني أسعار التمر
أهمل فلاحو البصرة العناية بنخيلهم لأسباب عدة أخرى لا تتعلق بالحروب، بل تتعلق بتدني أسعار التمور في أسواق العراق، مقارنة بأسعارها في أسواق بلدان الجوار. رعاية النخلة حتى تؤتي جناها، تتطلب عمليات طويلة مستمرة ومكلفة، وفي البصرة يشكو الفلاح من أنّ عائد التمر لا يسد تكاليف زراعته، لذا أهمل الفلاحون بساتين النخل، وبدأ القصب والعلف يزحف عليها. الصورة لنخل منطقة السيبة.
صورة من: Wisam
التمور المستوردة تغزو أسواق "أم النخيل"
بسبب تدني حاصل التمور في البصرة، تدفقت على أسواقها تمور إيرانية وسعودية وخليجية. المستهلك يقول إنّ تمور العراق غير معتنى بتسويقها، تغليفاً وتعليباً وتنظيفاً، وتعرض في الأسواق بشكل بدائي، لذا لا تحظى برضا المشترين. الصورة لتمور إيرانية في أسواق البصرة "أم النخيل" ما يشكل مفارقة محزنة.
صورة من: Wisam
نخيل بغداد خسر الحرب مع الفساد
نخيل العاصمة بغداد تساقط ضحية حروب من نوع آخر، فالعاصمة تتسع منذ عام 2003 بشكل عشوائي غير مسيطر عليه، ويتدفق عليها العراقيون من كل ناحية، حتى بات مُلاك البساتين الأثرياء يقتلون غابات النخيل بسكب النفط في قلب كل نخلة حتى تهلك، لتجريف أراضيها وتحويلها إلى أراضٍ سكنية تباع بملايين الدولارات. الصورة من بساتين نخيل الدورة في قلب بغداد.
صورة من: DW/A. Malaika
بساتين الدورة - كيف تُباع اليوم؟
طبقاً للقانون، فإنَّ أراضي البساتين في عموم العراق مملوكة للدولة، ومؤجرة لمدد تصل إلى 99 عاماً للفلاحين الذين يزرعونها، وتسمى الأراضي الأميرية. لكنّ هذا القانون لم يعد فعالاً بعد عام 2003 حيث ضعفت الدولة. بساتين الدورة الهالكة الظاهرة في الصورة لا يمكن بيع أراضيها رسمياً، لكنّ سعر المتر المباع بشكل غير قانوني هنا يصل اليوم إلى 3 آلاف دولار حسب مكاتب بيع العقارات في العاصمة.
صورة من: DW:A. Malaika
الحرب على النخيل في شرق العاصمة!
شهدت مناطق جنوب وجنوب شرق العاصمة عمليات تجاوز على بساتين النخيل المملوك بعضها للدولة، والمملوك قسم منها لأشخاص. وهكذا يجري قتل النخيل في مناطق، بسماية، جسر ديالى، بوب الشام، والحسينية، وأطراف الراشدية. الصورة في أطراف منطقة محمد السكران، حيث تتلف البساتين لتحويل أراضيها إلى قبور تباع بأسعار باهظة للناس.
صورة من: DW/A. Malaika
تشجير قناة الجيش.. ذهبت الأموال ومات النخيل
منذ عام 2011 أطلقت أمانة العاصمة حملة لتشجير قناة الجيش التي تربط دجلة بنهر ديالى. بلغ طول مشروع التشجير بالنخيل 23.5 كم. أنفقت الأمانة مبلغ 146 مليون دولاراً، وأحالت المشروع إلى شركات متعاقبة فشلت كلها وهربت دون حساب. وحسب الصحافة العراقية، شُتلت أكثر من 20 ألف نخلة على ضفتي القناة، هلكت كلها بسبب عدم سقيها. الصورة لجزء من المشروع بمنطقة الشعب.
صورة من: DW/A. Malaika
نخيل بابل الذي لم يخض حرباً!
بساتين النخيل الشاسعة اليانعة العامرة في منطقة بابل جنوب بغداد وسط العراق، لم تطلها الحروب، ولم تطلها أيدي الفساد والتخريب غالباً. هذه البساتين احتفظت بيناعها وترتبط عادة ببساتين كربلاء وعين تمر. الصورة لبساتين النخيل قرب آثار بابل.
صورة من: DW/Samir
نخيل بابل الباسق
يتوفر الماء في بابل عبر نهري الحلة والفرات، وهكذا فإنّ بساتين النخيل تحصل على حصص مائية منتظمة تحفظ لها يناعها، وتمكنها من الحياة. النخل هنا مثل ديالى يظلل بساتين البرتقال، وبساتين الرمان.
صورة من: DW/Samir
الزحف السكاني
يعزو المختصون في بابل احتفاظ المدينة ببساتينها من النخيل إلى توفر المياه أولاً، وإلى حرص دوائر المحافظة على حماية البساتين. كما كشف مصدر في المحافظة حصريا لـDW عربية عن تخصيص ملايين الدولارات سنوياً، لزراعة التالات الشابة وتكثيرها مختبرياً ميدانياً. الصورة في طرف منطقة سكنية بمدينة الحلة، حيث لم تقاوم تالات النخيل اليافعة والنخلات الباسقة الزحف السكاني.
ملهم الملائكة - العراق