عبد الكريم قاسم: زعيم وطني يفتقر إلى دهاء الساسة
١٥ يوليو ٢٠١١
صباح يوم 14 تموز عام 1958 قامت الجمهورية العراقية الأولى، الدولة الجديدة قامت من خلال انقلاب عسكري قاده الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.
وقدر ما كان الحدث مثيرا للجدل ، وبقي حتى اليوم مثيرا لمزيد منه ، فإن شخصية بطل الحدث ظلت هي الأخرى مثيرة للجدل، حيث أن أغلب العراقيين من مختلف انتماءاتهم يحبونه ويصفونه بالزعيم الشهيد، لكن السياسيين عموما يعتبرونه سببا لكثير من مشكلات العراق التي بقيت آثارها حتى اليوم.
ولو نظر المراقب إلى ما حدث بعد تجريده عن بعده العاطفي، فإن تلك"الثورة" خرجت بالعراق عن مسار تطوره الديمقراطي الطبيعي الذي بدأ بقيام الدولة الجديدة عام 1920 ، لتضعه على مسار القفز غير المتوازن الذي يفتقر إلى تخطيط بعيد المدى وهو ما تحتاجه أي دولة ديمقراطية قوية تسعى أن تقف في مصاف الدول الحديثة الناجحة.
لكن الذي يعنينا في هذه العجالة هو أن نضع تحت الضوء شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، نزاهته، وفاءه للعراق، إخفاقاته، سلبياته، مساحات الفشل التي خلفها، ومنجزاته في خلال خمسة أعوام، والمؤامرات التي تعرض لها خلال أيام حكمه القصير، علاقاته بدول الجوار، علاقاته بالأحزاب السياسية العراقية.
"قاسم: نزاهة وانضباط ونظافة يد وابتعاد عن الطائفية "
من برلين تحدث الكاتب والخبير في الشؤون السياسية د. كاظم حبيب إلى مايكروفون برنامج العراق اليوم من دويتشه فيله مستعرضا ملامح مهمة من شخصية قاسم مبينا أن "ما يميزه النزاهة والدقة والانضباط ونظافة اليد والبعد عن الطائفية ، بل كان علمانيا بعيدا عن القومية الشوفينية، وفي المجمل كانت صفاته مفيدة للشعب العراقي في تلك المرحلة، لكن علينا أن لا ننسى انه كان عسكريا في المقام الأول، والعسكرية لا تعرف غير الانضباط والدقة والقرار الفردي ، وهذا يضعف الجانب الديمقراطي لدى أي زعيم، ولا يفوتنا القول انه كان قائدا شعبيا ذو كاريزما محبا للفقراء لأنه ينحدّر من عائلة فقيرة ".
ونفى د. حبيب أن يكون قاسم شيوعيا، ولم يكن ماركسيا ولا يساريا، بل أن الحكومة التي شكلها قاسم بعد الثورة ضمت كل الطيف السياسي باستثناء الحزب الشيوعي، علما أن التنظيم العسكري للحزب كان متعاونا بشكل وثيق مع حركة الضباط الأحرار من خلال سعيد مطر وغيره، وفي هذا كان قدر كبير من الحيف وعدم الإنصاف ". واستدرك د. حبيب منبها ان قاسم كان وطنيا ،وعيبه الأكبر كونه فرديا ، يفتقر الى ثقافة الديمقراطية، وقد مارس سياسة خاطئة قادت إلى مزيد من الصراعات بين الأحزاب السياسية، لكن لابد من الإشارة أيضا أن سياسات الأحزاب في مجالات كثيرة كانت خاطئة هي الأخرى.
وذكّر د. حبيب بموقف المرجعيات الدينية في العراق التي وقفت ضد عبد الكريم وضد مشروع الدولة العلمانية بسبب إصداره لقانون الأحوال الشخصية الذي منح المرأة حقوقا كثيرة.
مرحلة ضبابية رافقت ظروف الحرب الباردة
وتتصف المرحلة التي عاش فيها قاسم بالغموض وعدم اتضاح الرؤية وتسارع وتيرة التغيير على المستوى العالمي، وقد قادت التغييرات في تلك الفترة إلى وصول شخصيات كثيرة شاركت قاسم في كثير من الصفات ومنها رومانسية تصوراتهم حول شكل الدولة الجديدة التي راموا إقامتها، والملفت للنظر أن تلك الشخصيات في الغالب انتهت نهايات مأساوية كما كانت نهاية القائد الراحل قاسم، وفي هذا الصدد يُذكر د. مصدّق في إيران، و باتريس لومومبا زعيم ثورة الكونغو، واحمد سوكارنو زعيم ثورة اندونيسيا، وفيدل كاسترو ورفيق دربه آرنستو تشي جيفارا زعماء ثورة كوبا، والى حد ما جمال عبد الناصر .
ومن هذه القاعدة غالبا ما وصف قاسم بالقائد الشعبي ولكن هذا الوصف لم يكن ليضعه في مصاف قائد دولة.
وفي هذا السياق عرض الكاتب عبد المنعم الأعسم في حوار العراق اليوم من دويتشه فيله أن قاسم كان يفتقر إلى روح العمل الجماعي، وشاهد ذلك " اختياره لمن كانوا يحيطون به من كوادر قيادة الدولة، فالفريق الذي أحاط به خذله وقت محنته مع الانقلابيين، فأحمد صالح العبدي الذي كان يتولى منصب الحاكم العسكري العام كان شخصية سلبية تتلقى أوامرها من قاسم إملاء، وكذلك إسماعيل عارف وهو أيضا من المقربين له ووزير الداخلية احمد محمد يحيى والجنرال عبد الجليل الذي يقود أجهزة الأمن كان معاديا للديمقراطية، هذه الاختيارات كانت كارثية ، فالبلد يعج بالشخصيات اللامعة والمهمة، ولكنهم كانوا مبعدين في ظل إيمان قاسم بأنه الوحيد القادر على إدارة الدولة .غير ذلك فقد كان الزعيم رجلا ذو معرفة محدودة في مجال العلاقات الدولية لاسيما انه عاش في أوج الحرب الباردة والعلاقات الدولية المتشابكة ولم يدرك صعوبة تسيير الأوضاع في تلك الظروف".
ولفت الاعسم الأنظار إلى الموقف السلبي الذي اتخذه جمال عبد الناصر وسوريا من الزعيم الراحل ومواقف دول الخليج مؤكدا على أن عبد الناصر قد حاك المؤامرات ودعم تسليح المتآمرين لإسقاط قاسم، " لكن لا يفوتنا أن نذكر، أن تعامل قاسم مع دول الجوار، سوريا والأردن وإيران وتركيا والكويت لم يكن ناضجا بما يكفي، وخصوصا الكويت حيث كان موقفه من الكويت متعجلا متسرعا غير مدروس، ولكنه وفي جانب آخر حقق منجزات كبيرة على صعيد وضع العراق في الخارج، حيث خرج من هيمنة منطقة الإسترليني ، ودعم قوة العملة العراقية لتقف مستقلة عن غيرها بغطائها النفطي الكبير، كما سن القانون رقم 80 للنفط".
القوميون: "قاسم شعوبي وشيوعي "
ساد المنطقة العربية في عقدي خمسينات وستينات القرن الماضي مد قومي ساحق استلهم أصوله الفكرية من التجربة التركية، بل أن ساطع الحصري وهو من كبار منظري هذا التيار كان تركيا. كان هذا المد يرى في مشروع الوحدة العربية الكبرى حلا قريبا وممكنا لكل مشكلات المنطقة، وتبنت أحزاب قومية عدة هذا الهدف ضمن استراتيجياتها وسعت إلى تحقيقه، وقد تحقق في هذا الصدد مشروع الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت مصر وسوريا والتي خطط لها أن تكون اللبنة الأولى على طريق الوحدة الشاملة، لكنها انتهت بفشل ذريع لأسباب لا مجال لذكرها هنا.
الكاتب نزار السامرائي شارك في الحوار من دمشق مشيرا إلى أنه "حين قيام ثورة 14 تموز عام 1958 كان شعار الأحزاب القومية هو الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، وقد وقف الحزب الشيوعي العراقي ضد هذا الشعار وتوافق معه في الموقف عبد الكريم قاسم ،فيما توافق مع شعار الأحزاب القومية الرجل الثاني في ثورة العراق وهو عبد السلام عارف. هذان الموقفان خلقا تخندقا متقابلا في الشارع السياسي في البلد ، فطرف يدعو إلى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، فيما عبد الكريم قاسم يدعو إلى إتحاد فيدرالي ، ولم يكن الشعاران في وقتهما مبررين، وإنما كانا شعارين متسرعين تماما، لأن دولة تنشئها ثورة لابد لها من أن تثبت نفسها أولا وتضع أسسا وبنى تؤهلها للوقوف على قدميها للخروج من عهد الاستعمار، والشيوعيون تعجلوا بربط أنفسهم بالاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية، والبعثيون والقوميون تعجلوا بربط أنفسهم بعبد الناصر وبمشروعه القومي الوحدوي ، وأثار اصطفاف قاسم مع شعارات الحزب الشيوعي ورفض مشروع الوحدة رافعا شعار الجمهورية العراقية الخالدة غضب القوميين في العراق وجواره العربي. وفي ذلك العصر كان كل من يتبنى أي مشروع مضاد للمشروع الوحدوي العربي يوصف بالتوصيف السائد آنذاك وهو "الشعوبية"، من هنا جاء اتهام عبد الكريم قاسم بالشعوبية.
ويؤخذ على ثورة 14 تموز قتل القائمين بها بشكل دموي للعائلة المالكة العراقية ورئيس الحكومة آنذاك نوري السعيد، وما رافق أعمال القتل من فظائع، لا سيما وأن التاريخ لم يسجل جرائم ارتكبت في ذلك العصر ونسبت الى الملك وحكوماته. باسم الشمري في اتصال من بغداد انتقد قاسم مثيرا عددا من الأسئلة ، أهمها في تقديره : "كيف سمحت بريطانيا التي كانت تمتلك قوات كبيرة في العراق بتحرك لواءين من الجيش العراقي إلى بغداد وقيامهما بإسقاط الملك فيصل الثاني وحكومته الموالية لهم؟".
ملهم الملائكة
مراجعة: هبة الله إسماعيل