علاء الأسواني: ألمانيا يجب أن تظل قوية.. (1)
١٨ سبتمبر ٢٠١٧ـــ هل رأيت ما فعلته ميركل..؟
تردد هذا السؤال كثيرا بين المصريين في صيف 2015 عندما اتخذت المستشارة أنغيلا ميركل قرارها بفتح الحدود الألمانية لاستقبال آلاف السوريين الهاربين من أهوال الحرب الأهلية. كيف أثر قرار ميركل على صورة ألمانيا في أذهاننا نحن المصريين؟... تقليديا، ترتبط ألمانيا في أذهاننا بالصناعة الممتازة.. من السيارات إلى أدوات المطبخ إلى الأدوات الطبية إلى الأجهزة الكهربائية. يكفي أن يعرف المصري أنها مصنوعة في ألمانيا حتى يتأكد أنها الأفضل.
أبناء الطبقة المتوسطة في مصر يتسابقون لإلحاق أطفالهم بالمدارس الألمانية لأنهم يؤمنون أنها تقدم تعليما جيدا وتصقل شخصية التلميذ وتعوده على الاستقلال والاعتماد على النفس، حتى في كرة القدم (اللعبة الشعبية الأولى في مصر) يعشق المصريون الأداء البرازيلي الذي يعتمد على استعراض المهارات الفردية والحركات الاستعراضية إلا أنهم يتابعون بانبهار أداء المنتخب الألماني القائم على التخطيط واللعب المنضبط والتمريرات المحكمة من أجل إحراز الأهداف حتى أن الصحف تطلق على اللاعبين الألمان "الماكينات الألمانية".
هكذا ترتبط ألمانيا في أذهاننا دائما بالجدية والإتقان والكفاءة، وبرغم ذلك فإن المصريين عادة لا يتوقعون مواقف منصفة من الحكومة الألمانية لأنها في النهاية مثل بقية الحكومات الغربية لا يهمها إلا تحقيق مصالحها الاقتصادية. لقد ظلت الحكومات الغربية على مدى ثلاثين عاما تلقى خطبا بديعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت تعلن دعمها الكامل لديكتاتور فاسد مثل مبارك وتتجاهل جرائمه القمعية في حق الشعب المصري.
كان مبارك ينظم استفتاءات مزورة يحصل فيها على 99 في المائة من أصوات الناخبين ( الذين لم يذهبوا للاقتراع أصلا) وعقب كل استفتاء كانت الحكومات الغربية تصدر بيانات تؤكد فيها "أن الاستفتاء لم يكن نموذجيا لكن مصر تخطو على طريق الديمقراطية الطويل الصعب"، هذه الكلمات المنافقة كانت تؤكد للمصريين أن عليهم أن يتوقعوا التعاطف الحقيقي من الشعوب الغربية وليس الحكومات الغربية التي لا تفهم إلا أرقام الأرباح التي تحققها الشركات العملاقة. على أن قرار ميركل بإنقاذ حياة الآلاف السوريين البؤساء كان مفاجئا، فخلق لأول وهلة حالة من عدم التصديق بين المصريين أعقبتها بهجة ممتزجة بالإعجاب بالمستشارة ميركل لأنها أثبتت أنه بإمكان سيدة تحكم أقوى دولة في أوروبا أن تتخذ قرارا، ليس لتحقيق مصالح اقتصادية كما اعتدنا من الساسة الغربيين، وإنما بدوافع إنسانية لإنقاذ حياة ألاف اللاجئين الذين هم ليسوا ألمانا ولا غربيين ولكنهم مجرد بشر هربوا بأطفالهم من جحيم الحرب الأهلية. أثبتت ميركل أننا كبشر علينا واجب يلزمنا الشرف أن نؤديه. أصبحت للسيدة ميركل شعبية طاغية بين المصريين وقد ساعد على ذلك الكاريزما التي تتمتع بها ومظهرها الذي يذكرك بأم جادة مخلصة شجاعة ستفعل كل شيء لحماية أطفالها ورعايتهم وتلك الابتسامة الطبيعية الوديعة التي تحرج ببراءتها أشد خصومها شراسة وعدوانية.
على أن قرار ميركل الإنساني بقدر ما أثار إعجاب المصريين قد تسبب في ارتباك شديد بين المتطرفين الإسلاميين في مصر ، هؤلاء تعتمد دعايتهم على الكراهية والإدانة الجماعية، إنهم يقنعون الآلاف من أتباعهم بأن الغرب الصليبي يكره المسلمين ويسعى للقضاء على الإسلام وهم يعتبرون أن الغربيين جميعا مسئولون عن الجرائم التي يرتكبها الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان. هاتان الفكرتان: الكراهية والإدانة الجماعية هما الوسيلتان لتجنيد أي شاب متدين من أجل القيام بعمليات إرهابية. بعد أن يتعلم الشاب في المسجد القراءة الوهابية المتطرفة يترسخ في ذهنه أن الغربيين أعداء الإسلام هم الذين يقتلون " أهلنا" ويغتصبون "بناتنا" في العراق وأفغانستان. بعد ذلك لا يحتاج الأمر إلى مجهود كبير من الشيخ حتى يقوم بغسيل مخ الشاب المسلم للقيام بعمليات انتحارية للانتقام من الغربيين الكفار وهو يموت مؤمنا أنه سيفارق عالمنا الزائل إلى الجنة الخالدة مباشرة حيث سينعم بالراحة والسعادة إلى الأبد بالإضافة إلى عدد كبير من بنات الجنة اللاتي سيتفانين في تلبية كل رغباته الجنسية.
كان قرار ميركل بمثابة ضربة قاصمة لخطاب المتطرفين الإسلاميين، فبينما أغلقت دول الخليج المسلمة الثرية أبوابها أمام اللاجئين السوريين هاهي رئيسة الحكومة المسيحية في أقوى بلد أوروبي تستجيب لنداء الضمير وتفتح بلادها لاستقبال آلاف المسلمين من أجل إنقاذ حياتهم. هل يوجد دليل أقوى من ذلك على أن ألمانيا لا تكره المسلمين ولا تريد القضاء على الإسلام؟! ثم انتشرت في وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي مشاهد زادت من ارتباك المتطرفين: مشهد مئات المواطنين الألمان وهم ينتظرون قطارات اللاجئين في ميونيخ والمدن الألمانية الأخرى وقد حملوا لافتات مكتوب عليها بالعربية "أهلا وسهلا "... مشهد الفتيات الألمانيات وهن يحملن لعب الأطفال لإهدائها لأطفال المهاجرين. مشهد الضابط الألماني الذي خلع قبعته العسكرية ووضعها على رأس طفل لاجئ صغير وراح يضحك معه.
كل هذه المشاهد الإنسانية الرائعة التي سجلها التاريخ ولن يستطيع أحد أن يمحوها قد أصابت المتطرفين بصدمة فبدلا من الكراهية التي يسممون بها عقول المصلين في مساجدهم غمر المصريين إحساس بالامتنان والمحبة الغامرة شعر به كل الألمان الموجودين في مصر آنذاك. استغرقت صدمة المتطرفين بضعة أيام لم يعلقوا خلالها على الأحداث وفي النهاية خرجوا على أتباعهم بنظرية مؤامرة جديدة، إذ أكدوا في خطبهم وعلى مواقعهم الاليكترونية "أن أنغيلا ميركل قد قررت استقبال اللاجئين المسلمين من أجل تحويلهم إلى المسيحية".
بالطبع لا يوجد أسخف من هذا الكلام فالديانة المسيحية في حدود علمي لا تشكو من قلة اتباعها كما اننا لسنا في العصور الوسطى حتى يرغم أتباع دين الآخرين على اتباع دينهم بالقوة .أضف إلى ذلك أن ألمانيا دولة ديمقراطية تكفل حرية الاعتقاد للجميع. كان تفسير المتطرفين الإسلاميين متهافتا لدرجة أثارت سخرية الجميع. على أن قرار ميركل، مثل أي قرار تاريخي، قد أثار زوبعة من التأييد والرفض. لقد وجد اليمين المتطرف في ألمانيا وخارجها في قرار ميركل فرصة لتخويف الناخبين من اللاجئين حتى أن السيد الكسندر غاولاند مرشح حزب "البديل من أجل ألمانيا" قد صرح في الإذاعة الألمانية قائلا:
- إن مسألة اللاجئين السوريين هدية.
معنى العبارة واضح . إن ميركل التي كان مستحيلا على السيد غاولاند منافستها سياسيا بطريقة موضوعية قد قدمت بقرارها الإنساني هدية له لأنه يستطيع ترويع الناخبين حتى ينتخبوه ليحميهم ممن يعتبرهم مسلمين متوحشين.
* (المقال 1 من 2)
draswany57@yahoo.com
** المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة رأي مؤسسة DW.