علاء الأسواني: .. بين منطق جيليان وقبلة فايزة ..
٣ يناير ٢٠١٧واقعتان تستحقان التأمل ..
الواقعة الأولى حدثت في لندن منذ بضع سنوات. كان رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون في جولة يتناقش فيها مع المواطنين عندما التقى بسيدة مسنة اسمها "جيليان دوفي" اشتبكت معه في نقاش عنيف وهاجمت سياساته بشدة واتهمته بالكذب والفشل. حاول براون أن يرد على جيليان لكن هجومها ازداد عنفا فأنهى الحوار وركب سيارته وقال لمساعده:
"هذه السيدة متعصبة ولم يكن من المفروض أن أتناقش معها".
لسوء حظ غوردون براون أنه نسي الميكروفون مفتوحا ومعلقا على ثيابه فأذيعت اهانته للسيدة في الراديو وهنا انقلبت الدنيا. كيف يصف رئيس الوزراء مواطنة انجليزية بالتعصب لمجرد أنها هاجمت سياساته؟
اضطر رئيس الوزراء إلى الاعتذار بنفسه للسيدة جيليان ثم اعتذر للشعب البريطاني عن سوء تصرفه. الواقعة الثانية حدثت في مصر منذ أيام عندما ذهب الرئيس عبد الفتاح السيسي لافتتاح أحد المشروعات فتقدمت نحوه سيدة اسمها فايزة تحمل درجة الدكتوراة في البيئة وأسمعته فاصلا طويلا من المديح وقالت له: سأنتخبك مدى الحياة ثم انحنت لتقبل يده أمام الكاميرات لكن السيسي سحب يده.
الواقعتان تعكسان مفهومين مختلفين تماما للسلطة. السيدة جيليان تعتبر رئيس وزراء بريطانيا مجرد موظف عام وبالتالي من حقها أن تحاسبه وتوبخه كما يوبخ المدير مرؤوسا له لأنها كمواطنة تنتمي للشعب صاحب السلطة العليا على رئيس وزراء الذى هو مجرد خادم للشعب. في الواقعة الثانية سيدة مصرية متعلمة تندفع بحماس لتقبل يد الرئيس، انها لا تعتبره خادما للشعب وانما سيدا له، الرئيس عندها هو رمز الوطن والزعيم الملهم وهي تستمتع باعلان خضوعها المطلق له لأنه سيدها وسيد الشعب المصري كله.
ان السيدة فايزة تعيش في مصر وتعلم بلا شك أن سياسات السيسي الخاطئة قد أدت إلى اهدار مليارات الجنيهات في مشروعات لم تكن من الأولويات أو كانت عشوائية وغير مدروسة مثل مشروع توسيع قناة السويس الذي لم يحقق أي ايرادات بعد أن تم تقديمه على أنه مشروع القرن الذي سيحقق الرخاء الكامل للمصريين، السيدة فايزة لاشك تعلم أن هناك عشرات الآلاف من المصريين في السجون لمجرد أنهم يحملون آراء معارضة للسيسي الذى اعترف بأن كثيرين منهم مظلومون وهي تعلم أن الحياة صارت مستحيلة على ملايين المصريين بسبب الغلاء الفاحش الذى تسبب فيه السيسي، وهي تعلم ان حرية التعبير انتهت تماما في مصر فلم يعد هناك مكان في الاعلام الا للمداحين وعملاء الأمن. الدكتورة فايزة لاشك تعلم كل ذلك لكنها لا تهتم لأن الرئيس بالنسبة اليها فوق المحاسبة والنقد ولعلها ستفخر أمام أولادها وأحفادها بأن الرئيس قد تفضل وسمح لها بتقبيل يده الكريمة..
المشكلة ان فايزة ليست حالة فردية وانما هي تمثل قطاعا غير قليل من المصريين. انهم "المواطنون المستقرون" الذين عاشوا حياتهم كلها في ظل الاستبداد وتواءموا معه تماما لدرجة أنهم لا ينزعجون اطلاقا من القمع والتعذيب وتزوير الانتخابات والعبث بالدستور، انهم في الواقع يفضلون الاستبداد مع الاستقرار على الحرية اذا صاحبتها أية تقلبات أو صراعات. المواطن المستقر لا يهمه اطلاقا ما يحدث خارج أسرته ومشروعه الوحيد تربية أولاده وتعليمهم ثم تزويجهم والحصول لهم على عقود عمل في الخليج. انه يحتاج نفسيا إلى وجود الزعيم وهو يتقبل أخطاءه وقمعه مقابل احساسه بالأمان.
المواطنون المستقرون فوجئوا بالثورة ولم يفهموها ثم سرعان ما كرهوها وانساقوا بارادتهم لتصديق أكاذيب الاعلام ضدها ليؤكدوا لأنفسهم أن اذعانهم الطويل للاستبداد كان عين الحكمة. انهم لايريدون أن يصدقوا أن آلاف الشباب يضحون بحياتهم من أجل الحرية بينما هم عاشوا طيلة حياتهم في ظل القمع والاستبداد فلم يثوروا ولم يعترضوا. هؤلاء المستقرون هم الذين يسلمون أدمغتهم، بارادتهم، كل ليلة لأراجوزات الاعلام ليتم حشوها بالأكاذيب طبقا لتعليمات الأمن، هؤلاء المستقرون هم الذين برروا كل المذابح التى حدثت ضد شباب الثورة. هم الذين دافعوا عن دهس المصريين بالمدرعات في مذبحة ماسبيرو وقتل المتظاهرين بالرصاص ثم القاء جثثهم في صناديق القمامة في مذبحة محمد محمود وهتك أعراض البنات في مذبحة مجلس الوزراء. المواطنون المستقرون تظاهروا يوم 30 يونيو بعد أن تأكدوا أن الدولة تساندهم وتدعوهم للتظاهر ولو كانت دولة الاخوان نجحت وتوطدت لكان المستقرون قبلوا بحكم الاخوان وعاشوا في ظله آمنين.
المواطن المستقر ظاهرة حدثت في كل المجتمعات التى تعرضت لاستبداد طويل وهو يحمل وعيا مضادا للثورة ويحتاج إلى التغيير لكنه يرفض ان يدفع ثمنه. لا يوجد تناقض فكري بين النظام الحالي والاخوان، انهم وجهان لفاشية واحدة وهم يتصارعون فقط على السلطة وقد يقتسمونها في أي لحظة كما فعلوا من قبل. التناقض الحقيقي في مصر بين ثقافة الاستبداد ووعي الثورة. بين أجيال تربت على تقديس الحاكم وتقبيل يديه وبين رؤية جديدة قدمتها الثورة تزيل عن الحاكم أي تقديس وتعتبره مجرد موظف وتنادي بدولة قانون تسود فيها العدالة والحرية والكرامة. مستقبل مصر سيحدده الصراع بين هاتين الثقافتين ولدينا أسباب قوية للتفاؤل.
يعلمنا التاريخ أن الثورة قد لاتحدث في مجتمع ما فيستمر الظلم بغير اعتراض يذكر لكنها اذا حدثت فانها حتما تنتصر حتى ولو بعد حين، ان مستقبل مصر قطعا مع الثورة وسوف نرى قريبا رئيسا منتخبا تتم محاسبته بشدة من أبسط مواطن ..عندئذ لن ينحنى المصريون أبدا لتقبيل يد الرئيس.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com