علاء الأسواني: ..دافع عن الحق وحدك..
٢٩ أغسطس ٢٠١٧بدا المشهد طبيعيا تماما..
سيدة في منتصف العمر تدخل عيادة للكشف على عينيها فتجد حجرة الانتظار مزدحمة بالمرضى فتجلس وسطهم تنتظر دورها. فجأة تدوي صفارة عالية فيقف المرضى جميعا ثم يجلسون. تنظر اليهم السيدة بدهشة. بعد قليل تدوي الصفارة من جديد فيقف المرضى جميعا ويجلسون. تمر دقائق ثم تدوي الصفارة مرة ثالثة فيقوم المرضى ويجلسون وفي المرة الرابعة عندما تدوي الصفارة تفعل السيدة مثل بقية المرضى فتقف وتجلس معهم وتظل تفعل ذلك كلما دوت الصفارة بل انها عندما ينصرف الجميع وتبقى وحدها في الحجرة تظل تقوم وتجلس كلما سمعت الصفارة.
كانت هذه تجربة أجراها الدكتور جوناه برجر من جامعة بنسيلفانيا الأميركية وقد اتفق مع جميع المرضى وسكرتيرة العيادة على مافعلوه. بعد انتهاء التجربة شرح دكتور برجر للسيدة كل شيء وسألها:
ــ لماذا كنت تقفين عند سماع الصفارة ..؟
قالت السيدة
ـــ عندما وجدت الجميع يقفون عند سماع الصفارة أحسست أنني يجب ان أفعل مثلهم والا فانني سأكون مستبعدة على نحو ما وعندما فعلت ما يفعله الجميع أحسست بأنني مرتاحة أكثر بكثير.
هذه التجربة أثبتت ظاهرة تسمى "ضغط الأنداد"
Peer Pressure
وهي ظاهرة مهمة في السلوك الانساني حيث أن الانسان اذا وجد سلوكا أو تفكيرا أجمع عليه المحيطون به فانه غالبا ما يجد راحة حقيقية في أن يفعل مثلهم. أن يرفض الانسان شيئا أجمع عليه الناس سوف يجلب متاعب ليس كل شخص مستعدا لتحملها. "ضغط الأنداد" نادرا ما يحدث في المجتمعات الديمقراطية حيث يتاح للناس الاطلاع على الحقائق ويكون من حقهم الاختلاف في الآراء والمعتقدات وممارسة هذا الاختلاف في حماية القانون. بالمقابل فان ضغط الأنداد يصبح سلاحا أساسيا في الأنظمة الاستبدادية حيث يتم اخفاء الحقيقة عن الشعب وترديد الأكاذيب لتمجيد الزعيم وتتولى آلة الدعاية الجبارة ( البروباغندا) تشكيل عقول الناس على نسق واحد مخطط له سلفا. أوضح مثال على ذلك مايحدث في مصر فمنذ أن تولى السيسي السلطة اختفى الاعلام بمفهومه المهني وتحول إلى آلة دعائية جبارة تقدم الأوهام على انها حقائق. تم الاستغناء عن الاعلاميين الذين لا ينفذون تعليمات الأمن وتمت الاستعانة باعلاميين علاقتهم بالأمن أكبر بكثير من علاقتهم بالاعلام.
قام اعلام السيسي بتقسيم المصريين إلى وطنيين وخونة. الوطني هو الذى يمجد السيسي ويشيد بكل سياساته أما من يعترض على أي شيء قاله أو فعله السيسي فان الاعلام يعتبره خائنا للوطن ويتم اغتياله معنويا في التليفزيون باهانته واتهامه بأبشع التهم واذاعة تسجيلات خاصة له.كل هذه جرائم منصوص عليها في القانون لكنها ترتكب بانتظام ضد المعارضين ويفلت مرتكبوها من المحاسبة لأنهم في حماية النظام. يصاحب ذلك قمع رهيب هو الأسوأ في تاريخ مصر فيكفي أن تحمل لافتة في مسيرة سلمية حتى يتم القاؤك في السجن سنوات بل ان أجهزة الأمن كثيرا ما تقبض على الشباب المعارض من بيوتهم ثم تحاكمهم بتهمة التظاهر بدون ترخيص و توزيع المنشورات والتحريض ضد الدولة إلى آخر هذه الباقة المعتادة من الاتهامات الملفقة.
هكذا لم يعد المصريون يعرفون حقيقة أي موضوع فمن يعرف مثلا ماذا يحدث فعلا في سيناء ؟ أو ماذا فعل السيسي بالضبط في أزمة سد النهضة أو ما هي تكلفة العاصمة الادارية الجديدة وما جدواها؟. لم يعد من حق المصري أن يعرف ماذا يحدث في بلاده بل أصبح من واجبه ان يقتنع بما يروج له النظام ولو كان كذبا واضحا كالشمس.
لعلنا نذكر كيف ظهر شخص يدعى اللواء عبد العاطي واعلن أنه اخترع جهازا سيقضي على مرض الايدز تماما وأكد انه سيخرج الفيروس من جسد المريض ويعطيه له ليأكله وكأنه قطعة كفته. ما أن أعلن عبد العاطي عن اختراعه العجيب أمام السيسي حتى دقت طبول الاعلام احتفالا بالاختراع العظيم الذى سيقلب الدنيا ويجعل مصر في مقدمة الأمم في مجال العلم. كل من يعرف البحث العلمي كانت يدرك ان الابحاث العلمية لا يمكن اجراؤها بطريقة عبد العاطي ولكن البروباغندا التي صاحبت عبد العاطي وتقديم الاعلام لجهاز الكفته باعتباره قضية وطنية كبرى واتهام كل من شكك فيه بأنه عميل مأجور، كل ذلك جعل كثيرين يصمتون حتى لا يخالفوا ما أجمع عليه الناس وفي النهاية اتضح أن اختراع عبد العاطى مجرد وهم.
نفس الدعاية الجبارة صاحبت التفريعة الجديدة لقناة السويس التي أنفق السيسي عليها مليارات الجنيهات من أموال مصر الفقيرة المديونة وقد حاول بعض المتخصصين مناقشة جدوى المشروع فخرجت عليهم فورا كتائب الشتيمة التليفزيونية تلعنهم وتتهمهم بالعمالة ثم سرعان ما اتضح ان التفريعة الجديدة لقناة السويس لم تضف إلى ايراداتها شيئا.
ان القمع وضغط الأنداد وصناعة الأكاذيب، كلها أسباب جعلت مصريين كثيرين يؤثرون الصمت على قول الحقيقة. في كل الانظمة الفاشية تتم صناعة الاوهام بواسطة ماكينة الدعاية التي تمجد الديكتاتور ويظل الناس يصدقون الأكاذيب اما اقتناعا او ايثارا للسلامة حتى ينتهي الأمر بواحدة من طريقتين: اما كارثة مثل هزيمة 1967 التي أخرجت المصريين من الأوهام إلى الحقيقة واما بأن يتخلص الناس شيئا فشيئا من ضغط الأنداد ويملكوا الشجاعة لكي يقولوا آراءهم بصراحة ويتحملوا تبعاتها، عندئذ يتكون رأي عام حقيقي مؤثر يجبر النظام على الاصلاح. أيها المصري قل رأيك مهما تكن العواقب. دافع عن الحق ولو كنت وحدك.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com