علاء الأسواني: غضب علماء مصر وغضب السيسي
٣ سبتمبر ٢٠١٩يبدو الدكتور أحمد إبراهيم السيد مواطنا مصريا عاديا. لو رأيته في الشارع أو جلس بجوارك في القطار لما لفت نظرك ولما تخيلت مدى أهمية عمله. الدكتور أحمد باحث في مركز البحوث الزراعية وهو يجري أبحاثه على نوع من البكتيريا يصيب الخضروات والفواكه وبالتالي يؤذي صحة ملايين المصريين.
عكف الدكتور أحمد على العمل الجاد في معمله حتى يعزل هذه البكتريا ويتوصل إلى طريقة للقضاء عليها حتى يوفر للمصريين غذاء نظيفا صحيا وينقذهم من أمراض عديدة تسببها البكتيريا. كان يؤمن أنه يؤدي مهمة وطنية انسانية وجاءت لحظة اقترب فيها من تحقيق النتائج التي يتمناها ولكن حدثت مفاجأة: أصيب الدكتور أحمد بالعدوى من البكتيريا التي يجرى عليها أبحاثه. المشكلة أن هذا النوع من البكتيريا اذا انتقل إلى الانسان فان علاجه ليس موجودا في مصر. كان الحل طبعا أن يحصل الدكتور أحمد على قرار من الدولة بالعلاج في الخارج أولا تقديرا لمجهوده العلمي وثانيا لأنه لا يستطيع بمرتبه الهزيل أن يسافر للعلاج على نفقته.
كيف يستطيع الدكتور أحمد اقناع المسؤولين بعلاجه في الخارج؟ أنه ليس لاعب كرة قدم ولا ممثلا شهيرا وهولا يعرف أحدا من الوزراء أو أعضاء مجلس الشعب، كما أنه انشغل بأبحاثه العلمية فلم يذهب إلى مؤتمرات الشباب ليمدح السيسي ويتغنى بعبقريته كما فعل شباب آخرون فانفتحت أمامهم الأبواب المغلقة جميعا. لم يسافر الدكتور أحمد للعلاج في الخارج وتدهورت حالته حتى مات في التاسعة والثلاثين من العمر وترك خلفه زوجة وطفلين صغيرين سيعيشون على معاش شهري قدره ألف جنيه فقط لا غير يجب أن ينفقوا منه على تكاليف الطعام والتعليم والملابس والكهرباء والغاز بالإضافة إلى أجرة السكن والمواصلات. مات الدكتور أحمد شهيد العلم والواجب فلم يذكره أحد ولم يكرمه أحد. عاش مثل معظم المصريين ومات مثلهم. انتهت حياته بطريقة ظالمة عبثية تماما مثل الفقراء الذين يموتون من الإهمال في مستشفيات الحكومة أو يحترقون في القطارات المتهالكة أو المعتقلين الذين يموتون من التعذيب.
منذ عامين ألقيت محاضرة في الجمعية الطبية الأميركية المصرية في نيويورك. معظم أعضاء هذه الجمعية أطباء تعلموا في مصر ووجدوا الأبواب مغلقة في بلادهم فهاجروا إلى الولايات المتحدة حيث اجتهدوا ووجدوا التقدير وتكافؤ الفرص فحققوا نجاحا علميا وماديا مشرفا. في مصر عشرات الألوف من العلماء والأكاديميين مثل الدكتور أحمد إبراهيم وهم يمارسون عملهم بأمانة في ظروف ظالمة ومرتبات هزيلة وبدون رعاية صحية ولا أدنى تقدير. إنهم يعرفون أن كل واحد فيهم قد يلقى مصير الدكتور احمد ابراهيم في أي لحظة. يموت ويترك خلفه أسرته لمصير مجهول..
نظام السيسي لا يهتم الا بثلاث فئات من الشعب: ضباط الجيش والشرطة والقضاة. هؤلاء فقط يزيد النظام من مرتباتهم باستمرار. يكفي أن نعلم أن أستاذ الجامعة الذي يصل إلى منصب وكيل الكلية بعد أكثر من ثلاثين عاما من العمل الأكاديمي يقبض مرتبا أقل من مرتب شاب في عمر أولاده يعمل معاون نيابة (وهي أصغر وظيفة قضائية). مع ازدياد الغلاء الفاحش صارت حياة أعضاء هيئات التدريس في الجامعات مستحيلة فنظموا على تويتر حملة بعنوان: "علماء مصر غاضبون" طالبوا فيها بزيادة المرتبات وتحسين الرعاية الصحية لهم ولأسرهم وإصلاح النظام الجامعي بحيث تكون الكفاءة هي المعيار الوحيد للترقي.
نجحت الحملة واشترك فيها عشرات الألوف في ساعات قليلة بل وانضم اليها أكاديميون موالون للنظام مثل الرئيس السابق لجامعة القاهرة. غضب المسؤولون في نظام السيسي وصدرت التعليمات بتجاهل الحملة تماما باعتبارها مجرد ضجة مؤقتة ستنتهي مع الوقت لكن علماء مصر تمسكوا بمطالبهم المشروعة واتسعت الحملة يوما بعد يوم حتى وصلت إلى وسائل الاعلام العالمية، عندئذ بدأ إعلام المخابرات في تشويه حملة "علماء غاضبون" فاتهموها بأنها حملة مغرضة يقف خلفها الاخوان المسلمون واتهموا المسؤولين عنها بالتحريض ضد مؤسسات الدولة وتنفيذ مخطط جماعة إرهابية إلى آخر هذه الاتهامات الكاذبة السخيفة التي يستعملها نظام السيسي ليلقي بكل من يعارضه في السجن.
أما أغرب هجوم على الحملة فجاء من شخص منحته المخابرات برنامجا في التليفزيون وعينته رئيس مجلس إدارة ورئيس التحرير أيضا لإحدى الجرائد. هذا الشخص أراد أن يقلل من شأن حملة "علماء غاضبون" ويشوهها فقال سيادته إن معظم أعضاء الحملة من أساتذة الجامعات ليسوا علماء وإنما مجرد مدرسين للعلوم السياسية والقانون وبالتالي لا علاقة لهم بالعلم.
هذا الكلام ينم عن جهل مؤسف فالتدريس مهنة عظيمة ومشرفة تقوم بتكوين الوعي لأجيال من الطلاب، إن أي تلميذ في المرحلة الثانوية يعرف أن العلم ينقسم إلى فرعين: العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والفرعان متساويان في الأهمية كما أن البحث الأكاديمي هو السبب الأساسي في تقدم أي دولة. إن المعركة التي يخوضها علماء مصر الآن من أجل الحصول على أبسط حقوقهم تحمل دلالتين مهمتين: أولا أن قمع النظام مهما اشتد لا يمكن أن يمنع المصريين من المطالبة بحقوقهم، وثانيا أنه يستحيل في ظل الديكتاتورية أن يتوصل الناس إلى حلول فردية آمنة تمنحهم حقوقهم مقابل سكوتهم على ظلم الآخرين.
هكذا يعلمنا التاريخ. لن ينجو أحد في ظل الاستبداد مهما أذعن وانحنى لأن الظلم الذي أصاب الآخرين سيصيبه حتما إن لم يكن اليوم فغدا. لن يبدأ المستقبل الا اذا انتهى الاستبداد في مصر.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW