علاء الأسواني: من يريد أن يرى الحقيقة؟!
٨ نوفمبر ٢٠١٦تخيل أنك توليت منصب مدير شركة بسلطات مطلقة. تستطيع أن تفعل بالشركة والعاملين بها ما تشاء ولا يجرؤ أحد على محاسبتك ومعك أفراد أمن يستطيعون ــ بأمر منك ــ أن يضربوا أي موظف ثم يلفقوا له تهمة تلقي به في السجن سنوات. كما أن لديك مساعدين مهمتهم الوحيدة التغني بنبوغك وعبقريتك والإشادة بكل قراراتك وتبرير كل أخطائك باعتبارها مؤامرة من الأشرار ضدك. مهما تكن نواياك طيبة لا بد أن تتحول إلى ديكتاتور منعزل عن الواقع .. هكذا حالتنا في مصر فمنذ أن تولى الرئيس السيسي السلطة ونحن نعيش في عالم افتراضي غير حقيقي. تم تقديم السيسي باعتباره البطل المنقذ الذي سيقود الشعب إلى النهضة والمجد وهو يخوض حربا ضارية ضد الأعداء وسط مؤامرات كونية تخطط لها قوى دولية وينفذها جواسيس غامضون لابد من القضاء عليهم فورا.
دارت ماكينة القمع الجبارة لتسحق آلاف المصريين من كل الاتجاهات: ثوريون وإسلاميون ومواطنون عاديون جريمتهم الوحيدة أنهم ليسوا مبهورين بالقائد ويعتقدون أنه يرتكب أخطاء جسيمة. دفاعا عن العالم الافتراضي اعتمد النظام على قوة قمعية هي الأشرس في تاريخ مصر وإعلام مضلل كذاب يوجهه ضباط الأمن يوميا، تم اختيار أشخاص ليس لهم أي علاقة بالإعلام. بائع أعشاب طبية وممثلة مغمورة وكاتب سيناريو ولاعب كرة طائرة ولأن موهبتهم الوحيدة هي البذاءة فقد تم اعطاؤهم برامج يومية يوجهون خلالها ـــ بحماية قانونية من النظام ـــ أقبح أنواع الشتائم للمعارضين وهكذا تحول الإعلام إلى أداة اغتيال معنوي لكل من لا يعترف بعبقرية القائد الذي سرعان ما اندمج في العالم الافتراضي فبدأ يدلي بتصريحات مدهشة عن أن الله خلقه طبيبا بمقدوره أن يلمح على الفور الخطأ في أي شيء ويعرف حله وعلاجه.
هذا العالم الافتراضي الذي عاشت فيه مصر أكثر من عامين لم يكن من صناعة الديكتاتور وحده بل شارك فيه ملايين المصريين لأسباب مختلفة:
منافقون يحلمون بتولي المناصب وخدامون لكل سلطة ولاعبو كرة وممثلون يخافون من التغيير حرصا على ثرواتهم الطائلة، لصوص كبار سرقوا أراض وقروضا من المال العام ويخافون من التغيير خوفا من المحاسبة وناصريون يرتبطون عاطفيا بأي حاكم بزى عسكري لأنه يذكرهم بالراحل الغالي.
أضف إلى ذلك المصريين الذين عاشوا حياتهم في ظل الاستبداد وتأقلموا معه وصاروا مفزعين من سقوط مصر في الفوضى أو الحرب الأهلية فهم يرتاحون لوجود قائد قوي حتى لو كان فاشلا وقمعيا. تأسس العالم الافتراضي وبلغ ذروته في مشاهد مسرحية صاخبة تتحرك فيها المجموعات وفقا لإرادة المخرج من مؤتمر للاستثمار إلى مؤتمر الشباب الى برلمان تم اختيار أعضائه بعناية في مكاتب المخابرات ليكونوا ديكورا ديمقراطيا وظهيرا سياسيا للزعيم ثم مشهد الزعيم وهو يقود الدراجة ويجري مع وزرائه في الماراثون إلى مشهد الزعيم وهو يتبرع بنصف ثروته للدولة (ولا يجرؤ أحد أن يسأل كم تبلغ هذه الثروة ولماذا لم يقدم إقرار الذمة المالية كما نص الدستور)، ثم مشروع قناة السويس الجبار الذي تكلف مليارات الدولارات وتبين لاحقا أنه لا يحقق أرباحا. كانت هذه دائما أدوات الديكتاتور: مشروعات عملاقة وإعلام كذاب ونظرية مؤامرة وخطاب عاطفي يثير مشاعر الجماهير ليعطل قدرتها النقدية لكن العالم الافتراضى لايدوم فلابد أن يتحطم على صخرة الحقيقة، عندئذ يدرك الناس أنهم عاشوا في أوهام اشتركوا في صناعتها.إننا نعيش هذه اللحظة في مصر فالذين رقصوا في الشوارع فرحا بتولي السيسي للسلطة، لست واثقا أنهم لازالوا على نفس القدر من السعادة والذين صدقوا أن شباب الثورة خونة وعملاء ولعنوهم وشمتوا فيهم عندما تم القاؤهم في السجون لعلهم يدركون الآن خطيئتهم في حق شباب هم قطعا أشجع وأنبل من في مصر والذين اعتقدوا أن السيسي هو عبد الناصر لعلهم تعلموا أن تشابه القمع لا يعني بالضرورة تشابه السياسات.
لم يكن المشهد في مصر قط أوضح مما هو الآن. نظام السيسي هو نفسه نظام مبارك في طبعة جديدة أكثر عنفا وشراسة حتى وأن غلفها القائد بايتسامته الرقيقة وكلماته الحنون. وفي بلد يعيش 60 في المائة من سكانه تحت خط الفقر يتم تبديد أكثر من 25 مليار دولار من مساعدات الخليج خلال عامين فقط على مشروعات عملاقة تبدو رائعة أثناء التصوير لكنها لا تحقق أرباحا وليست أبدا من أولويات الشعب المنكوب بالديكتاتورية منذ عام 1952. صارت خزانة الدولية خاوية فبدأ النظام يلهث خلف صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بمبلغ 12 مليار دولار (بعد أن بدد ضعف هذا المبلغ). وها هو النظام يسحق الفقراء بضرائب عمياء ويرفع الدعم عنهم بدلا من مساعدتهم ثم يقرر تعويم الجنيه الكسيح لتقفز الأسعار وتستحيل الحياة على ملايين المصريين .. لم يفكر النظام في ضرائب تصاعدية على الأغنياء لأنه لا أحد يفرض ضرائب على نفسه. هذا نظام الأغنياء وهو يعتبر الفقراء كسالى ومسئولين عن فقرهم وزائدين عن الحاجة ولا يتعامل معهم إلا كمتسولين يفضح فقرهم في التليفزيون من أجل علاج مجاني أو شقة في مساكن الإيواء. الآن صرنا وجها لوجه مع الحقيقة فهل نخرج من العالم الافتراضي أم لازلنا نفضل الأوهام؟ هل نتعلم درس التاريخ: أن الأنظمة الاستبدادية مآلها حتما إلى الفشل وأن النهضة لا تقوم أبدا على الظلم وأن العدل فقط ـــ وليس القمع ـــ هو ما يحقق الاستقرار.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com