يبدو أن المجتمع التركي يعيش تحولا مثيرا، فرغم كون الرئيس رجب طيب أردوغان، الإسلامي المحافظ، يوجد على رأس الدولة التركية منذ 16 عاما، فإنه وعكس التوقعات، أظهرت دراسة حديثة تراجعا ملفتا في نسبة التدين لدى المجتمع التركي.
إعلان
من الأكيد أن نتائج أي دراسة اجتماعية تكون بالضرورة مقيدة بسياقها الزماني والمكاني، ولا يمكن تعميم نتائجها في المطلق. ولهذا يتعين فهم الدراسة التي كشفت عن تراجع التدين عند الأتراك كمؤشر لفهم ظرفي يصف مرحلة محددة، سيكون من السابق لأوانه اعتمادها كتوجه بعيد المدى. فقد تَظهر دراسات أخرى تؤيدها أو تنفيها.
وإذا كان الرئيس رجب طيب أردوغان قد نجح بالفعل في الاستمرار طويلا في السلطة (16 عاما) وتركيز مزيد من الصلاحيات في يده، كما كرست ذلك التغييرات الدستورية الأخيرة، إلا أنه فشل، على ما يبدو، في إعادة يناء مجتمع تركي تجذرت فيه العلمانية، يتوافق بالكامل مع تصوراته المحافظة. فقد كشفت دراسة لمعهد "كوندا" تراجعا واضحا في تدين الأتراك ولدور الدين بشكل عام في سلوكياتهم اليومية. هذا التطور المثير يطرح أسئلة كثيرة حول السياسية الدينية لأردوغان وسر عدم تفاعل جزء من الشعب التركي معها.
الأردوغانية والتجذر العلماني
لم يخف الرئيس التركي أبدا طموحه القائم، ليس فقط على قيادة بلاده سياسيا، ولكن أيضا ترك بصمته عليها وفقا لتصوره الخاص، الذي يقوم على إحياء مفاخر الماضي العثماني وقيم دينية من شأنها مواجهة بعض من أنماط الثقافة الغربية. وقد عمل أردوغان على محاولة ترجمة تصوره هذا إلى أرض الواقع عبر توسيع الدعم الحكومي للمدارس الإسلامية وإلزامية التربية الدينية في المدارس الابتدائية. كما وعد بتنشئة "جيل ورع"، ومن أهم قراراته في هذا الباب رفعه لحظر الحجاب في مؤسسات الدولة التركية عام 2013. وبهذا الصدد يرى يوسف كاتب أوغلو المحلل السياسي التركي في حوار مع DW أن "هناك فعلا وعيا بضرورة عودة الشعب التركي لقيمه وماضيه ودينه وهذا لا يجب أن يكون مزعجا لمن يحلل تركيا"
رفع حظر الحجاب في تركيا
01:37
غير أن دراسة حديثة لمعهد "كوندا" لاستطلاعات الرأي، رصدت، بعد عقد ونصف من وصول أردوغان إلى الحكم، تراجعا في تدين الأتراك. ويتعلق الأمر بدراسة واسعة مست 5793 من الأتراك في 36 منطقة شملت المدن والقرى. الدراسة أظهرت انخفاض نسبة الأتراك الذين يصفون أنفسهم بـ"المتدينين" خلال عشر سنوات من 54% إلى 51%. أما "المتدينين بشكل عميق" فلم تعد نسبتهم تتعدى عُشر الأتراك. وهناك تركيان من أصل ثلاثة يصومون شهر رمضان، فيما كانت هذه النسبة تمثل 77%. أما عدد الملحدين فتضاعف ثلاث مرات.
فشل سياسة أردوغان الدينية؟
من شأن نتائج هذه الدراسة أن تزعج حزب العدالة والتنمية ، ذلك أن الحكومة التركية أنفقت أموالا طائلة من أجل تحقيق حلم الزعيم أردوغان بتنشئة "جيل ورع"، فقدر رفعت وزارة التعليم العام الماضي (2018) من ميزانية التعليم الديني بنسبة 68% ليصل إلى 1.3 مليار يورو. كما أن عدد المؤسسات التعليمية الدينية في عهد أردوغان ارتفع من 450 إلى 4500. وفي حوار مع موقع "شبيغل أونلاين" الألماني أوضح عالم الاجتماعفولكان إرتريت أن "المجتمع لا يصبح متدينا بمجرد أن تسعى الدولة لذلك". واستطرد أن العولمة والتمدن والرقمنة أقوى تأثيرا على المجتمع التركي من أردوغان. وأشار إرتريت إلى الهجرة الداخلية غير المسبوقة التي عرفتها تركيا خلال العقود الأخيرة، قبل نصف قرن كان ثلثي الأتراك يعيشون في البوادي، فيما لم تعد نسبتهم اليوم تتعدى 7%. وهذا ما يفسر تراجع بعض التقاليد والقيم المحافظة بما فيها الدينية رغم سياسة أردوغان.
ورغم أن الحكومة أحكمت سيطرتها على وسائل الإعلام التقليدية، لذلك فإن الكثير من الأتراك خصوصا الشباب منهم يبحثون عن مصادر أخرى للمعلومة وللتواصل مع العالم الخارجي. وحسب لاحصائيات الرسمية فإن قرابة 72% من الأتراك يستعملون وسائط لتواصل الاجتماعي وهي نسبة عالية جدا. وبهذا الشأن يرى يوسف كاتب أوغلو أن "وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر كثيرا على المجتمع التركي، وهي سلاح ذو حدين، وقد يكون لها أثر تخريبي".
تركيا والعالم العربي.. علاقات تتأرجح بين الصداقة والعداوة
تشترك تركيا مع الدول العربية في موضوع الدين الإسلامي، فضلاً عن القرب الجغرافي، وتقارب الرؤى في ملف النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، لكن علاقات تركيا مع العرب ليست وردية تماماً، خاصة في فترة رجب طيب أردوغان.
صورة من: Getty Images/AFP/A. Altan
الإمارات - التوتر الكبير
تمثل الطريقة التي رد بها أردوغان على وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، عندما وصفه بالمثير للشفقة، ردا على نشر الإماراتي تغريدة تتهم فخر الدين باشا بسرقة سكان المدينة النبوية، صورة عن الخلافات الجوهرية بين أنقرة وأبو ظبي. يختلف الجانبان على الإسلام السياسي، وعزل محمد مرسي، والأزمة الخليجية، كما تتهم وسائل إعلام تركية الإمارات بالمساهمة في تدبير الانقلاب الفاشل، وهو ما تنفيه أبو ظبي.
صورة من: picture alliance/Photoshot
السعودية - تنافس صامت تروّضه المصالح
يسود تنافس صامت بين تركيا والسعودية على زعامة العالم الإسلامي، كما يختلفان في ملفيْ الإسلام السياسي والأزمة الخليجية، زيادة على أن السعودية لا يروق لها استمرار علاقات طهران وأنقرة. إلّا أن الطرفين يحرصان على استمرار شراكتهما الاقتصادية، إذ توجد خطط برفع التبادل التجاري بينهما إلى 20 مليار دولار، كما يحرص الطرفان على الإشادة ببعضهما، كما لو أنهما يرغبان بتفادي الوصول إلى توتر سيؤثر سلبا عليهما معا.
صورة من: picture-alliance/Anadolu Agency/K. Ozer
قطر- الحليف الموثوق في الخليج
أظهر وقوف أردوغان مع قطر إبّان اندلاع أزمة الخليج قوة تحالف الطرفين. أردوغان دافع عن قطر في وجه اتهامات الإرهاب وأرسل إليها مساعدات غذائية في الأيام الأولى للأزمة. الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية متعددة بين الجانبين، خاصة وأن قطر زوّدت تركيا بالغاز بعد تدهور علاقة الأخيرة بروسيا. الجانبان تشاطرا الموقف ذاته في موضوع عزل محمد مرسي وكذا في سوريا، ولهما علاقات قوية مع تيارات الإسلام السياسي.
صورة من: picture alliance/dpa/abaca/Dha
الجزائر- الغاز يذيب الخلافات
تختلف وجهات النظر بين تركيا والجزائر بشأن الملف السوري، فالجزائر مازالت تحتفظ بعلاقاتها مع نظام بشار الأسد، إلّا أن الجزائر تحاول بالمقابل الإبقاء على علاقات ديبلوماسية مع غالبية القوى. من هنا تُفهم علاقتها مع تركيا التي تستفيد من استثمارات كبيرة في التراب الجزائري، منها أكبر مصنع للنسيج في إفريقيا، كما تأتي الجزائر على رأس الدول العربية في تزويد تركيا بالغاز المسال.
صورة من: picture-alliance/dpa/AP Images/Pool Presidential Press Service/K. Ozer
المغرب - علاقة هادئة دون تشنج
ظن متتبعون أن قرار المغرب برفع رسوم الاستيراد على سلع الملابس التركية سيؤثر سلبا على علاقة الجانبين المرتبطين باتفاقية للتبادل الحر، إلّا أن ذلك لم يحصل، فالاستثمار التركي لا يزال يتدفق على المغرب. حافظ أردوغان على علاقة مثمرة مع الرباط، خاصة مع اتخاذ هذه الأخيرة إجراءات ضد مدارس فتح الله غولن في ترابها، وهو ما تفاعلت معه أنقرة بمنع ندوة كانت مقرّرة للجماعة المغربية المعارضة، العدل والإحسان.
صورة من: picture alliance/AA
مصر - عداء بسبب الإخوان
العداء واضح بين أنقرة والقاهرة منذ عزل مرسي، إذ لا يزال أردوغان يقول إن عبد الفتاح السيسي صعد إلى الحكم عبر الانقلاب على الشرعية، واصفا إياه بـ"الطاغية"، بينما ترّد القاهرة أن أردوغان هو أكبر داعم لما تصفه بـ"إرهاب الإخوان". تنطلق أسباب العداء من رفض أردوغان للتدخل العسكري في الشأن السياسي، خاصة مع تاريخ بلاده مع الانقلابات العسكرية، فضلاً عن التقارب الإيديولوجي بين إسلاميي تركيا وإسلاميي مصر.
صورة من: picture-alliance/dpa
العراق- مد وجزر
توترت علاقتهما عام 2016 بعد وصف العراق استمرار وجود القوات التركية في شمال البلاد بالاحتلال، ووصل التوتر حدّ استدعاء السفيرين. لكن البلدين يدركان أن ما يجمعهما أكبر، خاصة تخوفهما من تنامي النفوذ الكردي، ورغبتهما تحقيق شراكة فعلية تستفيد من الحدود المشتركة بينهما. لذلك وقع تقارب جديد مؤخرا، من شأنه استمرار وصول السلع التركية إلى العراق، وتقوية التعاون المائي، واستمرار تصدير النفط العراقي إلى تركيا.