1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

عندما يصبح الأدب وطناً وهويّة

١٠ فبراير ٢٠٠٦

تجمع الغالبية العظمى من نقاد الأدب الألماني على أن الكاتب الألماني توماس مان ظاهرة فريدة من نوعها، لأنه جمع بين خاماته الإبداعية المستمدة من الواقع وسعة إطلاعه. حسين الموزاني يلقي نظرة على تحولات توماس مان الإبداعية

توماس مان: تحولات أدبية داخل رغم النزعة الواقعيةصورة من: dpa

يمثلّ الكاتب الألماني توماس مان ( (1875-195 ظاهرةً أدبيةً متميزة، تتسم بالأصالة والتفرّد. ونجد في جميع تجاربه الأسلوبية والفنيّة قدراً وافراً من التحليل الفلسفي والنفسي لأدق تفاصيل المجتمع الألماني وإعادة قراءة التاريخ قراءة متزنة عميقة، تكشف عن إطلاع مدهش على تاريخ الحضارات القديمة، ومنها حضارات الشرق. وقد وظّف توماس مان هذه المعرفة ركائز رئيسية في روايته الضخمة "يوسف وإخوته" المنشورة في عام 1946 والتي استخدم فيها اسماء ورموزاً أسطورية مثل "بعل" و"مردوخ" و"إنليل" و "عشتار"، لم تستخدم من قبل بهذا التفصيل في الأدب الألماني.

ومع أن توماس مان حاول تجريب الأساليب السردية الحديثة واقترب من ملامح المدرستين التعبيرية والرمزية، إلا أنه ظلّ وفيّاً لمذهب الواقعية، فصار يستمد خامته الإبداعية من الواقع نفسه، بل حتى من مثقفين مشهورين تاريخياً. فاستخدم على سبيل المثال شخصية غوته في عمله "لوته في فايمر" Lotte in Weimer ونيتشه في "دكتور فاوستوس" وجورج لوكاش في "جبل السحر" Der Zauberberg والموسيقيين الكبيرين ريشارد فاغنر وغوستاف مالر في رواية "الموت في البندقية" Der Tod in Venedig، فضلاً عن أفراد عائلته الذين صورهم تصويراً حيّاً وفق المذهب الطبيعي في السرد Naturalismus الذي كان شائعاً آنذاك، وذلك في روايته الأولى "دي بودنبروكس" المنشورة عام 1901.

نزعة الانتماء إلى الشمال الأوربي

توماس مان برفقة أخيه هاينرش مانصورة من: dpa

ولد توماس مان في مدينة لوبيك الألمانية الساحلية لعائلة ثرية، فقد كان أبوه تاجراً للحبوب وأمه ذات الأصول البرتغالية- الكريولية- الألمانية القادمة من البرازيل كانت أيضاً ابنة تاجر ألماني. إلا أن توماس مان طالما أعرب عن انتمائه إلى الشمال الأوربي، لا سيما في قصته "طونيو كروغر" (1903) التي احتفى بها بأنغبورغ هولم الفتاة ذات العينين الزرقاوين، زرقة الفولاذ على حدّ تعبيره، والألفة والترف الشماليين. لكن هذا الوصف أثار حفيظة الشقيق الأكبر هاينرش مان، فكتب له يعاتبه بسخرية: "بلاشكّ أننا نحمل المُثل ذاتها تماماً، فأنت تحنّ إلى صحة الشمال وعافيته، وأنأ أحنّ إلى الجنوب. لقد أبغلتك فيما يخصّ طونيو كروغر بأن الألفة ليست فقط زرقاء العيون!" غير أن تحذيرات الشقيق ذي النزعة الإشتراكية لم تحرف توماس مان عن منهجه البرجوازي الأوربي الذي خطّه في وجدانه عميقاً.

بعد وفاة والده عام 1891 انتقلت العائلة إلى مدينة ميونخ، حيث عمل توماس مان موظفاً صغيراً في شركة للتأمين ضد الحرائق، ولم يكن قد أكمل تعليمه الثانوي. ويعترف بأنه كان تلميذاً خاملاً كسولاً ومكروهاً من قبل المعلمين والتلاميذ على السواء، حتى أنه كان يتعبر حياته مجرد حياة مهملة، لم تحدث عمداً، fahrlässiges Leben. لكن ذلك كلّه لم يثنه عن اتقان "حرفة الكاتب" كما كان يسميها، بحيث أن الصياغة أو الجملة الأسلوبية وصلت على يده إلى مستوى لم يتحقق إلا لدى الكتّاب الألمان العظام. فكان يمعن في نحتها وتشذيبها كما لو أنه يعيد اكتشافها فتصبح على يده بالغة الدلالة جميلة الوقع ومنغمة الإيقاع.

المنحى البرجوازي للأدب

نصب تذكاري لتوماس مان في لوبكصورة من: AP

في عام 1898 صدرت المجموعة القصصية الأولى لتوماس مان بعنوان "السيّد الصغير فريديمان" Der kleine Herr Friedemann التي أسست دفعة واحدة المنهج الأدبي "التوماسماني" الذي ظلّ ملتزماً به حتى صدور روايته المهمّة "جبل السحر" عام 1924. وكان هذا المنهج القائم على الأفكار والمضامين البرجوازية الخالصة مستمداً من ناحية الشكل وبعض المضامين من ثلاثة أصرحة فكرية برجوازية المنحى: أرتور شوبنهاور، وفريدريش نيتشه وريشارد فاغنر. فقد أورثه شوبنهاور الشكّ بالإرادة الإنسانية وقدرتها على الانسجام والتماثل مع النفس البشرية التي تجنح بالفطرة إلى الحقيقة، وأورثه كذلك تجريد الإرادة من عنصر القوّة الفاعلة، وذلك من خلال اصطدامها بإشكالية الموت حسب المعادلة العجيبة المنتشرة في الأدب والفلسفة الألمانيتين والقائلة بأن الحياة هي الفهم الموضوعي للموت، مما يعني أن الحظّ الإنساني يكمن في معرفة كنه الموت عبر قوته الجاذبة التي تجعلنا نزداد تعلّقاً بالحياة. ثم جاء نيتشه ليجعل من هذا الشكّ الاحترازي البارد فلسفةً نفسيةً بالغة التشاؤم والعدمية، منظمةً تنظيماً وجودياً صارماً، تنتقد جميع المعانى الأخلاقية أو الدينية أو الاجتماعية، لتضع محلها جوهر الإنسان النقي العارف والقوي. بيد أن التأثير الأعظم الذي كان ملموساً في جميع روايات توماس مان، حسب اعترافاته الكثيرة، يعود إلى أعمال المؤلف الموسيقي الألماني ريشارد فاغنر التي اعتمدت الموروث الشعبي الجرماني الهايدني القائم على مبدأ المتعة الحسيّة ورغبات الجسد التي تقف على النقض من التربية الوعظية المسيحية. وتجسدت هذا الأفكار كلّها في رواية "الموت في البندقية" ذات البناء الفلسفي والأسلوب النثري المرهف.

توماس مان مع عقيلته إيركاصورة من: dpa

ووصلت هذه المرحلة إلى ذروتها في الكتاب السياسي التهجمي الذي بدأ توماس العمل فيه منذ مطلع الحرب العالمية الأولى وأنهاه في نهايتها وهو "تأملات رجل غير سياسي" Betrachtungen eines Unpolitischen. ففي هذا الكتاب الذي اعتبره بمثابة "الخدمة الإلزامية" لأنه أعفي من الدخول إلى الجيش الألماني بسبب اعوجاج في ساقية وضخامة قدمية، خاض توماس مان سجالاً طويلاً على مدى ستمئة صفحة ضد أنصار الديمقراطية و"الأستعمار المبطّن بالليبرالية والمساواة" كما كان ينعتهم والنظام البرلماني الجمهوري. وشنّ هجوماً كاسحاً على كلّ ماهو فرنسي، فكراً وفلسفةً وفنّاً وأدباً، وأعلن صراحةً ولاءه للفكر البرجوازي الملكي وللقيصرية الألمانية والحرب التي اشعلتها. ويقطع توماس مان بأن المرء لا يمكن أن يكون فيلسوفاً أو موسيقياً إن لم يكن ألمانياً.

بداية التحوّل

غلاف كتاب لبابا الأدب الألماني مرسيل رايش رانيسكي عن توماس مان

وعقب هزيمة ألمانيا وانهيار أيديولوجية الحرب القومية تحت ستر "التحرر" توقف توماس مان عن النشر أكثر من خمس سنوات. وفي عام 1924 نشر روايته ذات الصفحات الألف "جبل السحر" التي تشكلّ علامة مهمة في الأدب الألماني الحديث. وهي رواية تطوّرية Entwicklungsroman، بمعنى أن بطلها هانس كاستروب يخضع إلى تطوّر ذهني ونفسي على مدى الزمن المروي (سبع سنوات).

وفي روايته القصيرة "ماريون والساحر" الصادرة عام 1930، أي بعد عام من حصول توماس مان على جائزة نوبل للأدب؛ الرواية التي تبدو من خلال العنوان وكأنها أمتداد لجبل السحر، حيث يناقش الكاتب إمكانية الاستعانة بالقوانين الإنسانية أو حتى الثورية لمقاومة الشرّ. فعندما يقع الصبي ماريون تحت تأثير المنوّم المغناطيسي والساحر الشرير الأحدب الكريه المنظر "جيبولا"، متقمصاً شخصية حبيبة ماريون، فتنطبق شفتا ماريون العاشق الصغير على شفتي جيبولا أو "اللحم القذر" كما يصفه توماس مان، إلا أن ماريون المسلوب الإرادة يتحرر بأعجوبة من براثن الساحر، فيمسح شفتيه وسط دوّي الجمهور وتصفيقة الحاد. لكن الهتاف سرعان ما يصمت، إذ أن هناك ما هو أقوى منه: الرصاص! ماريون الصغير يطلق الرصاص على المشعوذ جيبولا فيرديه قتيلاً. ويعلّق الرواي على هذه الحادثة بأنها "نهاية مرعبة، بل نهاية قدرية، لكنها مع ذلك نهاية محرِرة، ولا أستطيع أن أشعر بها إلا هكذا".

طاولة الكتابة الخاصة بتوماسصورة من: SWR/Anastasopoulos

وبعد صعود النازية في ألمانيا وسيطرتها على مقاليد الحكم اتخذ توماس مان عام 1933 قراراً بعدم العودة إلى ألمانيا بعد أن أنهى محاضراته وقراءاته في سويسرا. لا شكّ أن هذا الخيار لم يقم على الخوف والخشية من الكتلة النازية الإرهابية، بل كان إداركاً، ولو حدسياً، لمضمون التغيّر الخطير الذي طرأ فجأةً على الحياة السياسية في ألمانيا. لكن توماس مان لم يكن حازماً في أمره مثل شقيقه هاينرش مان الذي كان يقود الأدباء المنفيين ضد النظام النازي. إذ ظلّ يراسل ناشره "بيرمان فيشر" حتى عام 1935 لكي يطبع عمله النثري "معاناة المعلمين الكبار وعظمتهم" Leiden und Größe der Meister، في ألمانيا نفسها. ومباشرةً بعد نشر هذا الكتاب وضع اسم توماس مان في قائمة الكتاب غير المرغوب فيهم، ولأنه نصف يهودي فقد منعت أعماله من النشر وصودرت حقوق المواطنة منه، وسحبت منه شهادة الدكتواره الفخرية التي منحتها له جامعة بون. فكان ردّ توماس مان على هذا الإجراء ردّاً حضارياً إنسانياً "إنني خُلقت ممثلاً لأمتي وليس شهيداً، وقد أردت أن أمنح العالم شيئاً من الظرافة، بدلاً من الكراهية والاحتراب". وكان يقول إن ألمانيا هي حيث أقف أنا.

واتخذ توماس مان بعد ذلك مواقف حاسمة ضد النازية، سواءً في أعماله الإبداعية أو خطاباته الإذاعية أو نشاطاته السياسية المباشرة، لا سيما بعد هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1939. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قام بعدد من الزيارات إلى ألمانيا، لكنه آثر الإقامة في زيورخ حتى وفاته عام 1955.

٭حسين الموزاني كاتب ومترجم أدبي

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد

تخطي إلى الجزء التالي موضوع DW الرئيسي

موضوع DW الرئيسي

تخطي إلى الجزء التالي المزيد من الموضوعات من DW