في أجواء سياسية محتقنة، خرج بعض شباب تونس إلى الشوارع للاحتجاج على حملات قمع المعارضين، وسط شعور بخيبة أمل وميل إلى العزوف عن المشاركة السياسية والرغبة في الهجرة. فهل باتت تونس أمام سيناريوهات شبيهة بعامي 2019 و2011؟
قبيل الانتخابات الرئاسية، خرجت احتجاجات شبابية ضد الرئيس التونسي قيس سعيدصورة من: Anis Mili/AP/picture alliance
إعلان
فشلت الطالبة العشرينية التونسية مي العبيدي، في كتم غضبها قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية في السادس من أكتوبر/تشرين الأول. فقد قررت مي الانضمام إلى تجمع "الشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات"، الذي يضع تحت لوائه منظمات المجتمع المدني وأحزاب سياسية، حيث يرمي إلى تسليط الضوء على ما يعتبرونه حملات قمع يقوم بها الرئيس قيس سعيد.
وفي مظاهرة هي الأكبر منذ سنوات، وفق إعلام محلي، خرج الآلاف من الشباب إلى شوارع العاصمة تونس.
وخلال مشاركتها في مظاهرة الجمعة الماضية (13 سبتمبر/ايلول 2024)، قالت مي في مقابلة مع DW "لقد جئنا هنا للمطالبة بعرس انتخابي مثلما عشنا ذلك في 2019"، في إشارة إلى المظاهرات، التي خرجت آنذاك للمطالبة بالتغير بعد فشل تسع حكومات في معالجة المشاكل الاقتصادية والبطالة والفساد في البلاد.
في انتخابات عام 2019، فاز أستاذ القانون السابق والمرشح المستقل آنذاك قيس سعيد بالانتخابات بعد حصوله على أغلبية بلغت 72 بالمئة من الأصوات. وعقب فوزه، تعهد سعيد بمعالجة الفساد وإصلاح البلاد وتوفير مستقبل أفضل للشباب.
بيد أنه عقب خمس سنوات من وصوله إلى الحكم، تنامى غضب الشباب التونسي ضد رئيسهم. وفي ذلك، قالت مي "معظم الشباب الذين صوتوا لصالح سعيد في عام 2019 يشعرون الآن بخيبة أمل شديدة. لقد انتخبوا رجلا قال إنه يؤمن بالشباب، لكن في النهاية وضع الشباب في السجن".
إعلان
قمع المعارضة
وعقب عامين على انتخابه، شرع قيس سعيد في تعزيز قبضته على السلطة؛ إذ كانت البداية عام 2021 مع تفكيك معظم المؤسسات الديمقراطية في البلاد، وسجن صحافيين ومحامين ومعارضين سياسيين.
وأدانت منظمات حقوقية حملات القمع التي اعتبرتها بمثابة وسيلة من قيس سعيد لتأمين حصوله على ولاية ثانية خلال الانتخابات المقبلة.
فعلى سبيل المثال، جرى استبعاد 14 مرشحا من أصل 17 مرشحا رغبوا في خوض الغمار الانتخابي. وفي نهاية المطاف، قبلت الهيئة الانتخابية بترشح مرشحين اثنين فقط لمنافسة سعيد.
ونقلت رويترز عن عبد الستار المسعودي محامي زمال قوله إن "الحكم سياسي وغير عادل، ويهدف لضرب حظوظه (موكله) في السباق الرئاسي"، مضيفا أن زامل، وهو أصغر المرشحين سنا، سيظل يترشح للرئاسة. وأضاف "لا شيء يمكن أن ينهي ترشحه إلا الموت".
تزامن هذا مع بيان صدر عن حزب النهضة الذي يشكل أكبر أحزاب المعارضة، أشار إلى أن أكثر من 90 من أعضائه جرى اعتقالهم، معتبرا موجة الاعتقالات بكونها "غير مسبوقة" وتمثل "انتهاكا لأبسط الحقوق التي يكفلها القانون ".
تزايد سخط الشباب في تونس بسبب تنامي معدلات البطالةصورة من: Chedly Ben Ibrahim/Hans Lucas/IMAGO
العزوف عن المشاركة والرغبة في مغادرة البلاد
لم يتفاجأ الناشط السياسي وسيم حمادي بان الشباب بدأ يفكر في مغادرة البلاد مع تصاعد التوتر السياسي وتنامي حملات القمع وسط تردي الوضع الاقتصاد مع بلوغ معدل البطالة قرابة 39 بالمئة بين الشباب.
وفي مقابلة مع DW، قال حمادي إن "المناخ السياسي لا يشجع فقط على الهجرة، وإنما العزوف عن الشأن العام والمشاركة في الحياة السياسية والمدنية. أنه مناخ يطغى عليه الخوف والترهيب".
ولطالما كانت تونس واحدة من أكبر نقاط انطلاق المهاجرين غير النظامين الذين يقصدون أوروبا، لكن الأمر لم يعد يقتصر على المهاجرين الأفارقة ممن يحلمون بالوصول إلى السواحل الإيطالية.
وبحسب بيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد ارتفعت نسبة التونسيين الذين وصلوا إلى إيطاليا بين يناير/ كانون الثاني ويوليو /تموز الماضي إلى 13 بالمئة من 8 بالمئة في الفترة ذاتها العام الماضي، لكن على وقع اتفاق الهجرة بين تونس والاتحاد الأوروبي، انخفض عدد الوافدين بشكل إجمالا العام الجاري بنسبة 66 بالمئة مقارنة بالعام الماضي.
ومع ذلك، أفاد أحدث استطلاع قامت به "منظمة الباروميتر العربي" في أغسطس/آب الماضي بأن الرغبة في مغادرة تونس باتت الأعلى على الإطلاق؛ إذ قال 46 بالمئة ممن اُستطلع آراؤهم إنهم يفكرون في مغادرة البلاد.
وفي مقابلة مع DW، قال مايكل روبينز، مدير المنظمة، إن "الشباب التونسي بات قلقا حيال الوضع الاقتصادي والفساد. إنهم يخشون في المقام الأول من التضخم ونقص الوظائف".
تعرض الرئيس التونسي قيس سعيد لانتقادات بسبب ما اعتبرته منظمات حقوقية "حملات قمع" ضد المعارضين.صورة من: Fauque Nicolas/Images de Tunisie/ABACA/picture alliance
الاحتجاجات في تونس.. سيناريو 2011؟
وإزاء ذلك، طرح مراقبون تساؤلات حيال هل ستزداد وتيرة المظاهرات لتصل إلى الاحتجاجات التي شهدتها تونس عامي 2011 و2019؟
وفي تعليقه، قال رمضان بن عمر، المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إن العملية الانتخابية برمتها قد تصبح في موضع شك بسبب تجاهل حكم صدر من المحكمة الإدارية التي تعد أعلى هيئة قضائية.
وكانت الهيئة العليا للانتخابات قد رفضت تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بشأن طعون الترشيح. وقالت الهيئة إن القائمة النهائية لمرشحي الانتخابية تشمل العياشي زمال وزهير المغزاوي والرئيس الحالي قيس سعيد مع استبعاد ثلاثة مرشحين آخرين أمرت المحكمة الإدارية بإعادتهم للسباق الانتخابي.
وفي مقابلة مع DW، قال رمضان بن عمر إن الانتخابات المقبلة والنتيجة المتوقعة بفوز قيس سعيد يمكن الطعن فيها ليس فقط من قبل المتظاهرين وإنما أيضا من قبل المحكمة. وأضاف "يريدون إدخالنا في مسائل شكلية وتقنية بحتة. أعطت المحكمة الإدارية كلمة فصل وهذا يجعل المسار برمته مهدد بالنسف في أية لحظة".
ساهم في إعداد التقرير طارق القيزاني ـ تونس
أعده للعربية: محمد فرحان
أوروبا وبلدان شمال إفريقيا.. لعبة المصالح ومقايضة الهجرة بالمال
تحتاج دول الاتحاد الأوروبي لموافقة دول جنوب المتوسط من أجل وقف الأعداد القياسية للمهاجرين غير النظاميين. ولذلك سعت بروكسل لصفقات تبادل مصالح مع دول كمصر وتونس وموريتانيا، وتفاوض أخرى كالمغرب. اتفاقيات تعرضت لنقد شديد.
صورة من: Hasan Mrad/ZUMA Wire/IMAGO
رئيسة الحكومة الإيطالية تزور تونس للمرة الرابعة
تزور رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني تونس، للمرة الرابعة خلال عام. وتركز مرة أخرى على مكافحة الهجرة غير القانونية. وأكدت مصادر إيطالية قبل هذه الزيارة أن "التعاون في مجال الهجرة يظل جانبا أساسيا في العلاقة بين إيطاليا وتونس". وتأتي الزيارة قبل شهرين من الانتخابات الأوروبية التي تخاض في إطارها نقاشات ساخنة حول الهجرة.
صورة من: Slim Abid/AP/picture alliance
اتفاقية مع تونس
وكانت تونس وقعت في تموز/يوليو 2023 مذكرة تفاهم مع المفوضية الأوروبية لكبح موجات الهجرة المنطلقة من سواحلها وجرى تعميم الخطوة مع موريتانيا ومصر لاحقا. وأشارت رئيسة المفوضية الأوروبية، التي زارت تونس مع رئيسي وزراء إيطاليا وهولندا، إلى أهمية التعاون في مجال مكافحة عصابات تهريب البشر وإدارة الحدود والبحث والإنقاذ عبر تمويل بقيمة 100 مليون يورو هذا العام.
صورة من: Freek van den Bergh/ANP/picture alliance
ثلثا المهاجرين يصلون إيطاليا عبر تونس
ومن بين أكثر من 150 ألف مهاجر وصلوا إلى السواحل الإيطالية القريبة في 2023، انطلق قرابة ثلثي العدد من سواحل تونس وأغلبهم من سواحل صفاقس التي تضم الآلاف من مهاجري دول إفريقيا جنوب الصحراء، والحالمين بالوصول إلى دول التكتل الأوروبي الغني. وتوفي أكثر من 1300 مهاجر قبالة سواحل تونس عام 2023، أي ما يفوق نصف عدد الوفيات في البحر المتوسط، المصنف كأخطر الطرق البحرية للهجرة غير النظامية.
صورة من: Ferhi Belaid/AFP/Getty Images
اتفاقية مع مصر
رئيسة المفوضية الأوروبية زارت القاهرة أيضا، برفقة رؤساء حكومات بلجيكا وإيطاليا واليونان. ووقعت اتفاقية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بهدف إقامة شراكة مع السلطات المصرية لمساعدة هذا البلد الغارق في أزمة اقتصادية خطيرة، والذي يقع على حدود حربين في قطاع غزة والسودان، وحيث يوجد نحو 9 ملايين مهاجر ولاجئ - بما في ذلك أربعة ملايين سوداني و 1,5 مليون سوري - بحسب المنظمة الدولية للهجرة.
صورة من: Dati Bendo/dpa/EU Commission/picture alliance
مساعدات لموريتانيا مقابل التعاون في مجال الهجرة
كما وقعت موريتانيا مع بروكسل إعلانا للتعاون المشترك بينهما في مجال محاربة الهجرة غير النظامية يشتمل على نقاط متفرقة منها منع المهاجرين من التدفق نحو السواحل الأوروبية، وخاصة إسبانيا، وإعادة المهاجرين الموريتانيين غير النظاميين. والتعاون في مجال اللجوء، ومساعدة موريتانيا على إيواء طالبي اللجوء الأجانب على أراضيها مع احترام حقوقهم الأساسية. ولقي الاتفاق انتقادات واسعة في موريتانيا.
صورة من: BORJA PUIG DE LA BELLACASA/AFP
العبور من المغرب
يعتبر المغرب أحد أهم الوجهات للعبور إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أن الرباط تشدد رقابتها على المنفذين البريين في سبتة ومليلة، إضافة للعبور بحرا. واعترضت السلطات المغربية 87 ألف مهاجر حاولوا الانطلاق من المغرب إلى أوروبا في 2023، وأنقذت 22 ألف مهاجر تقطعت بهم السبل في البحر أثناء محاولة العبور.
صورة من: Bernat Armangue/AP Photo/picture alliance
تقارب إسباني مغربي
التقارب الأوروبي مع المغرب تدفع به خصوصا إسبانيا، التي أعلنت في مارس/آذار 2022 تأييد موقف المغرب فيما يتعلق بالصحراء الغربية. وزار رئيس الوزراء الإسباني سانشيز المغرب أكثر من مرة. وعملت الرباط ومدريد على توثيق التعاون في المجالات الاقتصادية والسياسية. واحتلت قضية الهجرة موقعا مهما في المحادثات.
صورة من: /AP Photo/picture alliance
سعي أوروبي لاتفاق قريب مع المغرب
هناك اتفاقيات ثنائية بين دول أوروبية والمغرب بخصوص الهجرة. ولكن هناك مفاوضات تجريها المفوضية الأوروبية مع الرباط، منذ سبع سنوات، ومن المقرر أن يتم التوقيع على الاتفاق نهاية 2024. التعاون مع المغرب ثمنه ليس ماليا، وإنما سياسي، بحسب مصادر أوروبية مطلعة، كما نقلت صحيفة "كرونه" النمساوية، حيث تشترط الرباط دعم بروكسل بخصوص الصحراء الغربية. وفي المقابل، يدعم المغرب السياسة الأوروبية المتعلقة باللاجئين.
صورة من: Abdelhak Senna/AFP/GettyImages
انتقادات حقوقية لهذه الاتفاقيات
انتقد نواب في البرلمان الأوروبي "الوضع الكارثي للديموقراطية وحقوق الإنسان في مصر". كما تعرضت مذكرة التفاهم مع تونس لانتقادات من قبل اليسار الذي يدين "استبداد" الرئيس التونسي سعيد، والانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون من جنوب الصحراء في بلده.
ودان المجلس الأوروبي للاجئين "الاتفاقات المبرمة مع الحكومات القمعية".
صورة من: Mahmud Turkia/AFP
تبقى ليبيا
ومع هذه الاتفاقيات المتتالية مع دول شمال إفريقيا للحد من الهجرة غير النظامية، تبقى دولة واحدة بمثابة العقدة أمام المنشار. حيث تستغل ميليشيات مسلحة في ليبيا الانقسام في البلد، لتحقق ثروات طائلة من خلال تهريب المهاجرين على قوارب مكتظة باتجاه اليونان وإيطاليا. وعجزت الجهود الأوروبية حتى الآن عن إيجاد حل للمعضلة، التي تفاقمت في يونيو/حزيران 2023 مع تسجيل واحد من أكبر حوادث غرق المهاجرين على الإطلاق.