غياب عربي لافت عن "قمة الديمقراطية" في واشنطن.. ما الدلالات؟
٣٠ مارس ٢٠٢٣على مدى يومين، تستضيف الحكومة الأمريكية "قمة الديمقراطية" والتي تناقش مجموعة متنوعة من الملفات الدولية الساخنة يناقش فيها قادة من جميع أنحاء العالم (120 دولة) بما فيها عدة دول إفريقية، سبل تعزيز الديمقراطية في العالم. كما يشارك المستشار الألماني أولاف شولتس في القمة عبر خدمة الفيديو.
وعلى أجندة القمة لهذا العام عدة ملفات هامة منها الشراكات الجديدة التي تعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وسيادة القانون والعدالة وبناء الثقة في المجتمعات والشفافية المالية والنزاهة وتعزيز العمل الجماعي والتحديات التي تواجه الديمقراطيات ووضع المرأة، إلى جانب الأزمة الأوكرانية وسبل إنهاء الغزو الروسي.
تعهدات جديدة
استهل الرئيس الأمريكي جو بايدن القمة بتعهد بلاده بإنفاق 690 مليون دولار لتعزيز برامج الديمقراطية في أنحاء العالم، وقال مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأمريكية إن إدارة بايدن تعتزم اغتنام فرصة القمة التي تستمر يومين بهدف التركيز على جعل "التكنولوجيا تعمل لصالح الديمقراطية وليس ضدها".
ويركز التمويل الجديد على البرامج التي تدعم وسائل الإعلام الحرة والمستقلة ومكافحة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان وتطوير التكنولوجيا التي تعمل على تحسين الديمقراطية ودعم انتخابات حرة ونزيهة، حسب المصدر نفسه.
يذكر أن "قمة الديمقراطية" تستضيفها الولايات المتحدة "لتجديد الديمقراطية في الداخل ومواجهة الأنظمة الاستبدادية في الخارج".
واستضافت الولايات المتحدة القمة الأولى(2021) بمفردها، وضمت هذه المرة 4 مضيفين مشاركين - كوستاريكا وهولندا وكوريا الجنوبية وزامبيا - بعد أن انتقد سفراء من الصين وروسيا القمة الأولى، واتهموا بايدن بإحداث انقسام عالمي بعقلية الحرب الباردة.
دلالات ضعف الحضور العربي
وفيما عدا العراق، تشهد القمة هذا العام ضعفاً في الحضور العربي وغياب متحدثين أساسيين منه، كما لم يتم اختيار أي دولة عربية ضمن الدول الأساسية المستضيفة للقمة، الأمر الذي قد يُعزى لعدة عوامل، منها تركيز الولايات المتحدة على الشؤون الداخلية، والتحديات التي تواجهها في العلاقات الدولية مع دول أخرى مثل روسيا والصين.
وبحسب محللين فإن هذا لا يعني بالضرورة تراجع أهمية الديمقراطية في السياسة الأمريكية بالعالم العربي. فالولايات المتحدة لا تزال تعتبر الديمقراطية وحقوق الإنسان جزءًا أساسيًا من سياستها الخارجية، ولكن قد يكون الانشغال بمسائل أخرى مؤقتًا يؤثر على حضورها في المنطقة، بحسب ما يشير خبراء.
ويرى البعض أن تراجع الحضور يأتي نتيجة لفشل تجارب "الربيع العربي" وعدم الاستقرار في بعض الدول العربية، وهو ما يجعل الولايات المتحدة تركز على الأولويات الأخرى مثل محاربة الإرهاب والتعاون الاقتصادي.
ويرى الدكتور طارق الكحلاوي، الناشط السياسي التونسي ومدير سابق للمعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية (في فترة حكم الرئيس الأسبق الدكتور منصف المرزوقي) أن سبب ضعف الحضور العربي هو "حالة الجفاف والجدب الديمقراطي في المنطقة العربية، وبالتالي من الطبيعي أن يكون الحضور العربي ضعيفاً في قمة معنية بالديمقراطية بمعنى أن تسجيل الغياب في هذه الحالة سيكون بديهياً".
وأضاف الكحلاوي في حوار هاتفي مع DW عربية من تونس أن هناك أيضاً "تراجع حتى في بعض الدول التي سجلت تقدماً في سجل الديمقراطية ومنها تونس .. وهناك تراجع عن عدد من المكاسب الديمقراطية. وهناك أيضاً ما يمكن اعتباره توتراً في العلاقة بين تونس والولايات المتحدة اتضح في زيارات المسؤولين الأمريكيين الأخيرة لتونس، منها نائبة وزير الخارجية منذ أسبوع، وكلها زيارات سجلت بشكل متواتر انتقادات تجاه تونس والرئيس قيس سعيد خاصة في مسائل الفصل بين السلطات والطريقة التي تمت بها الانتخابات ما يعتبره الأمريكيون تراجعا في التشاركية".
أما الدبلوماسي الأمريكي السابق الدكتور نبيل خوري فقال إن القمة هي تظاهرة سياسية لإدارة الرئيس بايدن ليقول إن الولايات المتحدة ستقود الحركة الديمقراطية في العالم وتدعمها كما أنها فرصة لتبادل الآراء، بما يشبه مؤتمر أكاديمي، فالافتتاحيات بالأمس لبعض الرؤساء المشاركين منهم الرئيس العراقي طبعا كانت خطابات سياسية.
وعن سبب ضعف الحضور العربي في القمة، قال خوري في حوار هاتفي مع DW عربية من واشنطن: "من الناحية الواقعية ليس هنالك ديمقراطية حقيقية في العالم العربي، ربما هنالك محاولات أو بدايات، لذا اعتقد أنه كان من الأفضل التركيز على المجتمع المدني. لأنه في العالم العربي - وإن لم تكن هنالك حكومات ديمقراطية بكل معنى الكلمة - هناك مجتمعات مدنية قوية ونشطة مثل المجتمع المدني المغربي واليمني".
وأعرب خوري عن اعتقاده بأنه كان من الضروري "تشجيع المجتمعات المدنية التي تسعى إلى دعم الديمقراطية ومساعدتها وأن هذا الأمر كان يجب أن يكون له الأولوية، وكذا مناقشة كيف يمكن للولايات المتحدة أو دول أخرى أن تساعد على تقوية المجتمعات المدنية، فإذا كان الهدف تشجيع الديمقراطية فأظن أنه كان من الأفضل التركيز بشكل أكبر على المجتمعات المدنية، وبهذه الحالة سيكون للعالم العربي حضور أكبر وأهم".
براغماتية أمريكية
وتشير تقارير وتحليلات مختلفة إلى أن تراجع دعم الولايات المتحدة للديمقراطية في العالم العربي سببه الأساسي هو النهج البراغماتي، لأن الولايات المتحدة يبدو أنها أقرت بالأمر الواقع وقررت التعامل مع هذه الأنظمة العربية، على الرغم من أن دعم الديمقراطية ومواجهة الديكتاتوريات حول العالم كانت في صميم الحملة الانتخابية للرئيس بايدن.
في هذا السياق يقول طارق الكحلاوي إن السياسة الأمريكية عموماً لم تكن مسألة دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان من أولوياتها على المستوى العملي والفعلي لكن المسألة الديمقراطية طبعاً على مستوى الخطاب الأمريكي الرسمي هي مسألة مركزية، وحتى في الربيع العربي في 2011 كانت تتعامل ببراغماتية كبيرة حينها.
وأضاف أنه "حتى حينما رفعت الغطاء عن بعض الأنظمة الاستبدادية وبعض الرؤساء المعروفون بسياستها الاستبدادية مثل الرئيسين الراحلين، التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك كان ذلك تحت ضغط الشارع شديد القوة، وحتى داخل الإدارة الأمريكية كان هناك اختلافات في وجهات النظر وهو ما حدث في إدارة أوباما مثلاً حول كيفية التعامل مع تلك الحالات، فبالتأكيد الجانب الجيوسياسي، ومسألة الخوف من ترك فراغات، وأن تعلب روسيا والصين أدواراً متقدمة في المنطقة العربية هي عامل رئيسي أهم من مسألة الديمقراطية بخصوص تعامل الولايات المتحدة مع المنطقة."
تأثيرات حرب أوكرانيا على الدعم الأمريكي للديمقراطية
وفيما يتعلق بتأثير حرب أوكرانيا على توجهات السياسة الأمريكية في العالم العربي ولاسيما في ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، فرغم أن هذا الأمر قد لا يكون له تأثير مباشر إلا أن النزاع الروسي الأوكراني قد يؤثر على أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
إذ من المهم ملاحظة أن الولايات المتحدة تعمل على مواجهة التحديات في السياسة الخارجية بشكل شامل، وقد تؤثر الأحداث في مختلف أنحاء العالم على أولوياتها وتركيزها في المنطقة، خاصة وأن السياسة الخارجية الأمريكية تتأثر بالعديد من العوامل، وليس هناك عامل واحد يؤثر على توجهاتها بشكل حصري.
في هذا الصدد، يعتقد الدبلوماسي الأمريكي السابق الدكتور نبيل خوري من واشنطن أن انهماك الولايات المتحدة ودول أوروبا و أعضاء الناتو في الحرب في أوكرانيا يكلف الكثير من الجهود والأموال، وهذا يتسبب في تحول مصادر مساعدة الديمقراطية إلى مساعدة أوكرانيا ضد روسيا، وبالتالي فرغم أن إدارة بايدن تريد دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان لكن البراغماتية والواقعية تفرض أمراً آخر فالولايات المتحدة تريد أن تؤمن مصالحها الأمنية والاقتصادية وعلاقتها مع دول الخليج، أكبر مثال على ذلك.
ويقول خوري إن "هذا التناقض أو التجاذب ما بين مصلحتين، ولكن هل تتغلب المصلحة الاقتصادية والمصلحة الأمنية كما في أوكرانيا على مصلحة مساندة الديمقراطية؟ هذا تحد كبير لإدارة بايدن، ولا أظن أنهم يعرفون الجواب عن هذا السؤال".
من جانبه، قال المدير التنفيذي لمكتب مؤسسات المجتمع المفتوح في الولايات المتحدة والعضو الديمقراطي السابق في الكونغرس توماس بيرييلو: "هناك انقسامٌ أساسي في الوقت الحالي بين القادة الذين يحكمون بلدانهم بقمعيةٍ وسلطوية مقابل أولئك الذين يسيرون في اتجاه أكثر انفتاحاً وديمقراطية". ويضيف أنه في حال جرت القمة بالشكل الصحيح، يمكنها أن تكون بمثابة "ثقل موازن" لصعود الأنظمة الاستبدادية، بحيث تساعد الديمقراطيات الناشئة على تبادل الخبرات فيما بينها".
تحديات تواجه دعم الديمقراطية في العالم العربي
ويعتقد طارق الكحلاوي أن أهم التحديات التي واجهت الولايات المتحدة في السنوات الماضية هي تجربة الانتقال الديمقراطي والتي مرت بصعوبات كبرى في عدة دول، "فعلى المستوى المحلي هناك عوامل معقدة ومركبة صعبت الانتقال الديمقراطي، وهو ما يطرح تحديات على أي تجربة. إضافة إلى ذلك، هناك العوامل الخارجية والوضع الدولي المضطرب وتدخل الكثير من القوى في المنطقة، وهو ما يجعل الوضع الجيوسياسي ومسألة الهيمنة ذات أولوية ومقدمة على طبيعة الحكم ومسألة الحوكمة وطريقة الحكم بين استبدادي وديمقراطي".
أما الدبلوماسي الأمريكي السابق الدكتور نبيل خوري فيرى أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه الولايات المتحدة لدعم الديمقراطية في العالم العربي هو المصلحة الأمنية والاقتصادية، "فمثلاً تعتبر المملكة العربية السعودية ذات أهمية كبرى بسبب النفط والاستثمارات وأيضاً هنالك المسألة الأمنية فأمريكا ما زالت تدخل في تحالفات لتكون جاهزة فيما لو وقعت حرب مع إيران مثلاً. وفي الوقت نفسه تتنافس الولايات المتحدة اليوم مع روسيا والصين وتركيا بشأن النفوذ في منطقة الشرق الأوسط الكبرى. ولذلك فإن هذا يتناقض مع محاولة دفع الديمقراطية".
وأضاف خوري أنه ليس هناك زيادة في ميزانية مساعدات المجتمع المدني العربي، لأن هذا سيقوض العلاقات مع عدد مهم من الدول العربية. فمصر مثلاً يوجد فيها حكم عسكري ولا تسمح للمجتمع المدني أن يتلقى أي مساعدات من الخارج، فهذا تناقض واضح ومعادلة صعبة نوعا ما.
وتابع: "السؤال البارز هنا: هل يجب التوفيق بين المصالح الأمنية والمصالح الاقتصادية مع القيم الديمقراطية؟ أم هل يتم التغاضي عن أحد هذه المتناقضات؟ أنا أظن أن هذا التحدي هو نفسه التحدي الذي كان موجوداً أمام إدارة الرئيس أوباما عندما كان بايدن نائب الرئيس ولم تحل هذه المعضلة في أيام أوباما ولا أظن أنها ستحل اليوم أيضاً".
تباين الأولويات الأمريكية
ويرى البعض أن أولويات الولايات المتحدة في التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان قد اختلفت، ففي أوقات سابقة كانت بعض الضغوط الأمريكية تمارس من حين إلى آخر على بعض الدول بخصوص الإفراج عن شخصيات معينة وبارزة لكن هذا الأمر يبدو أنه لم يعد يحدث الآن.
يقول طارق الكحلاوي إن الولايات المتحدة بالرغم من أنها توجه انتقادات في بعض الأحيان بشأن الحريات والديمقراطية، إلا أنها مثلاً في الحالة التونسية تبدو المسائل الاقتصادية والاستقرار والهجرة غير المنظمة والتعاون الأمني العسكري هي التي تطغى على اهتمام الولايات المتحدة من الناحية العملية والفعلية.
واستدرك السياسي التونسي قائلاً إن هذا لا يعني أنها لا توجه هذه الرسائل في اتجاه مسائل الحريات، "فمثلاً انخفضت المساعدات الأمريكية لتونس إلى النصف تقريبا بسبب الوضع السياسي، لكن المساعدات لا تمثل أهمية كبيرة جدا مقارنة مثلا باتفاق صندوق النقد والذي يلعب دورا مركزيا، نعم يمكن اعتبار أن الولايات المتحدة غيرت بشكل جذري سياستها، لكنها واصلت دعم تونس بالرغم من ذلك، والمسألة الأساسية بالنسبة لها ليست مسألة الديمقراطية والتي تحتل الآن ترتيباً متراجعاً".
ويرى خبراء ومحللون أن الولايات المتحدة لم تجعل الدفاع عن الديمقراطية في الخارج أولوية رئيسية في السياسة الخارجية، وهو قرار محير بالنظر إلى أن بايدن وصف الصراع بين الديمقراطية والاستبداد بأنه "التحدي الحاسم في عصرنا"، وأكد مراراً على ضرورة الحفاظ على الديمقراطية في الداخل والخارج.
ومنذ توليه منصبه، دافع بايدن عن حقوق التصويت وعمل على تقوية المؤسسات الديمقراطية داخل الولايات المتحدة. لكن نهج إدارته في الدفاع عن الديمقراطية خارج حدود الولايات المتحدة كان أقل قوة بكثير.
ويلوم مراقبون وحقوقيون على الرئيس الأمريكي الحالي ابتعاد إدارته عن مواجهة تراجع الديمقراطية في عدة دول حول العالم مثل تركيا والمجر، كما شهد الدور الأمريكي تراجعا في مواجهة ديكتاتوريات الشرق الأوسط والخليج وحتى في دول آسيوية مثل ميانمار التي تعيش تحت وطأة انقلاب عسكري.
السير نحو الديكتاتورية؟
ويشير تقرير جديد صادر عن معهد الأبحاث Variety of Democracy إلى أن 72 بالمائة من سكان العالم يعيشون الآن في أنظمة استبدادية، ارتفاعًا من 46 بالمائة في عام 2012، وأعلنت مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية مؤخراً أن عام 2022 هو العام السابع عشر على التوالي لانحدار الديمقراطية العالمية.
وقد سعت القمة الأولى من أجل الديمقراطية، التي عُقدت في ديسمبر/كانون الأول 2021، إلى تحفيز الدول الديمقراطية للعمل من أجل النهوض بالديمقراطية داخل حدودها. لكن الولايات المتحدة لم تبني آلية مراقبة مصاحبة لقرارات القمة، ما جعل من الصعب تتبع تقدم الدول فيما يتعلق بالالتزامات التي قطعتها على نفسها.
عماد حسن